:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الثلاثاء، نوفمبر 17، 2009

دورا مار

قبل أن آتي إلى بريطانيا منذ أكثر من ثلاثين عاما، تخلّصت من معظم ما كنّا نحتفظ به في منزلنا من لوحات فنّية، وذلك إمّا بإهدائها إلى بعض معارفنا أو وضعها في عهدة آخرين لحفظها.
وبعد سنوات، ندمت كثيرا على تفريطي في تلك اللوحات. إحداها ظلّت تؤرّقني دائما. كان قد أهداها لنا فنّان شابّ من غويانا. أتذكّر هدوء تلك اللوحة الغامض وألوان خلفيّتها الدافئة. الشخصيّة فيها ترتفع مثل أبي الهول من بين الأنقاض الزرقاء لجدار.
وعندما عدت لأرض الوطن بعد سنوات، بحثت عن اللوحة إلى أن وجدتها في بيت عائلتنا القديم. فأعدتها معي إلى انجلترا. وأصبحت اللوحة شاهدا على قوّة الفنّ الذي يلاحقنا ويلتصق بنا ويغذّي أرواحنا.
إن قدرة الفنان على تحويل ألوانه إلى أشكال ومشاعر كانت دائما تحيّرني وتدهشني. ولا يقلّ عن ذلك فتنةً ذلك التفاعل والعلاقة المتبادلة بين أشكال الفنّ المختلفة من شعر ونحت وموسيقى ورسم.
غير أن العلاقة بين الرسم والشعر، على وجه الخصوص، تتسم بالعمق والقوّة.
فالاثنان محصّلة لرغبتنا في أن نصنع من الاعتيادي والمألوف شيئا جديدا، وأن نلتقط تجربة أو خبرة معيّنة بطريقة حيّة ومركّزة.
وكلا الاثنين، أي الشعر والرسم، له تناغم وبنية ولون وإيقاع. ففي التوليف المتوازن للوحة ما، يمكن للمرء أن يتحدّث عن لون واحد تتناغم معه بقيّة الألوان.
قبل بضع سنوات، دُعيتُ لأكون الشاعر المقيم في تيت غاليري بلندن. كانت الإقامة تتضمّن التفاعل مع اللوحات من خلال الشعر وإقامة بعض ورش العمل مع أطفال من المدارس الابتدائية.
الأطفال الذين شاركوا في ورش العمل كتبوا قصائد يتفاعلون من خلالها مع بعض اللوحات بطريقة عفوية. وغالبا ما كانوا يضعون رسما إلى جانب قصائدهم.
كان الأمر أشبه ما يكون بالرسّامين الصينيين الذين كانوا يضعون بيتا من الشعر في المساحات الفارغة في لوحاتهم، ما سمح للرسم الصيني أن يتنفّس وأن يزدهر.
بالنسبة للأطفال، كان هذا الشيء أمرا طبيعيا جدّا. فليس هناك ثمّة انفصال بين الكلمة والصورة، أو بين الصفحة البيضاء ورقعة الرسم الفارغة.
وهناك العديد من الشعراء والرسّامين الذين مرّوا بهذه التجربة.
الشاعر الاسباني رافائيل البرتي بدأ حياته كرسّام واستمر كذلك. ثم صاغ في ما بعد مصطلح "ليريكوغرافيا" أو القصيدة المرسومة.
والشاعر الهندي رابندرانات طاغور كان على النقيض من ذلك. فقد بدأ كشاعر ثم وجد نفسه يرسم خربشات على هوامش قصائده. وفي ما بعد نال جائزة نوبل في الأدب وأدهش الكثيرين بتحوّله المتأخّر إلى الرسم.
والشاعر الكاريبي ديريك والكوت، وهو الأخر حاصل على نوبل للأدب، كان لسنوات يمارس الرسم باستخدام الألوان المائية. وكتابه الأخير يُعدّ بمثابة تكريم لـ كميل بيسارو الفنّان الانطباعي الفرنسي المولود في جزر الهند الغربية.
