:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الأربعاء، مايو 13، 2009

أيّام في بريطانيا 2 من 2

وأنت تتأمّل جمال الطبيعة عبر نافذة القطار المتّجه نحو الشمال، لا بدّ وأن يخطر بذهنك ما يقال أحيانا عن شخصية أو روح المكان. فحيثما نظرت، لا تقع عيناك إلا على اللون الأخضر. فضاءات خضراء لا يحيطها البصر، غابات، حدائق، مروج ومراعي فسيحة تتجوّل فيها البهائم والخيول على ضفاف الجداول والبحيرات. وعبر البساط الأخضر الطويل تلمح بعض القلاع والقصور التي تعود إلى القرون الوسطى.
جمال الريف الانجليزي كثيرا ما داعب مخيّلة العديد من الكتّاب والشعراء والرسّامين الانجليز منذ القدم. في هذه الأرجاء عاش الشاعر وليام ووردزوورث والفنان جون كونستابل في وقت واحد. وكلاهما كان مفتونا بسحر وجمال الطبيعة. الأوّل كتب عنها العديد من قصائده واستلهم من أجوائها مضامين ميثولوجية ودينية وفلسفية. والثاني كان يرسمها بقلبه وكان يودع في مناظره ذلك الإحساس العميق بالهدوء والسكينة. كان كونستابل معروفا بتعامله المبهر مع الألوان والضوء والظلال. وفي لوحاته تمثيل رائع لروح الطبيعة يشي بحسّ وجداني عميق وتجربة روحية ثريّة.
كان الوقت صباحا. وكان الضباب يلفّ كلّ شيء وكانت الغيوم الداكنة قريبة جدّا من الأرض رغم أننا ما نزال في بداية الربيع. لم يكن هناك سوى ذلك الشعور الغامض بالعزلة والفخامة.
هنا يمكن أن ترى الجمال كما يتجلّى في عين صانعه، كما يقال. جمال من نوع خاص يدفع الناظر لأن يحسّ بالقيمة الحقيقية للطبيعة عندما تصبح مصدر عطاء وتأمّل وإلهام.
تذكّرتُ أجواء قصص إميلي برونتي التي تثير إحساسا بالحزن والحنين إلى الماضي. كما تذكّرتُ سيّدة جزيرة شالوت وأساطير الرّعاة وقصص قطّاع الطرق والأشباح والرحيل ليلا في الغابات على ضوء القمر.
في بداية المساء، كان المطر ما يزال يهطل. لكنه مطر من نوع خاص. ففي هذه الأنحاء لا ترى البرق ولا تسمع الرعد. فقط قطرات المطر السخيّة وهي تلامس وجه الأرض بوداعة ورقّة.
خطر ببالي لحظتها طقوس المطر عندنا. المطر في بلادنا يعتبر باعثا للخوف والخطر. كأن الله يرعبنا حتى بالمطر.
في الكثير من المواقف والحالات، لمستُ كم أن الانجليزي العادي إنسان متسامح وودود تجاه الغرباء. وقد حدث أن أضعتُ وجهتي مرارا وكان عليّ في كل مرّة أن اسأل من أصادفه لأستدلّ على طريقي. وكان من بين من سألتهم بعض الانجليز الذين تأكّد لي تواضعهم وإنسانيتهم وحبّهم لمساعدة الآخرين. بعضهم أصرّ، رغم ممانعتي، على أن يمشي معي مسافة كي يدلّني على محطة للحافلات أو على مكتبة أو مطعم أو محلّ تجاري. وإجمالا، لا ترى في طبيعة الانجليز ما يدلّ على عنصرية أو فوقية ظاهرة. ولهذا السبب يكثر الأجانب من هنود وباكستانيين وعرب ورومانيين وبلغار ويونانيين في لندن وفي غيرها من المدن. والكثير من هؤلاء وجدوا في انجلترا أرض الأحلام والأم الرءوم التي قدّمت لهم الحماية والأمان والعيش الكريم بعد أن لفظتهم أوطانهم الأصلية وتخلّت عنهم. وأكثر ما استرعى انتباهي الوجود الفاعل والمؤثر للهنود على وجه الخصوص. ويظهر أنهم ورثوا عن غاندي صبره ومثابرته وميله للحياة الآمنة والمسالمة. في الفنادق كان معظم موظفي الاستقبال من الهنود من النساء والرجال. النساء خاصّة يتّصفن بالبشاشة وحسن الخلق واللباقة العالية. ثم هناك المحافظة والحياء الشرقي الذي لا تخطئه العين رغم كون معظمهن من الهندوس والبوذيين.
