:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الأربعاء، يونيو 29، 2005

أساطير إيسوب

توظيف الحكاية أو الأسطورة لإيصال فكرة أو عبرة أو درس ما أسلوب أدبيّ قديم. وأهميّة هذا النوع من السرد القصصي انه يحاول غرس قيمة أخلاقية أو التأكيد على واجب اجتماعي أو حقيقة سياسية. وهو في المحصّلة النهائية تمثيل للنوازع الإنسانية بغية تحسين السلوك وتهذيب الأخلاق من خلال وضع الكلام على ألسنة الحيوانات والطيور وأشجار الغابة.. إلى آخره.
ويقال إن مؤلّف كتاب كليلة ودمنة قصد من وراء تأليف كتابه المشهور أن يتوجّه بالنصح إلى الملك فأجرى نصائحه على ألسنة الحيوانات والطيور. وهو أسلوب رمزي بارع رمى من ورائه إلى تجنّب ما يمكن أن تجرّه عليه النصائح المباشرة والصريحة من متاعب ومشاكل مع الحكّام والولاة.
ويعتبر ايسوب الإغريقي رائد هذا النوع من القصص الخيالية بلا منازع. ولا يُعرف الكثير عن حياة هذا الفيلسوف الكبير. لكنّ المؤرخين متفّقون على انه ولد عبدا، لكنه استردّ حرّيته فيما بعد واستطاع أن يحوز الكثير من الشهرة والصيت بفضل أساطيره الفلسفية المعبّرة. وقد سافر إلى العديد من البلدان حتى انتهى به المطاف ضيفا على بلاط ملك ليديا الذي رعاه واحتضنه بعد أن توسّم فيه الكثير من إمارات النجابة والذكاء.
الحكايات التي أدرجها ايسوب كتابه الشهير أساطير ايسوب تنطوي على مضامين وإسقاطات عميقة وعبر ودروس نافعة ومفيدة.
في حكاية الحمار وجلد الأسد، مثلا، يروي الكاتب أن حمارا وجد ذات يوم جلد أسد كان بعض الصيّادين قد تركوه في العراء حتى يجفّ. فقام الحمار بارتدائه ومضى باتجاه قريته. وكان كلّ من يراه يفرّ هاربا من طريقه سواءً أكان إنسانا أم حيوانا. وقد شعر الحمار في ذلك اليوم المشهود بالكثير من الفخر والاعتزاز. وفي غمرة سروره وابتهاجه نسي نفسه ورفع صوته بالنهيق فجأة. وعندها عرف الجميع حقيقته. فتوجّه إليه صاحبه على عجل وألهب ظهره بالسياط عقابا له على الفوضى التي أحدثها والذعر الذي بثّه في قلوب الأهالي. وبعد ذلك اقترب منه ثعلب وقال له وهو يبتسم: لقد عرفتك من صوتك! والعبرة في الحكاية هي أن المظهر الجميل قد يخفي شخصية صاحبه، لكن سرعان ما تشي به كلماته ويفضحه منطقه.
أما حكاية الرجل والغابة فتتحدّث عن رجل قصد الغابة صبيحة أحد الأيام وهو يحمل بيده فأسا، وتوسّل إلى جميع الأشجار أن تعطيه غصنا صغيرا كان يريده لغرض ما. ولأن الأشجار طيّبة ومعطاءة فقد وهبته ما طلب. ولم يفعل الرجل اكثر من أنه عمد إلى إدخال الغصن في طرف رأس الفأس لتثبيته وبعد ذلك اعمل فأسه في الأشجار تقطيعا وتشويها. وعندها أدركت الأشجار كم كانت غبيّة عندما أعطت عدوّها أداة استخدمها في قتلها وتدميرها.
وفي حكاية الثعلب ذي الذيل المقطوع يحكي ايسوب قصّة ثعلب وقع ذيله في شرك. وبينما كان يجاهد محاولا تخليص نفسه انقطع ذيله فجأة. في البداية أحسّ بالخجل عندما تخيّل نفسه بين رفاقه وهو على تلك الهيئة المزرية. لكنه أخيرا عزم على التعامل مع المشكلة بشجاعة، إذ لعلّ ذلك يعينه على مواجهة سوء حظه. فاستدعى الثعالب إلى اجتماع عام لتدارس اقتراح كان ينوي تقديمه لهم. وعندما اجتمعوا اقترح عليهم أن يتخلّصوا جميعا من ذيولهم، معدّدا المخاطر الكثيرة التي يمكن أن يجلبها وجود الذيول في أجسامهم، وركّز في كلامه على أن الذيل لا يشعر صاحبه بالراحة خاصّةً عندما يتعقّبه عدوّ عنيد كالكلب مثلا. وهنا أبدى رفاقه رغبتهم في عقد لقاءات تشاورية بين بعضهم البعض لتدارس الفكرة. بعد ذلك برز من بين المجتمعين ثعلب خبيث وقال لصاحب الذيل المقطوع: لا اعتقد انك كنت ستوصينا بالتخلّص من هذا العضو الذي هو مصدر زينتنا الوحيد لو انك لم تفقد ذيلك! ولهذا قيل: انعدام الثقة يولّد النصيحة.