القصائد التي كتبتها أثناء إقامتي في تيت غاليري لم تكن محاولة لشرح اللوحات أو تناول سردها الخفيّ، بل كانت طريقة لرؤية اللوحة، وأحيانا محاولة لإعطائها صوتاً.
لكن، هل يمكن للقصيدة المعتمدة على لوحة أن تنمو من وجهة نظر المتفرّج أو من شخصية في داخل اللوحة نفسها؟ هل يقوم حوار بين الطرفين؟ لقد اكتشفت أن المنظور في الرسم وثيق الصلة بالصوت في الشعر.
"المرأة الباكية" لـ بيكاسو، بملامحها المنهكة والمكسورة وبصراع الألوان فيها، دفعتني لأن أعطي ذلك الوجه المؤرّق صوتا. وفي النهاية كتبت القصيدة التالية بصوت "دورا مار"، المرأة التي تصوّرها اللوحة.
يقولون انه بدلا من فرشاة، كان يستخدم سكّينا لرسمي.
نوعا من الهندسة الوحشية.
لكن، وكما أقول، حاول أن تنظر ثانية.
هذه اقرب نقطة يمكن أن يقترب فيها الإنسان من الألم.
الأخضر يعرفني. ليس لون البراعم الجديدة. بل الأخضر الشبحي للغانغرينا.
الأصفر يعرفني. ليس لون الشمس المبتهجة. بل الظلال المريضة لهذه الحرب.
الأزرق يعرفني. ليس لون السماء أو البحر الذي لا تحدّه حدود. بل كآبة المغنّي وحزنه العميق.
هذا الحزن يحكم قبضته عليّ. ومن مسافة بعيدة، اسمع صوت صراخي المكتوم".
كانت "دورا مار" مصوّرة وفنّانة موهوبة. وكانت إحدى عشيقات بيكاسو وملهماته الكثيرات. ويقال إنها كانت تعاني من انهيار عصبي بسبب تدهور العلاقة بينهما.
ودون وعي منّي، تطوّرت قصيدتي عن المرأة إلى سلسلة كاملة من القصائد.
كنت كما لو أنني ابحث في أسلوب بيكاسو التكعيبي المتشظّي عن صدى لصوت تلك المرأة الواهن الممزّق.
تجربتي في المتحف أعطت شغفي القديم بالرسم دفعة جديدة، وجعلتني أكثر معرفة بالتوازن والتوليف في اللوحة وبلعبة الضوء والظلّ والطاقة واللون.
والأهم من ذلك كلّه، أنني أصبحت أعي قوّة وحيوية الإيقاع الداخلي، بينما تتابع عيناي تلك المنحنيات والخطوط نزولا وصعودا ومن جميع الجهات. كما أصبحت الآن اقضي وقتا أطول مع الرسم.
إن التأثير البصري للوحة يمكن أن يكون فوريا. فكلّ شيء أمامنا: الصور والألوان والأشكال التي هي عبارة عن مهرجان مثير للعين.
في لمحة، يمكن أن نرى التوتّر في تمثال الراقصة الصغيرة لـ إدغار ديغا، والطاقة الهائلة في ضربات فرشاة فان غوخ والانفعالات المتناقضة الظاهرة على وجهه .
ورغم أن القصيدة تنتقل عادة بطريقة أكثر عمقا وتساميا، فإنها تكشف عن تجلّياتها من خلال الحواسّ ومع مرور الوقت. ومع ذلك، قد لا يصل إلينا المعنى إلا بعد انتهاء القصيدة بوقت قد يطول أو يقصر.
ورغم أهمّية الموسيقى في القصيدة، فإن قوّة الصور في الشعر؛ الصور التي تنشئها الكلمات، هي التي تبقى في الذاكرة وتسكن المخيّلة وتجلب لنا المفاجأة والبهجة.
- غريس نيكولز، شاعرة بريطانية "مترجم"