من واقع التجربة، تبيّن لي كم كنت مخطئا عندما عوّلت على ما يُكتب في الانترنت من "نصائح وإرشادات" تزجى بسخاء للذين يزمعون زيارة بريطانيا وغيرها من البلدان الأوربية. فمعظم ما يُكتب في هذا الجانب مجرّد تهيّؤات وخيالات لا علاقة لها بالواقع. كلام كثير قرأته عن ضرورة التقيّد بالايتيكيت ومراعاة قواعد استخدام الاندرغراوند والقطار وعن أهمّية التزام الصمت وتجنّب الحديث مع الآخرين وعدم إعطاء انطباع لأحد بأنك غريب، ما قد يسهّل وقوعك فريسة للعصابات والمجرمين. كلّ هذا الكلام بعيد تماما عن الواقع. وهو يطلب منك أن تتحوّل إلى ما يشبه الإنسان الآلي. فالناس هناك مشغولون بهمومهم وأعمالهم، ونادراً ما ينظر إليك احد أو تستوقف ملامحك أو هيئتك اهتمام إنسان، ناهيك عن أن يفكّر في مضايقتك أو إيذائك. وقد تعلّمت أن الحذر قد يكون اوجب من بعض العرب والمسلمين الذين لا تخلو طبيعتهم من التطفّل ومن ميل مرَضي للأذى والخداع.
من أهمّ ملامح لندن أنها مدينة حاضنة للكثير من الفعاليات والأنشطة الثقافية والفكرية والفنية. فهناك العديد من المتاحف المتخصّصة والمعارض والغاليريهات ودور المسرح والسينما وقاعات الموسيقى المنتشرة في كلّ مكان. وقد ذهبتُ في أحد الأيّام إلى ترافلغار سكوير لزيارة معرض خاص بأعمال الرسّام الاسباني سلفادور دالي نظّمته مؤسّسة دالي في مدريد. وكنت أمنّي النفس برؤية لوحات الرسّام المعروفة. لكني فوجئت بأن الأعمال المعروضة لا تتضمّن أيّا من لوحاته المشهورة، وإنّما مجرّد رسومات واسكتشات صغيرة علقت على جدران صالة طويلة ومعتمة. شعار المعرض لافت وجذّاب: رحلة في عقل عبقري". وقد علمتُ انه ليس بالإمكان رؤية تلك اللوحات سوى في هذا المكان. فهي غير متوفّرة على الانترنت لأن موضوع الملكية الفكرية يمنع ذلك. وقد استأذنتُ في اخذ بعض الصور فقيل لي إن التصوير ممنوع وأن الصالة مراقبة بالفيديو.
الاسكتشات جميلة، غامضة، وذات سحر خاص شأن كلّ أعمال دالي. في بعضها يحاول تقليد بعض لوحات دي غويا. وبعضها الآخر يحمل عناوين اسبانية يصعب فهم معناها. وعلى أرضية المعرض صفّت تماثيل متفاوتة الأحجام من النحاس والبرونز من أعمال دالي. وبين كلّ تمثال وآخر كان بالإمكان رؤية عدد من فساتين ومجوهرات غالا زوجة دالي وملهمته.
نسيتُ أن أشير إلى أن المعرض يتضمّن صورا فوتوغرافية كبيرة لدالي تتصدّرها واحدة عند المدخل يظهر فيها وقد حسر ثيابه عن فخذيه !
أظنّ أنني دفعت ما يوازي الثمانين أو التسعين ريالا ثمنا لقيمة التذكرة. ومع ذلك لم اشعر بالندم. فقد تعرّفت على وجه آخر لـ دالي قد لا تتاح للكثيرين معرفته دون أن يزوروا ذلك المعرض الخاصّ والنادر.