:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الأحد، مارس 08، 2009

ما وراء الأقنعة

لم يكن فرويد مجرّد عالم أحدث ثورة كبرى في مجال دراسة النفس البشرية، بل إن أهميّته تكمن في أنه كان عالما موسوعيّا متعدّد المواهب والاهتمامات.
ولطالما شدّتني نظرياته عن اللاشعور والأحلام والرغبات الباطنية بقدر ما فتنت بأسلوبه الساحر وكتاباته المشوّقة والعميقة عن الشخصيات التاريخية وعن الفن وعلم الجمال وتاريخ الأديان وعلم الإنسان.. إلى آخره.
إن فرويد لا يتحدّث كعالم نفس فقط، بل كمؤرّخ وعالم اجتماع وفنان وشاعر وإنسان يملك رؤية واسعة وخيالا خصبا.
ومن الصدف الجميلة أنني وجدت أن ثلاثة من أهمّ كتبه هي "علم نفس الجماهير" و"إبليس في التحليل النفسي" و"الهذيان والأحلام في الفن" مترجمة إلى اللغة العربية بأسلوب راق ومبسّط وسلس يناسب الشخص المتخصّص كما يناسب الإنسان العاديّ على حدّ سواء.
والمترجم الذي تصدّى لهذه المهمّة العسيرة هو المفكّر والأكاديمي العربي جورج طرابيشي الذي ما من شكّ في أن ترجمته لأعمال فرويد تلك تمثل إضافة نوعية ومهمّة للمكتبة العربية.
وكنت قد قرأت قبل ذلك جانبا من آراء فرويد وانطباعاته عن الفنّ وعن مشاكل الإبداع بشكل عام.
صحيح أن الكثير من الآراء التي قال بها أصبحت متقادمة، وبعض نظرياته التي تبنّاها نقضها آخرون ممّن أتوا بعده.
لكن تظلّ لكتاباته نكهة خاصّة بالنظر إلى جرأتها واقتحاميّتها وإثارتها للأفكار والتساؤلات.
لقد كتب فرويد كثيرا عن النفس البشرية وعن الوعي واللاوعي، كما ناقش مطوّلا سيطرة الرغبات الباطنية وتأثيرها على أفكارنا وتصرّفاتنا.
غير انه أيضا ناقش العديد من المسائل والقضايا المتعلقة بالفنّ والإبداع. وبعض آرائه في هذا الجانب لا تخلو من طرافة. فقد كان فرويد يرى أن الفنان مخلوق محبط جنسيا، وأن اشتغاله بالفنّ يعكس رغبته في أن يعلو بالغريزة الجنسية إلى مستوى أكثر تساميا ونبلا. كما ذهب إلى أن الإبداع هو في الأساس تعبير عن الصراعات النفسية، وهي في الغالب جنسية، التي تضطرم في أعماق المبدع ولم تنحسم بعد.
وكان فرويد يعتقد أن العمل الفني ما هو إلا عرض أو مظهر للمرض النفسي وأن الفنان أو المبدع ليس سوى إنسان مريض. وقد فسّر بعض الباحثين كلام فرويد عن المرض استنادا إلى الفرضية التي تقول إن الفنان أو المبدع إنسان يؤمن عادة بقيم غير تلك التي يعتنقها مجتمعه وأن آماله وتطلعاته تتجاوز تلك التي لدى الناس العاديين الذين هم بطبيعتهم مقموعون وممنوعون من تحقيق إبداعاتهم الخاصّة. في حين أن طبيعة الإنسان المبدع لا تؤمن بالحدود أو الحواجز بل بحتمية التطوّر والنموّ الذاتي الذي يجعل منه إنسانا مختلفا ومتميّزا.
ومن آراء فرويد الأخرى ذات الصلة بالموضوع ما قاله ذات مرّة من أن شكل لوحة الرسم يرقى لأن يكون سيرة ذاتية للفنان الذي أبدعها، أو هي كتاب مفتوح يمكن أن توفر قراءته مفاتيح يستدلّ بها على ما يساور الفنان من هواجس وانفعالات متصارعة تحت طبقة اللاشعور.
ومن أكثر كتاباته إثارة للجدل دراسته التي خصصّها لتحليل شخصية ليوناردو دافنشي اعتمادا على ما كتبه الأخير عن تفاصيل بعض أحلامه عندما كان شابا.
كان فرويد في دراسته تلك يحاول التأكيد على أهمّية الأحداث التي يمرّ بها الإنسان في سنيّ حياته المبكّرة ودورها في صياغة شخصيّته عندما يكبر.
وتوصّل إلى أن ليوناردو عانى من الحرمان من عاطفة الأم. كما أشار إلى احتمال انه كان شخصا مثليا جنسيا استنادا إلى بعض خيالات ليوناردو القديمة عندما تمنّى لو أن له جناحين. يقول فرويد: أن يكون لك جناحان معناه أن تكون ملاكا أي مولودا من عملية اندماج امرأة وطائر. وقد لا تكون تلك أكثر من رغبة مقنّعة في أن يصبح قادرا على مزاولة الجنس".
