:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الأربعاء، نوفمبر 11، 2009

عاصفة جورجيوني: قراءة مختلفة

من عادتي أن لا أحبّ اللوحة التي أفهمها بالكامل. لكي أحبّ لوحة ما، يجب أن يكون فيها عنصر أو شيء ما لا استطيع إدراكه أو استيعابه. عندما كان عمري تسعة عشر عاما رأيت لوحة جورجيوني "العاصفة" للمرّة الأولى. لم تكن اللوحة نفسها بل صورة لها معروضة على جهاز بروجيكتور ضمن مادّة تاريخ الفنّ.
لم أكن قد سمعت بالرسّام أبدا ولم أكن اعرف سوى النزر اليسير عن لوحات عصر النهضة الايطالي. لكن ولسبب ما، أثارت اللوحة في نفسي ردّ فعل سيكولوجي يمكن وصفه بأنه مزيج من الدهشة والاستغراب.
لقد وقعت في حبّ اللوحة وقتها، وتحديدا خلال الثواني الأربعين التي استغرقها عرضها على الجدار، وذلك قبل أن ينتقل الأستاذ إلى الشريحة التالية.
لماذا؟ ما الذي حدث لي؟ أعرف أنني لست الشخص الوحيد الذي يشعر بما يشبه الارتباط الكهربائي تجاه لوحة ما.
وأعرف الكثير من الناس الذين يسافرون لمسافات بعيدة من اجل أن يروا صورة طالما تاقوا لرؤيتها عيانا.

"العاصفة" صورة صغيرة رُسمت عام 1504 أو 1505م لثلاثة أشخاص يجلسون وسط منظر طبيعي. الرجل يمسك بأداة أو عصا ويقف في مقدّمة المشهد وهو ينظر إلى امرأة تجلس على تلّ وترضع صغيرها.
وهناك نهر صغير يجري بينهما. المرأة عارية إلا من رداء ابيض منسدل حول كتفيها ومنتشر تحتها.
أيضا هناك أطلال غريبة ومدينة مهجورة تبدو ملامحها وراء الأشخاص، بينما تظلّهم سماء رمادية تتخلّلها ومضات برق وقمر ينبثق من بين الغيوم.
لا احد يعرف معنى اللوحة. مايكل مارك انتونيو كان احد نبلاء فينيسيا وكان يحتفظ بكرّاس يشير إلى أن اللوحة عبارة عن تصوير لجندي وامرأة غجرية.
في القرن الثامن عشر كانت اللوحة تُسمّى "عائلة جورجيوني" انطلاقا من فرضية خاطئة تقول إنها تُظهِر الرسّام وزوجته وطفله. مع أن الرسّام لم يتزوّج أبدا وبالتالي لم يخلّف أطفالا.
يقول سلفاتوري سيتيز وهو عالم ايطالي متخصّص في تاريخ الفنّ وسبق وأن ألّف كتابا عن "العاصفة" إن اللوحة عبارة عن رواية مقنّعة لأسطورة جنّات عدن وأن الشخصين فيها هما آدم وحوّاء وأن هناك أفعى في الصورة".
لكن لا احد رأى تلك الأفعى باستثناء المؤرّخ وحده.
غير أن هناك تفسيرا أكثر إقناعا أوردته جيني اندرسون في دراستها عن جورجيوني المنشورة عام 1997م.
تقول اندرسون إن اللوحة تحكي عن قصّة رومانسية حدثت لـ بوليفيلو الذي التقى فينوس مصادفة وهي ترضع كيوبيد".
لكن هذا مجرّد تخمين.
هناك أيضا خبراء يعتقدون أن اللوحة لا تتحدّث عن شيء وإنما هي مجرّد منظر فانتازي حرّ.
وبين رؤيتي للصورة المعروضة على البروجيكتور وزيارتي في ما بعد لمتحف "أكاديميا" في فينيسيا حيث رأيت اللوحة الحقيقية للمرّة الأولى، إكتشفت أمرا مذهلا.
