:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الجمعة، أغسطس 10، 2007

سفينة نوح


في القرآن الكريم بضع إشارات عابرة إلى قصّة الطوفان دون توسّع في شرح تفاصيلها وملابساتها. وبالمقابل، يورد كتاب العهد القديم معلومات تفصيلية ومستفيضة عن القصّة. كما يتضمّن إشارات متعدّدة إلى طبيعة السفينة التي بناها النبيّ نوح عليه السلام ونوعية سكّانها.
ويبدو أن السفينة نفسها كانت اكبر بكثير من أيّ شيء آخر كان قائما على الأرض في تلك الحقبة السحيقة من تاريخ البشرية.
وبحسب العلماء، كان هناك أكثر من خمسة وعشرين مليون فصيلة حيوانية تعيش على الأرض. والعلم الحديث عاجز تماما عن تصوّر بناء سفينة كبيرة وضخمة يمكن أن تتّسع لكافّة المخلوقات التي كانت تعيش على الأرض في ذلك الزمان.
ومع ذلك، يشير الإنجيل إلى أن طول السفينة لم يكن يتجاوز خمسمائة قدم، وبعرض أقصاه ثمانون قدما، أي حوالي نصف مساحة سفينة التايتانك.
لكنّ العلماء يتساءلون إن كانت فكرة جمع حيوانات كثيرة ومن قارّات مختلفة وتعيش وفق مناخات متباينة فكرة قابلة للتطبيق أصلا.
وكيف بإمكان السفينة أن تتعامل مع متطلّبات عدد ضخم من الحيوانات كلّ منها له طعام خاصّ وبيئة معيّنة لا يمكنه العيش خارجها. وكيف أمكن لـ نوح وللسفينة التعامل مع فضلات تلك الحيوانات على الفُلك.
المشكّكون في الواقعة يقولون انه لا بدّ وأن السفينة كانت تحتوي على نظم للتهوية والنظافة لا تتوفّر اليوم سوى في ناقلات قليلة وبالغة التعقيد من الناحية التكنولوجية. ويضيفون: إسأل أيّ حارس حديقة حيوانات اليوم كيف يتسنّى له بالكاد التعامل مع احتياجات مئات الحيوانات في حديقته. ثم تخيّل كيف تمكّن رجل واحد وعائلته الصغيرة العدد من الاستجابة لمتطلّبات ملايين المخلوقات الأرضية على ظهر سفينة بدائية.
ثم هناك فكرة الطوفان ذاتها. لا بدّ وأن الأرض كانت في ذلك الزمان مغطّاة بالمياه بالكامل وحتى ذروة قمّة جبل ايفريست. أي ملايين الكيلومترات المكعّبة من المياه. السؤال: من أين جاء الماء بتلك الوفرة الهائلة والى أين تصرّف؟!
الأرض نفسها لا تحتوي على مياه بمثل تلك الكثافة. وليس هناك حاسبة الكترونية قادرة على حساب كم من الماء يكفي لتغطية الأرض حتى قمم جبل ايفريست. لا بدّ وأن مثل ذلك الرقم سيكون فلكيا وهائلا بكلّ المقاييس.
تقول القصّة إن المطر استمرّ نزوله حوالي أربعين يوما متواصلة. وبما أن مياه المطر عذبة بطبيعتها فإن ذلك كفيل بإغراق مياه المحيطات وتغيير ملوحتها، الأمر الذي سيؤدّي إلى إحداث دمار رهيب في البيئة البحرية ونفوق حيواناتها بشكل مريع. إسأل أيّ عارف بالشعاب المرجانية وبالأسماك والكائنات الأخرى التي تعيش فيها عن مدى حساسية ذلك النوع من البيئة للتغييرات المناخية.
إن هطول الأمطار لأربعين يوما متواصلة وبمثل تلك الغزارة سيؤدّي حتما إلى هلاك كافّة أشكال الحياة البحرية في البحار والمحيطات. إذن كيف تسنّى لتلك الكائنات الهشّة أن تحيا طوال تلك المدّة وهي مغمورة تحت الماء؟! خذ بعض النباتات المنزلية واتركها مغمورة في مياه الحديقة أو دورة المياه لبضعة أيّام. ثمّ انظر بعد ذلك لترى ماذا حلّ بها.
لكن لنعد إلى القصّة مرّة أخرى. بعد أن غيض الماء (ولا احد يدري إلى أين)، كان هناك العديد من المشكلات. ماذا فعل نوح، مثلا، بجثث الحيوانات والبشر الكثيرين الذين ماتوا على ظهر الفلك؟ بالتأكيد سيترتّب على بقاء الجثث في السفينة انتشار الطاعون وغيره من الأمراض المعدية والأوبئة الفتّاكة نتيجة اللحم المتعفّن.
الإنجيل يذكر أن الأرض آنذاك كانت مسطّحة ولها أركان أربعة. لكنّه يعود ليشير في جزء آخر إلى أن الأرض دائرية!