وفي حكاية الأسد العاشق يروي ايسوب حكاية الأسد الذي وقع في حبّ لبوة جميلة وشابّة وعرض على والديها الزواج منها. واحتار الأبوان العجوزان كيف يردّان على فكرة الأسد. فلم يكونا يرغبان في تزويج ابنتهما له، لكنهما بنفس الوقت لا يريدان إغضاب ملك السباع. وأخيرا قال الأب للأسد: إننا نشعر بالشرف العظيم الذي خلعه علينا جلالتك عندما طلبت أن تناسبنا. لكنك تعرف أن ابنتنا ما تزال صغيرة جدّا على الزواج ونخشى إن سيطر عليك الهياج واستبدّت بك العاطفة أن تجرح جسدها الغضّ. لذا أرجو أن يسمح لي جلالتك بأن اقترح عليك أن تنزع مخالبك وتخلع أسنانك من باب الحيطة والحذر وعندها قد ننظر جدّيا في طلبك. ولأن الأسد كان واقعا في الحبّ حتى أذنيه فقد نفّذ ما طلب منه دون إبطاء وعلى الوجه الأكمل. لكن عندما عاد مرّة أخرى إلى والدي اللبوة كان ردّ فعلهما ببساطة أن ضحكا عليه وسخرا منه، بل وتحدّياه أن ينتقم منهما على ما فعلاه به. ومن هنا قيل: الحبّ قد يروّض أقسى الوحوش.
وتستعرض حكاية أخرى قصّة نزاع شديد كان على وشك الوقوع بين الطيور والسباع. وعندما كان الطرفان يحشدان جيشيهما تردّد الخفاش واحتار إلى أيّ الفريقين ينضم.الطيور التي مرّت على وكره قالت: تعال معنا، لكنه قال لها: أنا سبع. والسباع التي مرّت من تحته قالت له: تعال معنا، ولكنه قال لها: أنا طير. ولحسن الحظ عُقدت بين الطرفين اتفاقية سلام في اللحظة الأخيرة ولم تقع الحرب. لذا ذهب الخفّاش إلى الطيور ليشارك في احتفالاتهم لكنهم جميعا اعترضوا طريقه وصدّوه فاضطر للطيران بعيدا.ثم ذهب إلى السباع، لكنه سرعان ما رُدّ على عقبيه بعد أن رأى في عيونهم نيّة مبيّتة لقتله والتخلّص منه. وهنا قال الخفاش لنفسه: المحايد ليس له أصدقاء.
وفي حكاية الفأر والقط والديك، أن فأرا لم يكن قد رأى الكثير من هذا العالم عاد في أحد الأيّام إلى البيت وقال: يا أمّي، لقد رأيت اليوم ما أخافني وأرعبني. رأيت مخلوقا عظيم الجسم يمشي على ساقين باختيال، على رأسه طاقية حمراء وله عينان تتلمظان وفم حادّ وكان يطيل التحديق فيّ. وفجأة مدّ عنقه الطويل وفتح فمه كأوسع ما يكون، وأطلق زئيرا مخيفا حتى ظننت انه سيلتهمني. فأطلقت ساقيّ للريح وعدت إلى البيت طلبا للأمان. لكنني اشعر بالندم لأنني كنت قد رأيت قبل ذلك حيوانا ودودا اكبر منه بقليل وكنا الاثنين على وشك أن نصبح أصدقاء. كان له فراء ناعم يشبه فراءنا، إلا أن لونه بنّي وأبيض وكانت عيناه جميلتين. وبدت نظراته إليّ في منتهى الرقة والحنان بينما كان يحرّك ذيله الطويل يمنة ويسرة. وقدّرت انه كان يريد التحدّث إليّ لولا أن ذلك الشيء المخيف بدأ يزأر فهربت. وهنا ردّت عليه الأم قائلة: لقد أحسنت عندما هربت يا صغيري العزيز. فالشيء المخيف الذي أرعبك زئيره لم يكن ليؤذيك على الإطلاق لانه كان ديكا مسالما. لكن الآخر الجميل الناعم كان قطّا، وكان سيلتهمك في دقيقة لأنه أسوأ عدوّ لك ولأهلك في هذا العالم..
