:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الجمعة، مايو 12، 2006

شذى الأندلس

ازدانت البيئة الأندلسية بعدد غير قليل من النساء الشاعرات اللائي اسهمن في إثراء الأدب الأندلسي بألوان طريفة من موضوعات الشعر ومقطوعات القصيد.
ويرى د. مصطفى الشكعة أن ما تركته شاعرات الأندلس من اثر لا ُيمحى في مسيرة الشعر هناك يعد أمرا بيّنا، وليس أدلّ على ذلك من أنّهن فرضن وجودهن فرضا على موكب الشعر في الأندلس فكنّ فيه كأزهار الشقائق بلونها الزاهي الأرجواني تشرئب مميّزةً مختالة وسط بساط الاقاح الذي يغطي السهول ويوشّي السفوح مع إطلالة الربيع.
وقد تمتّعت المرأة في مجتمع الأندلس بكامل حرّيتها في بيئة جديدة لم ترتبط تقاليدها بأثقال وقيود كتلك التي ارتبطت بها بيئة المشرق.
ومن هنا شاركت المرأة في كل فنون الشعر وأبوابه فكانت تتغزّل في الرجل تماما كما يتغزّل الرجل فيها وكانت تلحّ في إغرائه وتصف محاسنها وتذهب إليه زائرة تطرق بابه وتنادمه.

فأميرة المريّة مثلا كانت تقول غزلا رقيقا لكنه جرئ تقوله في فتى .. لكنها هنا اكثر جرأة وأعلى صوتا:
ألا ليت شعري هل سبيل لخلوة
ُينزّه عنها سمـع كل مراقـب
ويا عجبا اشتاق خلـوة من غدا
ومثواه ما بين الحشا والترائب!
ولم يكن الفتى الذي اخرج الأميرة أمّ الكرم عن أناتها وكتمانها واحتشامها سوى فتى من فتيان قصر أبيها عرف بالسمّار، وهاهي تصف جناية الحب وما فعله بها:
يا معشر الناس ألا فاعجبوا
مما جنتـه لوعـة الحـبّ
لولاه لم ينزل ببـدر الدجى
من افقه العلــوي للتُربِ
حسبي بمن أهواه لو انــه
فارقني تابعـــه قلبـي!

وهذه نزهون الغرناطية تطمئن الوزير أبا بكر بن سعيد على مكانته من قلبها، وكان بينهما روابط عشق، وتؤكد له انه الحبيب المقدّم الذي يحتل مكان الصدارة من ودّها ومشاعرها:
حللــت أبا بـكر محـلا منعتـه
سواك وهل غير الحبيب له صدري
وإن كان لي كم من حبيـب فإنـما
يقـدّم أهل الحق حـبّ أبي بكر!

أما ولادة فكانت مالئة الدنيا وشاغلة الناس، وكانت أخبارها مثيرة في حياتها كما كانت أشعارها أثيرة لدى الناس، فقد روى كثرة من مؤرّخي عصرها أنها كتبت بالذهب على عاتقها الأيمن:
أنا والله أصلــح للمعــالي
وامشي مشيتي وأتيـه تيــها
وكتبت على العاتق الأيسر:
وُأمكِنُ عاشقي من صحن خدّي
وأعطي قبلـتي من يشتهيـها!

وهاهي ولادة تهيم بالشاعر الملهم بن زيدون فتكتب إليه:
ترقب إذا ُجنّ الظــــلام زيارتي
فإني رأيتُ الليـل اكتــمَ للســرّ
وبي منك ما لو كان بالشمس لم تلحْ
وبالبدر لم يطلع وبالليــل لم يسرِ!
ويقول بن زيدون بعد لقاء ولادة:
ودّع الصبر محبّ ودعــك
ذائع من سرّه ما استودعـك
يا أخا البــدر سنـاءً وسناً
حفظ الله زمـانا أطلــعـك
إن يطــل بعدك ليلي فلكم
بتّ أشكو قصر الليل معـك!

وتكثر اللقاءات بين العاشقين وتجري بينهما أسمار يتخللها عزف جوار وغناء قيان. وكان منتدى ولادة عامراً بالشعر والموسيقى والغناء، وكان لها جارية سوداء عذبة الصوت. ويبدو أن بن زيدون استحسن غناءها فأخذ يلتمس منها إعادة اللحن، وهنا تتحرّك غيرة المرأة المحبّة في خاطر الشاعرة الأميرة فتنشئ أبياتا تدافع فيها عن جمالها وكبريائها:
لو كنت تنصـف في الهـوى
لم تهوَ جاريتي ولم تتخيّــرِِ
وتركتَ غصنا مثمرا بجمـاله
وجنحتَ للغصن الذي لم يثـمرِ
ولقد علمتَ بأنني بدر الـدجى
لكن ُدهيتُ لشقوتي بالمشتري!

ثم تقول شاكية فراق صاحبها بن زيدون وقد غاب عنها بعض الوقت:
ألا هل لنا من بعد هذا التفــرّق
سبيل فيشكو كل صبّ بما لقــي
وقد كنتُ أوقات التزاور في الشتا
أبيتُ على جمر من الشوق محرقِِ
تمرّ الليالي لا أرى البين ينقضـي
ولا الصبر من رقّ التشوّق معتقي
سقى الله أرضا قد غدت لك منزلا
بكل سكوب هاطل الوبـل مغدقِِ!


أما مهجة القرطبية فرغم جودة شعرها إلا أنها كانت من الخلاعة في القول والفحش في الشعر ما جعلها تذهب في تعبيراتها مذاهب تنال من عفة قائلتها وتخدش حياء سامعها، وليس في ما هو متوفّر من شعرها ما يصلح للنشر غير هذين البيتين:
لئن حلأت عن ثغرها كل قائـم
فما زال يحمي عن مطالبه الثغرُ
فذلك تحميه القواضــب والقنا
وهذا حماه من لواحظها السحرُ!

