:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الخميس، أكتوبر 16، 2008

إيماءات بعيدة

"دون دليل أو ضوء
غير تلك النار التي كانت تضطرم في أعماق قلبي
قادتني النار إلى فوق
كان لمعانها اشدّ من وهج شمس منتصف النهار
وصلت إلى حيث كان ما يزال ينتظر
كان مكانا لا يستطيع أحد آخر أن يبلغه"..

مستحيل أن تسمع هذه الأغنية دون أن تؤثر فيك أو تحرّك مشاعرك أو تثير في نفسك بعض الأفكار والأسئلة.
صوت لورينا ماكينيت مذهل، يأخذ الأنفاس، يصهر المشاعر ويتسلل إلى الزوايا العميقة والمعتمة من الروح. وهي سبق وأن غنت أشعارا لـ شكسبير و ييتس و تينيسون، لكنها في هذه الأغنية ترتفع بالشعر إلى أعلى الذرى من خلال الصور التي يستحضرها صوتها من توق، حنين، رهبة وإحساس غامض بالأزلية.
كلمات أغنية ليل الروح المعتم The Dark Night of the Soul تعتمد على نصّ من قصيدة للشاعر الصوفي الاسباني القدّيس جون اوف ذي كروس الذي عاش في القرن السادس عشر الميلادي.
إنها أغنية عن حبّ الإنسان لله، عن النقاء الروحي وعن التأمّلات والخطرات الصوفية.
ورغم أن عنوان الأغنية يثير إحساسا بالانقباض والتشاؤم، فإن جوّها رومانسي إلى حدّ ما كما أن كلماتها توحي بأننا إزاء قصّة عشق أرضي. بل إن المقطع الأوّل من الأغنية يحتوي على صورة لا تخلو من ايروتيكية رغم أن القصيدة تحكي عن تجربة القدّيس الصوفية واتصاله مع الله.
كتب القدّيس جون القصيدة وهو في السجن. ويقال انه ُسجن بعد أن أغضبت أفكاره الإصلاحية زملاءه من الكهنة. أما المصطلح نفسه، أي "الليل المعتم"، فيشير إلى مرحلة من مراحل الرحلة الصوفية على طريق التوحّد مع الله. وهناك قصص كثيرة عن متصوّفة من الشرق والغرب مرّوا بنفس هذه التجربة التي يحسّ فيها المتصوّف أو العارف بأن العبادة أصبحت متعبة وغير مجدية وبلا غاية وأن الله تخلى عنه وتركه وحيدا.
بعضهم ينتهي به الأمر إلى الإلحاد وإنكار الدين بل وحتى نفي وجود الله. والبعض الآخر يواصل رحلته إلى أن يتحقق له الصفاء الروحي والاندماج في ذات الله.
القدّيس جون دام "ليله المعتم" أكثر من أربعين عاما ظلّ خلالها نهبا لمشاعر الشكّ وانعدام اليقين قبل أن تطمئن نفسه وتهدأ روحه.
القصيدة هي إحدى أغاني ألبوم "القناع والمرآة" وهي توفر نموذجا لطبيعة المضامين والأفكار الإنسانية والفلسفية التي تختارها لورينا ماكينيت لأغانيها، كالحبّ والحياة والموت والوطن والهويّة الخ..
وماكينيت ليست مجرّد مغنية فحسب. إن شغفها بالأدب والشعر والفلسفة ليس له حدود. ولعلّ هذا هو السبب في أنها تهتمّ كثيرا باختيار عناوين أغانيها: محطات القوافل، صلاة دانتي، حلم المتصوّف، سوق ليلي بالمغرب، شجرتان، بوّابات اسطنبول، بين الظلال، الطرق القديمة، انكسار الصمت، الفصول، أشجار الصنوبر القديمة، حديقة شتائية وأحلام متوازية. . إلى آخره.
ولأمر ما حرصت لورينا ماكينيت على أن يتضمّن غلاف ألبومها "كتاب الأسرار" عبارة ذات مغزى اقتبستها من الحكيم الصيني لاو تسو تقول: إن المسافر الجيّد لا يجب أن يحتفظ بخطط ثابتة ولا أن يكون في ذهنه أن يصل إلى مكان محدّد". وفي هذا إشارة إلى ضرورة أن يتخلى الإنسان عن أفكاره المسبقة والجاهزة كي يكون أكثر قدرة على اكتشاف الأسرار الحقيقية للأمكنة والأشياء والظواهر.
وهذا يفسّر شغف المغنية بالسفر والتعلم من خلال اكتشاف الثقافات والحضارات المختلفة.
وأغانيها ذات النكهات المتنوّعة من وثنية وشرق أوسطية وهندية وإسلامية ويهودية هي أشبه ما تكون بالموزاييك الذي جمعت أجزاؤه قطعة قطعة ثم وضعت جميعها في إطار واحد جميل الشكل متناسق الألوان.
يخيّل إليك وأنت تستمع إلى هذه الأغنية انك أمام لوحة فنية تتجاور فيها عناصر الضوء والظل والعتمة بانسجام وتناغم. ولا بدّ وأن يثير اهتمامك في الأغنية صوت لورينا المقدّس الذي يشبه الضباب في الجبال والندى في الأشجار. ثم هناك الأداء الشجيّ للكمان المنفرد الذي يستدعي جوّا من الحزن والغموض، وكذلك صوت الغيتار والنغمات الخفيفة لآلة السيدار الهندية التي تتخلل الأغنية من مستهلها إلى نهايتها.
تسمع هذه الأغنية وأنت مغمض العينين فتذكّرك ترانيمها وإيماءاتها البعيدة ببدايات التكوين وتأخذك إلى شرفات تطل على غيم وشطآن مغسولة المدى وحقول من حنين وشجن.
يمكن سماع الأغنية هنا أو هنا ..