فالصورة التي حملتها في عقلي كانت دقيقة جدّا باستثناء أنني، لسبب ما، لم اعد أتذكّر الرجل. وكلّما خطرت اللوحة بذهني تذكّرت المرأة والطفل والطبيعة والأطلال والمدينة والسماء والبرق. لكن دون صورة الرجل. وطمسي لهذا الرجل يعبّر عن رؤيتي للوحة كما يصحّ أن يكون تعبيرا عن الطريقة الغريبة التي ننظر بها إلى الأعمال الفنية أحيانا.
إن كلّ لوحة هي صورة ساكنة لا تتحرّك. وهي دائما شكل مستطيل يحاكي في هيئته معمار نافذة. ووجود اللوحة يتطلّب متفرّجا. مثلما أن الكتاب يقتضي وجود قارئ وقطعة الموسيقى تتطلّب مستمعا.
اللوحة شيء ميّت لا يبعث الحياة فيه سوى وجود شخص حيّ يدخل في شكل من أشكال العلاقة معه.
نظرت عن قرب إلى اللوحة في متحف "أكاديميا" بـ فينيسيا ثلاث مرّات فقط. وكلّ مرّة كانت تكرارا لنشوتي الأولى أمام جهاز العرض في الفصل الدراسي.
أعرف الآن أن هناك رجلا في الصورة. وهو بمثابة الوسيلة التي تمكّنني من الدخول في صورة لا افهمها فهما كاملا. لكني افهم ما يكفي كي يجعلني اشعر بالافتتان.
الأداة التي يحملها الرجل توحي بأنه كان في رحلة وأنه كان يمشي. وهو الآن يحدّق في المرأة العارية التي ترضع بهدوء طفلها في جوّ عاصف.
انه ينظر إليها لكنها لا تبادله النظرات. هي تنظر إلى الخارج، أي باتجاه الناظر، كما لو أنها رفعت عينيها للتوّ بعد أن علمت أن هناك شخصا يراقبها.
نظرات المرأة تجذبني إلى داخل فراغ اللوحة حيث أصبحُ، على نحو متخيّل، قرينا للرجل.
في اللوحة، أيّ لوحة، كلّ شيء يحدث في وقت واحد. نظرات المرأة إليّ ونظرات الرجل إليها هي السبب في أنني لم اعد أتذكّر الرجل. لقد نسيته لأنني أصبحت هو.
الرجل وأنا نحتلّ مساحة مماثلة لأنه، لا هو ولا أنا، نستطيع أن نعبر الجدول الصغير لنتحدّث إلى تلك المرأة أو نلمسها.
وكلّ التحليلات التي قرأتها للوحة تعترف بالانفصال الذي لا يمكن قياسه بين الشخصيّتين. النهر يفصلهما عن بعضهما إذ يتراجع إلى الوراء باتجاه المنظر الطبيعي.
لكن هناك جسرا. والبطل لن يضطرّ إلى السباحة في النهر. سيستخدم الجسر، لكنه لن يفعل أبدا.
لماذا؟ رغم أن الشخصين ليسا متباعدين كثيرا عن بعضهما مكانيا، فإنهما يبدوان في عالمين منفصلين تماما. لاحظ أن الرجل يرتدي ملابس عصرية.
وجه المرأة يضيئه نور منبعث من مصدر غامض. وكلّ ملامحها واضحة تماما. بينما يقع وجه الشابّ في الظلّ. من الواضح انه شابّ. وقوفه المعتدّ وملابسه الأنيقة توحي بالثقة. جسده بالكامل داخل الصورة. وهو يبدو كما لو انه أتى لتوّه من عالم آخر.
غموض "العاصفة" حيّر الناس لمئات السنين، لأنها تتحدّى المعايير التي تُستخدم أحيانا لفهم لوحات تلك الفترة.
الصورة غير واضحة لأنها تتحدّى التوقّعات. والتوقّعات تحدّد إلى درجة كبيرة ما الذي نراه فعلا.
أتذكّر أنني كنت أمشي ذات مرّة في بهو فندق ضخم بُني على نمط معماري بالغ التعقيد. وكنت انظر إلى شخص يقف في نهاية الممرّ. ولم اعرف الشخص لثوان. لكنّي أحسست بالصدمة عندما تبيّن لي أنني إنما كنت انظر إلى صورتي منعكسة في مرآة.
لقد كنت احتاج لأن أعرف أن الجدار كان مرآة قبل أن استطيع أن أرى نفسي فيه.
