:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الاثنين، مارس 09، 2009

تحفة فان غوخ الحقيقية

لا بدّ وأنك تعرف على الأقلّ واحدة من هاتين اللوحتين.
الأولى، إلى اليمين، هي "ليلة مرصّعة بالنجوم" التي رسمها فان غوخ في العام 1889 عندما كان يقيم في مصحّة سان ريمي في باريس.
والكثيرون يعتبرون هذه اللوحة المزعجة تحفة فان غوخ الحقيقية. وهي بالتأكيد أفضل صورة معروفة له. وقد لا تبتعد كثيرا عن موناليزا دافنشي التي يقال إنها أشهر لوحة في العالم.
لكنْ بصراحة، هذه اللوحة، أي ليلة مرصّعة بالنجوم ، لا تروق لي كثيرا. وعندما مررتُ بجوارها في متحف الفنّ الحديث بـ نيويورك لم تثر في نفسي أيّ شعور بالإعجاب أو الانجذاب.
مع أن اللوحة كانت ملهمة لعشرات القصائد الشعرية والأغاني، لعلّ أشهرها أغنية فنسنت لـ دون ماكلين (يمكن سماعها بصوت دانا وينر هنا ).
وكنت افترض دائما أن لامبالاتي باللوحة لها علاقة بالمسائل الوجدانية والشعورية. إذ من عساه يهيم في حبّ لوحة تتضمّن قدرا كبيرا من التوتّرات والإغماءات!
اللوحة الثانية، إلى اليسار، إسمها أشجار السرو . وهي لوحة معروفة جدّا لأنها معروضة دائما في متحف المتروبوليتان في نيويورك. هذا على الرغم من أنها محاطة بالعديد من التحف الانطباعية وما بعد الانطباعية التي تجعل التغاضي عنها أمرا سهلا.
على الورق، اللوحتان متماثلتان. وفان غوخ كان قد رسمهما معا في سان ريمي في نفس الفترة. وكلاهما تحتويان على أشجار سرو. واللوحتان تكمّلان بعضهما بعضا. الأولى صورة ليلية. والثانية تظهر جانباً من طبيعة بروفانس في ذروة حرارة النهار.
ووجود اللوحتين معا جنبا إلى جنب يجعل المقارنة النوعية بينهما أمرا لا مفرّ منه.
وبالنسبة إليّ، فإن "أشجار السرو" هي التحفة الحقيقية. إنها قادرة بسهولة على إلحاق الهزيمة بـ "ليلة مرصّعة بالنجوم"، والإجهاز عليها بالضربة القاضية.
"أشجار السرو" تزأر، تضجّ بالحياة، وفقاعاتها تتطاير في الهواء لتلتحم بالغلاف الجوي. ويمكنك أن تشعر بالرياح والحرارة ولزوجة الصيف وبالجمال الغريب الذي يتداخل في كلّ عناصر وتفاصيل هذه اللوحة.
بالمقابل، فإن "ليلة مرصّعة بالنجوم" تبدو أكثر فأكثر مثل تجربة غريبة في الرسم البياني لا تقدّم نتيجة أو ثمرة.
وأشكال الارابيسك المترابطة فيها والأقمار التي تأخذ هيئة المناجل والإشعاع المبالغ فيه للنجوم في السماء، كلّها تبدو مثل لحن عالق بجنون.
هذه العناصر تمتصّ كلّ واقع اللوحة وتغطّي على المشهد الحميمي الكائن إلى أسفل، أي القرية الصغيرة بالليل.
وهذه ليست مشكلة لو أن فان غوخ كان إنسانا حالما مثل كلّ الفتيات المراهقات اللاتي يحتفظن في غُرَفهن بنسخ من هذه اللوحة.
لكنه لم يكن كذلك. ربّما كان إنسانا معذّبا. لكن كلّ ما هو عظيم في فنّ فان غوخ يعزو عظمته إلى ارتباطه المباشر بالواقع.
وهذا ما يجعل منه فنانا مختلفا ومتفوّقا على "غوغان" الذي كان نادرا ما يسمح للواقع بأن يتدخّل في أحلامه النرجسية.
بإمكانك أن تقول إن فان غوخ رسم "ليلة مرصّعة بالنجوم" من الذاكرة والخيال في أشدّ لحظات ضعفه الإنساني. واللوحة تبدو أقرب ما يكون لرسم كاريكاتيري يصوّر نزوة ما. طبعاً، تاريخ الفنّ والملمح الثنائي الأبعاد في اللوحة يعطيان تفسيرا. فقد كان فان غوخ متأثرا كثيراً بالأسلوب الياباني في طباعة واستنساخ الرسوم البيانية. وكان منتمياً إلى جيل من الرسّامين الذين بدءوا يرون الصور من منظور تجريبي: أي عبارة عن ترتيبات مسطّحة للون والشكل على دعائم ثنائية الأبعاد.
كان فان غوخ يصف أشجار السرو بأنها رشّ للون الأسود في طبيعة مشمسة. لكنه واحد من أكثر ألوان "الأسْوَد" إثارة للاهتمام. بل انه أصعب الألوان التي تأتي عادة بنتائج دقيقة لا يمكن تخيّلها.
وهذا بنظري يدحض النظرية القائلة بأن استخدام فان غوخ لألوان مكثّفة وزائدة كان أمرا عارضا وغير مقصود نتيجة اشتداد المرض النفسي عليه.
و"أشجار السرو" بتناغمها المثير وبالدقّة والمهارة الهائلة التي ُرسمت بها توفّر دليلا آخر واضحا على بطلان تلك الفرضية.

Credits
vangoghmuseum.nl/en