غير أن السؤال المهم هو: كيف تمكّنت الحيوانات من العودة إلى بيئاتها الأصلية عقب انتهاء الطوفان؟ كيف استطاع الكوالا والكنغارو العودة إلى استراليا؟ وكيف تمكّنت الدببة والبطريق من العودة إلى القطب المتجمّد؟
وكيف عادت جحافل النمل الاستوائي إلى الأمازون والغابات المطيرة؟
ونفس السؤال عن الماموث والديناصورات وفصائلها الكثيرة.
وبما انه كان هناك زوجان من كلّ فصيلة، فكيف تمكّن كلّ زوجين من السير آلاف الأميال للعودة إلى بيئتهما الأصلية دون أن يتعرّضا للافتراس أو الموت جوعا أو عطشا؟!
تقول القصّة إن نوحا عليه السلام جمع من كلّ مخلوق زوجين. وهنا تثور أسئلة إشكالية. كيف تمكّن نوح، مثلا، من ضبط سلوك الحيوانات على متن السفينة طوال ستّة أشهر. وكيف استطاع إقناعها بألا يأكل بعضها بعضا، حيث لا طعام ولا غذاء على ظهر الفُلك. هل يمكن أن يقتنع الإنسان العاديّ بأن الأسد كان مستلقيا بسلام إلى جوار الخروف أو الأرنب؟! وهل تحوّلت الحيوانات المفترسة إلى آكلات للنباتات طوال أشهر الرحلة مثلا؟ أم هل كان الفلك محمّلا بمئونة تكفي لإطعام الحيوانات والحشرات والطيور طوال تلك الفترة؟! وهل كان بإمكان نوح والطاقم المرافق له، أي زوجته وأبناؤه الثلاثة، تدبير أمر تغذية سكّان السفينة؟
لكنّ هناك مشكلة أخرى تسبّب الكثير من المتاعب لأصحاب نظرية الطوفان. فهم يقولون إن عظام وبقايا الديناصورات التي عثر عليها العلماء الآن تعود إلى تلك الحيوانات الضخمة التي نفقت أثناء الطوفان. والسؤال: لماذا لم يأخذ نوح معه أيّا من تلك الديناصورات؟ الإنجيل والكتب الأخرى المقدّسة تقول، بل وتؤكّد أن نوحا اخذ معه من كلّ حيوان زوجين. فهل كانت الديناصورات مستثناة؟
هناك أيضا الكثير من الأسئلة الأخلاقية التي يمكن إثارتها عندما يأتي الحديث على سفينة نوح. وأولّها هو أن المرء يتعجّب كيف أن الله سبحانه أراد أن يدمّر جميع الكائنات الحيّة التي سبق له أن خلقها على الأرض. تقول القصّة إن الله كان ساخطا على جميع البشر باستثناء نوح وأهله. والغريب أن هذا أصبح تكتيكا مألوفا عند مختلف أنواع الآلهة التي جاءت في ما بعد. والميثولوجيا الإغريقية والرومانية، مثلا، حافلة بقصص الآلهة التي تفتك بأعدائها عندما تغضب عليهم.
الخطّ الذي نلمسه في هذه القصّة ومثيلاتها هو أن الله سبحانه وتعالى يحبّ عباده الأخيار ويمقت الأشرار. وهذا أمر طبيعي. ولهذا السبب سمح الله للأخيار بأن يمتطوا السفينة وأن ينعموا بصحبة أعداد كبيرة من الحيوانات الصديقة. الرسالة هنا واضحة، وهي أن الخالق قويّ ومتجبّر وإليه يدين الخلق بكلّ شيء.
وأحيانا يتساءل الإنسان عن الحكمة في أن الله تعالى اختار أن يُهلك مجموعة من الخطّاءين بهذه الطريقة البالغة الغرابة والتعقيد.
الله الذي يستطيع تدمير مئات، وربّما آلاف المجرّات في لمح البصر ودون أيّ جهد يذكر يأمر إنسانا فقيرا ومسكينا بجمع ألواح بالية ليبني منها سفينة ضخمة يضع فوقها ملايين المخلوقات من جميع أرجاء الكوكب، ثم يغرق الأرض بأكملها انتقاما من حفنة من الآثمين والعصاة!
ما الغاية من هذا كلّه؟ أليس الله هو الذي يقول للشيء كن فيكون؟ أليس بيده القوّة والجبروت الكافيان ليفعل ذلك؟ لماذا يكلّف الخالق عزّ وجلّ نفسه ويتسبّب في موت الملايين من المخلوقات والنباتات والحيوانات والبشر بهذه الطريقة الانتقامية الرهيبة؟ أليس من صفاته عزّ وجلّ انه الرحمن الرحيم واللطيف الرءوف الحليم؟!
واقع الحال يقتضي من الإنسان أن يؤمن إيمانا تامّا بما ذكره القرآن الكريم عن الطوفان والسفينة. لكنّ تفاصيل وملابسات القصّة، كما توردها مصادر أخرى، تطرح تساؤلات كثيرة من منظور العلم الحديث. وإثارة مثل هذه التساؤلات ليس من باب الإنكار أو النفي، بل من باب الاستفهام ومحاولة الفهم.

Credits
worldhistory.org