وفحش القول عند مهجة لم يكن قصرا على الغزل أو الهجاء بل كان يجري على لسانها سليقةً وطبيعة.
أهدى إليها صديق خوخاً وكان متوقّعا منها أن تقول تعليقا عذبا ورقيقا لتلك الفاكهة اللذيذة فضلا عن كلمة شكر لصاحب الهدية، وفعلا قالت في أول أبياتها:
يا متحفاً بالخوخ أحبابـه
أهلا به من مثلج للصدور

ورغم رقّة البيت إلا أن البيت الذي يليه يلطم المشاعر ويخدش الحياء من وقاحة تشبيهه وبذاءة معانيه!

وهذه حفصة الركونية تعبّر للوزير الوسيم أبي جعفر عن ولعها به ونهمها إلى حبّ يدفع بها إلى الغيرة ثم ينتقل بها من مرحلة الغيرة إلى مرحلة الأثرة والأنانية:
أغار عليك من عيني رقيبي
ومنك ومن زمانك والمكـان
ولو أني وضعتك في عيوني
إلى يوم القيامة ما كفانــي!

وفي حبّ أبي جعفر هذا تفقد حفصة دلال المرأة وكبرياءها، فالمرأة مهما لجّ بها العشق والصبابة فإنه يجمل بها أن تكون المطلوبة لا الطالبة والمعشوقة لا العاشقة، لكن حفصة تضرب بذلك كله عرض الحائط ويستبد بها العشق إلى صاحبها وربما لم يكن مضى على فراقهما وقت طويل فتبعث إليه بهذه الأبيات:
أزورك أم تــزور فإن قلبي
إلى ما تشتهي أبـدا يميــل
وقد ُامّنت أن تظمى وتضحى
إذا وافى إليّ بـك القبــول
فثغـري مورد عـذب زلال
وفـرع ذؤابتـي ظلّ ظليـلُ
فعجّل بالجـواب فما جميـل
أناتك عن "بثينة" يا "جميـل"!

على أن حفصة في أبياتها الجميلة السابقة قد وضعت معشوقها في موضع التخيير "أزورك أم تزور"، ولكنها هذه المرة لا تفعل ذلك وإنما تذهب إليه بنفسها مقتحمة وتطرق بابه في جرأة وتبعث إليه ببطاقة كتبت عليها شعرا يتدفق إثارةً وتحريضاً:
زائــر قد أتى بجيد الغزالِ
مطلع تحـت جنحـه للهلالِ
بلحاظ من سحر بابل صيغت
ورضاب يفوق نبت الدوالـي
يفضح الورد ما حوى منه خدّ
وكذا الثغـر فاضــح للآلي
ما ترى في دخــوله بعدَ إذنِ
أو تراه لعارض في انفصالِ؟!

إن الشاعرة العاشقة جريئة في طرق باب معشوقها والسعي إليه وهي مثيرة محرّضة في أبياتها تلك التي تصف فيها نفسها مبديةً مفاتنها مفصّلةً محاسنها وهي مع ذلك كله مهذّبة متذلّلة في طلب الأذن بالدخول.
فأيّ نوع من الشعراء كان هذا الوزير المطارَد؟
لقد كان إنسانا هادئا شاعرا متّزنا، فلنستمع إليه يقصّ قصّة ذهاب حفصة إليه وطرقها بابه وظروف انشغاله آنئذ وكيف تلقاها واستقبلها..

يقول أبو جعفر:
اقسم ما رأيتُ ولا سمعتُ مثل حفصة، ومن بعض ما اجعله دليلا على تصديق عزمي وبرّ قسمي أني كنتُ يوما في منزلي مع من يجب أن يخلى معه من الاجواد الكرام، وإذا بالباب يضرب فخرجت جارية تنظر من الطارق فوجدت امرأة فقالت لها: ما تريدين، فقالت: ادفعي إلى سيّدك هذه الرقعة، فجاءت برقعة فيها:
زائر قد أتى بجيد الغزال – الأبيات
فعلمتُ أنها حفصة وقمت للباب وقابلتها بما يقابل به من يشفع له حسنه وآدابه والغرام به وتفضّله بالزيارة..

وكان أبو جعفر على حبّه الشديد لحفصة في نهاية من الاتزان قولا وسلوكا، وكانت هي في منتهى الرعونة قولا وسلوكا. إن غزلها بالرجل فاق غزل كل الرجال بالنساء، وأيّ شاعرة أنثى تفوق حفصة في قولها هذا في الغزل:
ثنائـي على تلك الثنــايا لأنني
أقول على علـم وانطق عن خبرِ
وانصفـها لا اكذب الله إننــي
رشفتُ بها ريقا أرقّ من الخمرِ!

لقد كان أبو جعفر ملكا يجلس على عرش قلب حفصة، وكان هناك ملك آخر يجلس على عرش الحكم ويطمع في عرش ذلك القلب فلم يفلح في أحلامه، فلم يكن يملك مؤهّلات تمهر قلب الشاعرة، فاستغل سلطانه وأزاح منافسه من أمامه قتلا. وهناك بيتان لحفصة ُيعتقد على نطاق واسع انهما ما صدرا عنها إلا رثاءً للوزير الشاعر الرقيق العاشق المعشوق:
ولو لم تكن نجما لما كان ناظري
وقد غبت عنه مظلما بعـد نورهِ
سلام على تلك المحاسن من شجِّ
تناءت بنعماه وطيب سـرورهِ