ثم يسرد ايسوب حكاية مجموعة من الضفادع التي كانت تعيش معا في بحيرة هادئة. كانت حياتهم مريحة، لكنهم كانوا يعتقدون بأنهم سيصبحون أكثر سعادة لو أن لهم ملكا يحكمهم. لذا طلبوا من الإله جوبيتر أن يمنّ عليهم بملك. ضحك الإله في البداية من غبائهم لأنه كان يدرك انهم سيكونون اسعد حالا دون ملك. لكنه أمام إصرارهم قال لهم أخيرا: تفضّلوا خذوا هذا الملك. ثم ألقى في الماء بجذع شجرة ضخم. وعندما ارتطم الجذع بالبحيرة أحدث دويّا هائلا، الأمر الذي أرعب الضفادع ودفعها إلى الاختباء بسرعة والاحتماء بالوحل. وبعد قليل خرج ضفدع شجاع لينظر إلى الملك. فرأى الجذع الضخم الذي كان قد استقرّ على سطح البحيرة. وبسرعة خرج الباقون من مخابئهم ليلقوا نظرة على الملك الموعود. وعندما رأوا الجذع ساكنا لا يتحرّك سبحوا حوله ثم ركبوا فوقه الواحد تلو الآخر. وهنا قال ضفدع عجوز: هذا ليس ملكا، انه مجرّد خشبة رديئة. ومرّة أخرى لجئوا إلى الإله جوبيتر متوسّلين إليه أن يرسل لهم ملكا حقيقيا ليحكمهم. ولأن جوبيتر كان منزعجا بما فيه الكفاية من طلب تلك الضفادع الغبّية فقد عزم على أن يبعث إليهم هذه المرّة بطائر يقال له اللقلاق وقال لهم: ستتمكّنون الآن من رؤية الملك الذي سيحكمكم. وعندما رأت الضفادع اللقلاق وهو يمشي بوقار فوق سطح البحيرة قادما إليهم شعروا بالسرور والابتهاج. وقال كل منهم لصاحبه: آه هذا هو الملك. انظروا إلى جلاله وعظمته وتأمّلوا مشيته الفخمة والواثقة. هذا ملك بالفعل وهو الذي سيحكمنا. وذهبوا لمقابلته وهم في غاية الانشراح والسرور. لكن ما أن اقترب منهم الملك الجديد حتى توقف قليلا وفرد عنقه الطويل. وفي لمح البصر التقط بمنقاره الحادّ زعيم الضفادع والتهمه في الحال. ثم التقط الذي يليه والتهمه ثم الذي يليه.. وهكذا. صاحت الضفادع في صوت واحد وهي تتراجع إلى الوراء مرعوبة من أثر الصدمة.لكن اللقلاق لم يأبه لصراخهم. وبفضل قائميه الطويلين تتبّعهم في الماء بسهولة واستمرّ في التهامهم الواحد بعد الآخر وبأسرع ما يستطيع. هنا قال أكبرهم سنّا: آه لو كنا … كان يريد أن يقول: "قانعين" ، لكنه لم يتمكّن من لفظها، إذ سرعان ما التهمه "الملك" قبل أن يتمّ جملته. وهرعت الضفادع المتبقّية إلى جوبيتر تتوسّل إليه أن يهُبّ لمساعدتها ونجدتها لكنه لم يستمع لها. فكان اللقلاق الملك يأكلهم في فطوره وغدائه وعشائه كلّ يوم. وبعد وقت قصير لم يبق في البحيرة ضفدع واحد.
وفي حكاية الذئب والعنزة، أن ذئبا رأى عنزة ترعى على حافة جرف مائل. وبما انه لا يستطيع الوصول إليها فقد خاطبها بقوله: صديقتي العزيزة، كوني حذرة لأنني أخشى أن تسقطي من هناك فينكسر عنقك. لماذا لا تنزلي إلى المرج إلى هنا حيث العشب طازج واخضر؟ ردّت العنزة: هل أنت جائع؟ أم حان وقت غدائك؟ اعتقد أنني لن انزل إلى المرج اليوم، فشكرا لك على النصيحة. ثم درجت العنزة على حافّة الصخرة وهي تنظر إلى الأسفل بحذر إلى حيث ينتظر الذئب الجشع.
والحقيقة أن كلّ حكاية في هذا الكتاب لها معنى وتحمل دلالة ومغزى. ولعلّه من المناسب أن اختم الموضوع بحكاية الأسد المريض. إذ ُيحكى انه في قديم الزمان كان هناك أسد هرم يصارع الموت على باب كهفه بعد أن تكالبت عليه الأمراض. وقد قصده رعاياه من الحيوانات والتفوا حوله بينما كان يأسه من الحياة يزداد يوما بعد يوم. وعندما تيقّنوا من أنه أصبح قاب قوسين أو أدنى من الموت قالوا لأنفسهم: الآن جاء وقت الحساب وتصفية الأحقاد القديمة. لذا اتّجه الخنزير صوب الأسد وعضّه عضّة قوية. ثم قام الثور ونطحه بقرنيه نطحة مؤلمة. كلّ هذا والأسد ممدّد أمامهم لا يقوى على الحراك، ناهيك عن أن يحاول الدفاع عن نفسه. وهنا وقف الحمار وهو يحسّ أنه بمأمن من أيّ خطر وأدار ذيله ناحية الأسد ثم وجّه إلى وجهه رفسةً قويّة من حافره. وعندها قال الأسد بصوت واهن متذمّر: هذا موت مزدوج. ومن هنا قيل: الجبناء وحدهم هم من يهينون العظماء في لحظات ضعفهم.