:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الأربعاء، سبتمبر 24، 2008

باخ: موسيقى للإنسان 2 من 2

عندما سافر مكوك فويجر إلى الفضاء في العام 1977 وضع العلماء على متنه صندوقا يحتوي على مجموعة من الأصوات والصور المختارة التي تمثل ما يمكن اعتباره سجلا عن أفضل ما أبدعته حضارة سكّان الأرض.
وكان في ذهن أولئك العلماء احتمال أن تعثر على الصندوق كائنات من الكواكب البعيدة فتتعرّف على حضارة كوكبنا وتطلع على أفضل ما توصّل إليه أهل الأرض من معارف وإبداعات وابتكارات.
وكانت أوّل قطعة صوتية تم اختيارها هي الحركة الثانية من براندنبيرغ كونشيرتوز، أحد أشهر مؤلفات باخ والتي استخدمت في ما بعد في العديد من الأعمال السينمائية والتلفزيونية أشهرها سلسلة X-Files أو الملفات السرّية.
وفي عام 1950 أنجز عازف البيانو غلين غولد تسجيله المشهور لـ تنويعات غولدبيرغ Goldberg Variations فتضاعف نجاحه واشتهر أكثر. ولم يكن الناس وقتها مندهشين من براعة العازف الكندي الشابّ بل من موسيقى باخ التي لم يكن الكثيرون قد سمعوا بها من قبل.
وقد تحدّث المهتمّون بالموسيقى مطوّلا عن الأنماط الرياضية المتضمّنة في تنويعات غولدبيرغ وعن المتعة الفكرية فيها وتأثيرها الانفعالي الكبير وكأنها تتحدّث إلى أرواحنا.
ويقال إن التنويعات تعكس معرفة باخ الواسعة والاستثنائية بالأساليب المتعدّدة والإيقاعات الهارمونية المختلفة لموسيقى عصر الباروك بالإضافة إلى براعته في العزف والتأليف.

كان باخ مؤلفا غزير الإنتاج، لذا جاءت موسيقاه غنيّة باختلافها وتنوّعها وبعمقها الفكري وقوّتها الانفعالية وجمالها الفنّي. وهناك من دارسي الموسيقى من بحثوا كثيرا في المعاني الخفيّة التي كان باخ يضمّنها أعماله وفي الأسس الرياضية لبعض تلك الأعمال.
هناك، مثلا، معزوفته المشهورة موسيقى وترية أو Air on the G String . عندما تستمع إلى هذه المعزوفة لا بدّ وأن تتساءل ما إذا كانت مجرّد لحن جميل أم أنها أيضا تخفي وراءها طبقات وظلالا من المعاني والصور التي تقرّبنا أكثر إلى سرّ الجاذبية الكونية لموسيقى باخ. بمعنى أنه لا يوجد في هذه المقطوعة ما يمكن أن يربطها في أذهاننا بالعالم الأرضي. إنها منفصلة جدا عن بيئتها الاجتماعية والجغرافية ومن الصعب ربطها بزمن أو مكان معيّن. أي أنها من ذلك النوع من الموسيقى التي تستحقّ أن توصف بأنها أزلية وخالدة.
وهناك أيضا معزوفته الأخرى توكاتا اند فيوك التي تعتبر أشهر مقطوعة موسيقية كتبت لآلة الأرغن. ومن الغريب أن هذه المعزوفة ظلت الأكثر تفضيلا لدى مخرجي أفلام الرعب بالإضافة إلى توظيفها في الكثير من أفلام والت ديزني.
إن التماثل الظاهري لموسيقى باخ يخفي تنوّعا تعبيريا كبيرا يساوي قرونا من التأليف الموسيقي المتراكم. وباخ يتعامل مع الموسيقى كالحرفي البارع الذي لا يتوقّف عن البحث عن حلول للمشاكل. لذا تلمس في موسيقاه ذلك الإحساس بأن كلّ نوتة هي في مكانها الذي ينبغي أن توضع فيه وكلّ آلة مخصّصة لمقطع بعينه. فلا يمكن للهاربسيكورد، مثلا، أن يقوم مقام البيانو ولا الفيولا يمكن أن تحلّ محلّ البوق وهكذا..
لقد كان باخ يتمتع بمهارة موسيقية استثنائية تتضاءل أمامها كلمة عبقري. وقد وصفه غوستاف ماهلر ذات مرّة بقوله: إن موسيقى باخ تتّحد مع الخلايا الحيوية للموسيقى وتتآلف مثل ما يتحدّ العالم مع الله".
وعندما تستمع إلى أنغام باخ المرحة وتتأمّل بُناه الموسيقية والفلسفية والروحية الفخمة وعناصر التوق والحزن والأمل والفرح التي أودعها في السويتات الاوركسترالية وفي كونشيرتوهات براندنبيرغ وفي مئات الألحان المكتوبة لآلتي التشيللو والكمان، سرعان ما تكتشف استقلالية موسيقاه عن التاريخ والسياسة والمجتمع. إن باخ يفصل الموسيقى عن كلّ هذه العناصر ويصهر كلّ شيء معا في قالب واحد.
ولهذا السبب مقدّر لـ باخ أن يدوم ويستمرّ طويلا.
المعروف أن موسيقى باخ ارتبطت بعصر الباروك الذي كان امتدادا لعصر النهضة وأحد المعالم الرئيسية في مسيرة الحضارة الإنسانية. وكان الأدباء والموسيقيون والرسّامون آنذاك يصوّرون في أعمالهم معاني النقاء والتضحية والفكر والحضارة. وهناك علاقة وثيقة جدّا بين فنّي الموسيقى والعمارة اللذين كانا سائدين خلال ذلك العصر. وربّما كان هذا يفسّر غلبة العناصر الزخرفية والديكورية على الكثير من موسيقى باخ.
ومنذ القرون الوسطى، ظلّ الفلاسفة ورجال الدين يحاولون فهم العلاقة بين الموسيقى والكون. وفي بعض الأوقات توصّل فريق منهم إلى بعض المواصفات والعناصر التي يمكن أن تعين الموسيقيين على تأليف ألحان تتناغم وتتآلف مع بعضها مكوّنة شكلا من أشكال الموسيقى السماوية كما يتخيّلونها.
ومن هذه الناحية، كان باخ قادرا على أن يؤلف موسيقى ذات قوّة روحية وانفعالية عالية بفضل موهبته الفذّة في مزج الموسيقى بالفكر والعاطفة ورغبته في أن يكون دائما فنانا متجدّدا ومتطوّرا.
يقول بعض النقاد إن الاستماع إلى موسيقى باخ يشبه مراقبة الطاقة وهي تنتقل من ترس لآخر في ماكينة ركّبت أجزاؤها بإتقان وإحكام. وفي موسيقاه إحساس عظيم بالجمال لأن الكثير منها ذو أساس تجريدي. بمعنى أنه يمكنك أخذ مقطوعة من مجموعة ما وعزفها خارج سياقها دون أن تفقد شيئا من رونقها وبهائها.
وفي السنوات الأخيرة أدى اتساع دائرة الوعي بأهميّة باخ إلى تحفيز الكثير من الموسيقيين الجدد على إعادة تقديم أعماله برؤية جديدة، ومن هؤلاء عازفة الغيتار الكرواتية آنا فيدوفيتش وعازفة الكمان الهولندية جانين جانسن والسوبرانو التشيكية ماغدالينا كوزينا والبيانيست الأمريكية سيمونا دينرستين بالإضافة إلى جاك لوسيير الذي أعاد توزيع الكثير من أعمال باخ مضيفا إليها نكهة موسيقى الجاز الحديثة.


