:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الثلاثاء، سبتمبر 23، 2008

باخ: موسيقى للإنسان 1 من 2

كنت قد انتهيت، منذ بعض الوقت، من إعداد موضوع يتناول أشهر بورتريه لـ يوهان سيباستيان باخ والذي يعود للعام 1746م. وكان من المفترض أن يدرج الموضوع ضمن سلسلة اللوحات العالمية.
لكن لأنني من المفتونين كثيرا بموسيقى باخ، فقد رأيت من الأنسب أن يكون الحديث عن البورتريه جزءا من موضوع أشمل يتحدّث عن حياة هذا الموسيقي العبقري وعن موسيقاه ومكانته ودوره في تاريخ الموسيقى العالمية.
ولعل أفضل مدخل للحديث عن باخ ومحاولة استكشاف عالمه الثري والمدهش هو الحديث عن ذلك البورتريه الذي رسمه له إي جي هاوسمان قبل سنوات قليلة من وفاة باخ أي منذ أكثر من مائتين وخمسين عاما.

في البورتريه نرى باخ بهيئة رجل عجوز يرتدي باروكة شعر بيضاء ضخمة ويمسك بيده نوتة موسيقية. في ذلك الزمان كانت الباروكة مهمّة جدّا لأيّ شخص قريب من البلاط. وباخ عاش في القرن الثامن عشر، أي في حقبة ازدهار طبقة الملوك والنبلاء في أوربا عندما كانت الأدوار الاجتماعية محدّدة بصرامة والمكانة الاجتماعية للشخص تفرض عليه ما يجب وما لا يجب فعله.
هذا البورتريه هو الذي يعرفه أكثر الناس لـ باخ، وفيه يبدو بهيئة وقورة يخالطها قدر من الرصانة والجدّية.
والذي يتمعّن قليلا في الصورة سيدرك أننا أمام شخصية متميّزة بل وعظيمة. لكن المفارقة هي أن هذا البورتريه أصبح عاملا أسهم بطريقة غير منصفة في إبعاد أجيال عديدة من الموسيقيين الشباب عن باخ وعن موسيقاه.
وهناك عامل آخر لا يقلّ أهمية كان له نفس التأثير، ويتمثل في حقيقة أن باخ لم يغادر ألمانيا أبدا وكانت حياته الشخصية والعائلية هادئة ومستقرّة بل ورتيبة إلى حدّ ما ولم يكن فيها ما يثير اهتمام الناس أو فضولهم.
لكن من ينظر إلى هذا البورتريه محاولا قراءته من منظور ما تثيره موسيقى باخ في النفس من مشاعر وانطباعات – وهو ما فعلته – فإن باخ سيبدو له إنسانا طيّب النفس، سمحا، متواضعا، أنيقا في ما غير تكلف أو تصنّع، موفور الحواس، مشغول المخيّلة ودائم التطلع إلى المثالية والكمال.
انه يقف بوقار كما لو انه في محراب للصلاة.
ورغم ما تكشف عنه تعابيره من هواجس رمادية مردّها، ربّما، التقدّم في العمر والتفكير في ما تخبئه الأيام، فإنه ما يزال ذا نفَس إنساني رحب وإحساس متيقظ ونفس صافية حدّ التجرّد والتصوّف.
إن باخ لم تكن له جاذبية موزارت الذي كتب نشيده الجنائزي وهو على سرير الموت، ما أدّى إلى ازدياد شعبيته وجماهيريته. كما لم تكن له رومانسية بيتهوفن الذي ازداد تعاطف الناس معه أكثر بعد أن أصيب بالصمم.
لكن يمكن القول إن هذا "الظلم" أو التجاهل خدم باخ كثيرا، لأنه يوحي بأن شعبيته نابعة من عبقريته الموسيقية فحسب وليست مرتبطة بأية أسباب أخرى تتعلق بشخصه أو بحياته الخاصّة.
لكن هناك بورتريه آخر لـ باخ أقلّ شهرة ويظهر فيه شابّا وسيما وأنيقا ومفعما بحبّ الحياة.
رسم البورتريه يوهان رينتش عندما كان باخ في سنّ الثلاثين أو نحوها، أي في الفترة التي ألف خلالها أكثر أعماله الموسيقية شعبية مثل براندنبيرغ كونشيرتوز ومجموعة سوناتات التشيللو والكمان.
إن موسيقى باخ عبارة عن سلسلة من التأملات التي تأخذنا من إحساس لآخر. وأنت تستمع لموسيقاه يساورك شعور بأنها تأخذك إلى أماكن لم تزرها أو تألفها من قبل.
ويقال إن من يسمع باخ لبضعة أيام سرعان ما يتعوّد عليه ويدمن سماعه. ومهما استمعت إليه فلن تتعب أو تملّ من موسيقاه، بل ستحبّها أكثر وتسعى إلى استكشافها بقيّة حياتك.
إن موسيقى باخ ليست للترفيه أو التسلية بالمعنى التقليدي. إنها تنعش العقل بتأثيرها الطهراني الغريب وتدفعك لان تفكّر في الأسس والبدايات. إنها معنية أولا بالتطوّر الجمالي وبالغوص في أعماق التجربة الإنسانية. ومجالها الذي تتحرّك ضمنه هو العواطف الإنسانية على إطلاقها من حياة وحبّ وتضحية وتوق وخلود وموت.. إلى آخره.
من المعروف أن باخ كان من أتباع مارتن لوثر. وكانت أفكاره متساوقة مع أفكار لوثر عن الدين والموسيقى.
صحيح أن باخ كان مسيحيا تقيّاً. وصحيح أنه بدأ حياته كموسيقي في الكنيسة. لكن ليس شرطا أن تكون إنسانا متديّنا حتى تحرّك موسيقى باخ مشاعرك وتترك أثرا في نفسك. فجاذبيته الموسيقية تتجاوز حدود الأديان والثقافات والجغرافيا. وباخ نفسه لم يكن يقيم فاصلا بين الموسيقى الدينية والدنيوية.
كان باخ يرى أن الموسيقى نوع من الممارسة الروحية. ورغم أن المستمع أو العازف قد لا يشاركه قناعاته الدينية، فإن من الصعب أن تستمع إلى موسيقاه دون أن يعتريك إحساس قويّ بأنك مدعوّ لأن تغيّر من حياتك وتتطهّر من التوتّرات والمخاوف وتحصّن نفسك ضدّ الملل والكآبة وتتسلح بالتفاؤل والأمل.
إن الدراما جزء لا ينفصل عن موسيقى باخ، ولا تخلو حتى المقاطع الصغيرة من هذه السمة. كما أن موسيقاه مليئة بالجمل المتداخلة والمعقّدة. وكلما اعتدت سماع الموسيقى كلما استطعت التمييز أكثر فأكثر بين السطور والمقاطع.


