:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الأربعاء، نوفمبر 25، 2009

ورق سولوفان

منذ أيّام، سمعت القصّة التالية من عامل كهربائي يشتغل بأحد محلات السباكة والكهرباء.
قال: جاءني في المحلّ قبل يومين شخص طلب منّي أن اذهب معه لإصلاح عطل هاتفي في منزل كفيله. وفعلا ذهبت مع الرجل إلى المكان الذي وصفه.
وفي الطريق حدّثني عن عمّه فقال انه من أعيان المجتمع وأن الله آتاه رزقا وافرا وانه ينفق من ثروته على بناء المساجد داخل البلاد وخارجها. وأضاف انه لا يكاد يمرّ شهر دون أن تنشر الصحف خبرا عن بناء مسجد أو جامع جديد في هذا البلد أو ذاك على نفقة ذلك الرجل التقيّ الورع.
كنت اسمع هذا الكلام بكثير من الارتياح والفرح. وقلت في نفسي: جزى الله هذا الرجل الصالح خيرا على غيرته على الدين وحرصه على إعلاء كلمة الله في كلّ الأماكن والأصقاع.
المهم، بعد مسيرة نصف ساعة وصلنا إلى المنزل الذي كانت هيئته تشي بمكانة الرجل وأهميّته وقيمته الاجتماعية العالية.
وأخذني العامل إلى حيث يجب أن أباشر إصلاح الخلل. وبعد حوالي ساعتين من الجهد المضني الذي تطلّب تفكيك "السويتش بورد" وترتيب المفاتيح والخطوط والوصلات والأسلاك لإعادتها إلى وضعها الصحيح، اصطحبني العامل إلى الشيخ كي يعطيني أجري. وعندما رآني قال: كيف العمل؟ قلت: تمام، الآن أصبح كلّ شيء على ما يرام.
ثم سألني: كم تريد أجرا؟ وقبل أن أجيب قاطعني قائلا: عشرة ريالات؟! قلت: اجري خمسون ريالا. ثم اخرج من جيبه عشرة ريالات وأعطاها للعامل كي يناولني إيّاها. ولاحظت أن العامل تردّد في اخذ الورقة وكأنه يريد إفهام الرجل أن المبلغ قليل وغير كاف. لكنه لم يكترث. فتدخّلت قائلا: خلاص، أنا متنازل عن حقّي. حتى العشرة ريالات لا أريدها وبإمكانك أن تحتفظ بها ورزقي على الله. لكن الرجل لم يحرّك ساكنا ولم يلبث أن تركنا وانصرف. بعدها غادرت المكان وأخذت تاكسيّا أعادني إلى المحلّ".
انتهى العامل من سرد قصّته وأخذت أفكّر في مغزى ما سمعته. هذا الرجل يملك الملايين وربّما المليارات وهو يبني المساجد في كلّ مكان كما قيل. أي انه يحبّ عمل الخير. ومع ذلك لا يتردّد في هضم حقوق الآخرين لدرجة انه يستكثر أن يدفع لعامل فقير مبلغا تافها مقابل الخدمة التي أدّاها له.
وتأكّد لي مرّة أخرى صدق ما ترسّخ لديّ من انطباع، وهو أن كثيرا من مظاهر التديّن والتقى التي نراها من حولنا ليست في واقع الأمر سوى أقنعة برّاقة يضعها أصحابها التماسا للوجاهة والبروز الاجتماعي ومن اجل الضحك على الآخرين وخداعهم.
ثم تذكّرت ملاحظة أبداها لي صديق قبل فترة عندما قال انه لكثرة ما أصبحَت المظاهر الدينية نوعا من البيزنس وطريقا للتسلّق والظهور وحيلة لممارسة النصب والاحتيال فإنه صار يفضّل التعامل مع حليقي الوجوه ويثق بهم أكثر من الأشخاص الذين تبدو عليهم مظاهر التديّن السطحية من لحية وثوب قصير وزبيبة ومسواك وما إلى ذلك.
وبالتأكيد، فإن لكلّ قاعدة شواذّا. فهناك أناس متديّنون شكلا ومضمونا وسلوكهم يتسمّ بالصدق والنزاهة والاستقامة.
لكنّهم للأسف قليلون ونادرون هذه الأيّام.