"العاصفة" لوحة يبدو أنها أفلتت حتى من أفضل التفسيرات التي حاولت فهم دلالاتها ومعانيها. لكن لأننا فقط لم نستطع التعرّف على أسماء الشخصيات في اللوحة أو وضعهم داخل سياق سردي معروف، لا يعني أن اللوحة عصيّة على التفسير أو أن لا معنى لها.
ولو كانت اللوحة قصّة رمزية، فمن المرجّح أنها رُسمت عمدا لتكون غامضة. وسرّها يعرفه الرسّام وراعيه الشابّ وربّما بضعة أشخاص آخرين قريبين منهما.
"العاصفة" كان يملكها شخص. ويقال انه كان لها غطاء يمكن فتحه كما تُفتح الخزانة. وعندها فقط يمكن رؤية الصورة الكامنة بداخلها.
هذه الطريقة في النظر إلى لوحة هي عنصر إغراء في حدّ ذاته. يُسمح للمتفرّج بفتح الباب ثم النظر إلى ما في الداخل. وما يراه عندما تكشف اللوحة عن نفسها ليس في حقيقة الأمر أكثر من عملية تلصّص أو استراق للنظر.
الرجل المرتبك تلفته المرأة العارية الغامضة والتي يبدو أنها لا تراه لكن جسدها يتحوّل باتجاهه. وعلاوة على ذلك هي ليست وحدها. معها طفل على صدرها. وهي حقيقة تبعدها عنه أكثر.
المرأة الجميلة في "العاصفة" ليست محظيّة أو خليلة تجلس في وضع اتكاء.
وجودها الايروتيكي تحدّده حقيقة أنها في هذه اللحظة وهي ترضع لا يمكن بلوغها، بل إنها أكثر استعصاءً ممّا لو لم يكن هناك طفل إلى جوارها.
كلّما نظرنا إلى لوحة، فإننا نحتلّ المكان الذي كان يشغله الرسّام الذي اختفى الآن، أي ذلك الجسد المختفي أو الوجود الشبحي الكامن وراء كلّ لوحة.
يقال إن كلّ لوحة هي في الواقع لوحتان. الأولى هي تلك التي تراها والثانية تلك التي تتذكّرها. أي أن كلّ لوحة تكشف عن نفسها مع مرور الزمن إلى أن تأخذ صورتها أو قصّتها النهائية في ذهن المتلقّي.
صورة جورجيوني تدخلك في مشهد يعلن عن نفسه كحلم أو كرؤيا داخلية.
عندما ننظر إلى الطبيعة في لوحات ليوناردو دافنشي نعرف أننا ننظر إلى طبيعة عاطفية.
في "العاصفة" نكتشف أن الريف ليس تمثيلا لمكان حقيقي.
الطقس سيّئ أيضا. لكن يبدو أن لا احد يلاحظ ذلك. ولو كانت هناك رياح فإنها لن تثير الأشجار كثيرا.
في لوحات جورجيوني، هناك حضور دائم للماء. البئر أو الغدير ذو الحوافّ المرمرية. الماء وهو يُسحب أو يُصبّ. المرأة التي تسكب الماء من دلو بيديها المزيّنتين بالجواهر بينما تستمع، ربّما، إلى أصوات قطرات الماء الرائعة كما لو أنها إيحاء بجمال الموسيقى نفسها. وطبيعة الرسّام مليئة بالصفاء وبآثار الماء وبالمطر العذب الذي يمرّ منعشا عبر الهواء قبل أن يستقرّ في القنوات والجداول المعشوشبة.
يقال أن جورجيوني مات شابّا بعد أن انتقل إليه مرض الطاعون من خليلته. كان شابّا على الدوام. ويخيّل إلي أن الرجل في مقدّمة اللوحة ليس مختلفا كثيرا عن جورجيوني الحقيقي.
"العاصفة" تأخذنا إلى عالم متخيّل من المرايا والصور المتعاكسة. وأعتقد أن هذه اللوحة ستقاوم دائما جميع محاولاتي لفهمها.
وهذا هو السبب في أنني سأعود للنظر إليها مرّة بعد أخرى.


Credits
italian-renaissance-art.com