ومن الأمور التي توقّف عندها فرويد وهو يحلّل شخصية ليوناردو دافنشي نزوع الأخير إلى عدم إكمال لوحاته. إذ أرجع السبب في ذلك إلى الاضطهاد الذي عانى منه الفنان على يد والده، والذي ظلّ في لا وعيه دائما بحيث لم يكن ممكنا التخلص منه وإزالته من خلال التجارب والخبرات التي مرّ بها لاحقا.
وبطبيعة الحال قوبلت آراء فرويد عن ليوناردو بردود فعل تراوحت ما بين الاستحسان والاستهجان. لكنه في ما بعد أعلن تراجعه عن معظم ما قاله عن دافنشي، خاصّة ما يتعلق بميوله المثلية. وقال إن دافنشي في شبابه لم يكن أكثر من نموذج أراد أن يجّرب عليه تحليلاته ونظرياته.
ومن آرائه الجدلية الأخرى ما ضمّنه دراسته التي خصّصها لتحليل شخصية النبيّ موسى. فقد توصّل إلى أن موسى لم يكن عبرانيا بل مصريا متحدّرا من سلالة رفيعة وأنه كان ابنا لإحدى الأميرات الفرعونيات.
وأضاف: لو ذكر هذا الإنجيل لخفّ سحر الأسطورة. فكان لا بدّ من تضمين القصّة بعض العناصر الفولكلورية من أجل التأكيد على أصوله الفقيرة ونسبته إلى اليهود لكي تأخذ القصّة طابعا متماسكا وذا مصداقية.
ورأى فرويد أن الأسطورة أعيد بناؤها لاعتبارات وطنية ومن ثم تغيّرت إلى الطبعة التي نعرفها.
غير أن هناك الكثيرين ممّن اعترضوا على مقولات فرويد عن موسى. وقال بعض المنتقدين إن فرويد لا يعاني من قلة الإدراك وإنما من مشكلة إسقاط نفسي تخفي رغبة الرجل في عدم اعتبار نفسه يهوديا.
ومن الطريف أنه قدّم لدراسته عن موسى بعبارة قال فيها: إن من الأشياء التي تثقل على النفس حقيقة أنني أدرك يقينا صعوبة أن تستسيغ جماعة ما فكرة أن يجرّدوا من الرجل الذي طالما نسبوا أنفسهم إليه واعتبروه أعظم أبنائهم.
وممّا يعرف عن فرويد انه لم يكن متصالحا كثيرا مع فكرة الدين بل كان يرى فيه ضربا من الهوس أو العصاب النفسي. ومن المرجّح أن هذه الفكرة كانت تراود عقله وهو يتأمّل التمثال الضخم الذي نحته مايكل انجيلو في أحد ميادين روما. وكان قد قرّر الذهاب إلى ذلك المكان حيث أمضى فيه أيّاما كان يحضّر أثناءها دراسته المثيرة عن موسى والتي رأى بعض النقاد انه كان ينقصها الدليل العلمي رغم أن قراءتها تتوفّر على كثير من المتعة العقلية والفكرية.
لقد كان فرويد، بحسب بعض النقاد، أكثر الشخصيات الفكرية تأثيرا في فنون وآداب القرن العشرين. ومن عباءة أفكاره عن الأنا والعقل الباطن خرج عدد لا يحصى من الروايات والأعمال التشكيلية. بل يقال أحيانا أن مجمل حركة الفنّ الحديث بمدارسها المختلفة، وخاصة السوريالية، يعود الفضل في ظهورها إلى فرويد ونظرياته.
وعندما أستعيد بعض ما كتبه عن الإبداع في الفنّ اشعر ببعض الأسى لأن مجموعة كتاباته وآرائه خلت من أيّ حديث عن الموسيقى من منظور سيكولوجي. الغريب في الأمر أن فرويد عاش في بيئة ثقافية وفنية غنيّة كانت الموسيقى تشكّل إحدى ركائزها الأساسية. ومع ذلك ليس للموسيقى ورموزها اثر يذكر في كتاباته ودراساته العديدة.
غير أن أهميّة فرويد وتأثيره الهائل ماثلان للعيان في مختلف أوجه ومناحي الثقافة المعاصرة. يكفي مثلا أن نتذكّر انه صاحب الفضل الأوّل في صياغة ذلك العدد الكبير من المصطلحات والمفردات التي لم تكن موجودة قبله والتي دخلت القواميس وراجت وانتشرت في مختلف الأدبيات الطبّية والسوسيولوجية والانثروبولوجية، بل ووجد بعضها طريقه إلى الخطاب السياسي والاجتماعي مثل التابو، والفوبيا، والملانكوليا، والسادية، والماسوشية، وعقدة اوديب، والضمير، والعقل الباطن أو اللاشعور، والأنا والأنا العليا، والإسقاط، والتماهي، والطوطمية، وعقدة اليكترا، والهستيريا، والنرجسية، والبارنويا، والثنائية الجنسية، والتسامي، والتيليباثي أو التخاطر عن بعد.. إلى آخر تلك التعبيرات التي أصبحت دارجة على كلّ لسان..