وفي هذه الأيام بالذات فإن باخ مثل ميداس في الأساطير، لا يلمس شيئا إلا ويحيله إلى ذهب. ومن الواضح انه قادر على أن يقدّم لكل شخص شيئا ما. وموسيقاه تصلح لكلّ مناسبة ويمكن تطويعها وتحويرها لتتواءم مع أيّ أسلوب موسيقي أو درامي متطوّر وعصري.
في فيلم كازينو، مثلا، اختار المخرج أن يبدأ الفيلم وينتهي بالكورال الختامي لما يوصف أحيانا بأنه أكثر الأعمال درامية وعمقا في تاريخ الموسيقى الغربية، أي أحزان سينت ماثيو St Matthew Passion، التي أرادها باخ أن تكون تأمّلا عميقا في مصير الإنسان ومعاناته.
وباختصار، فإنه لا نهاية للأماكن التي يمكن أن يأخذنا باخ إليها.
لنتذكّر فقط انه كتب أكثر من ألف قطعة موسيقية وعاش خمسة وستين عاما. وبعد وفاته لفّه النسيان لمائتي عام ولم يعد أحد يتذكّره بعد أن أصبح الباروك نفسه قصّة من الماضي. لكن في مطلع القرن الماضي بُعث الاهتمام بـ باخ من جديد على يد كل من مندلسون وشومان. وفي عام 2000 احتفل العالم بمرور 250 على وفاته، وهو اليوم يعتبر احد أعظم رموز الموسيقى الغربية والعالمية.
إن أناقة يوهان سيباستيان باخ وعمقه الشعوري والعاطفي يجعل موسيقاه اقرب لأن تكون سلسلة من التمارين الفكرية ومزيجا من الجمال السماوي والتناغم الأزلي والإحساس النبيل والمتسامي.
إنه يجعلنا أقرب إلى إنسانيتنا وإلى أنفسنا. فأنت لا ترى باخ في موسيقاه وإنما ترى نفسك.
باخ لم يكن عالما في الرياضيات ولا باحثا في عالم الروح.
الكلمة الوحيدة المناسبة لوصفه هي أنه "إنسان".

Credits
grin.com