في موسيقاه، كثيرا ما يترك باخ لمحات أو إشارات قويّة في بداية كل معزوفة تخبرك أين وكيف ستنتهي هذه المعزوفة أو تلك. وغالبا ما تبدأ الموسيقى بحركة بطيئة جدّا، ثم يتنامى الإيقاع بهدوء وسلاسة، إلى أن يتحوّل إلى موسيقى مرحة ومبهجة.
ومعظم أعماله تستدعي التأمّل لكنها لا تدعوك إلى الاسترخاء أو الراحة، بل تحفّزك لأن تشارك فيها وتكون جزءا من جوّها.
كان باخ شخصية لامعة مملوءة بالحماس والنشاط. وهناك من يقول إن مكانته في الموسيقى لا تقلّ عن مكانة نيوتن في العلم أو شكسبير في الأدب.
وقد أحسّ بحزن عميق عندما توفيت زوجته وعدد من أطفاله. ولم يجد السلوان إلا بعد أن تزوّج آنا ماغدالينا التي أنجبت له 12 طفلا.
ومن أجمل معزوفاته القطعة المسمّاة موسيقى للفرح والتي كتبها بشكل عابر وأهداها لزوجته ماغدالينا وأصبحت منذ ذلك الوقت أشهر معزوفة موسيقية تعزف في حفلات الزواج حول العالم وتحوّلت إلى أغنية على لسان أكثر من مغنّ.
في هذه الموسيقى يتجلى شيء من عبقرية باخ وصيغه الموسيقية ذات البُنى الرياضية المركّبة.
تبدأ الموسيقى بخط رئيسي يتّسع شيئا فشيئا ثم يلتحم تدريجيا ليندمج مع الخطوط الأخرى مولّدا في النهاية كيانا نغميا متكاملا له حياة وروح.
إن موسيقى باخ تشبه في تأثيرها الأكسجين. تسمعها فتحسّ أن القلب يغني والروح في حالة انتشاء. كما أنها تبعث إحساسا بالنظام وبعالم اقلّ شكّا وأكثر يقينا. وهي مهمّة أكثر عندما يكون هناك الكثير من الفوضى والاضطراب في عالمنا.
ولهذا السبب تروق جاذبية باخ كثيرا للفنانين والعازفين المعاصرين أمثال فانيسا ماي ولارا سينت جون وهيلاري هان ويو- يو ما وغلين غولد، وأخيرا وليس آخرا المغنّي الصوفي الإيراني داود آزاد الذي مزج بين أشعار جلال الرومي وموسيقى باخ.. والقائمة تطول..