:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الأحد، ديسمبر 20، 2009

أفق الكلمات

جميع السلالم تؤدّي إلى أعلى وأسفل بنفس الوقت. إنها وسيلتنا للتحرّك إلى أماكن يتعذّر علينا الوصول إليها.
أحيانا تكون السلالم أداة جيّدة للملاحظة وأحيانا تكون خطرة.
الذي يصعد فوق سلّم يتعيّن عليه أن يكون متنبّها ونشطاً. السلبية لا توصلك إلى مساحات جديدة. إننا نطمح إلى أن نتحرّر من الجاذبية ومن الأرض. البعض يريد الوصول إلى السماء، النجوم، الهواء والأجزاء الخارجية لكوننا.
وطوال تاريخ الفنّ كانت السلالم رمزا لتحقيق التفوّق. فنحن نتوق دائما لأن نرتفع، لأن نذهب إلى الأعماق ونصل إلى منظور مختلف.
السماء والأرض لم تعودا موجودتين بالمفهوم القديم. فالأرض مستديرة. والكون نفسه ليست له مصاعد أو مهابط. إنه يتحرّك باستمرار. ولم يعد بإمكاننا إصلاح النجوم لخلق مكان مثالي. وهذه معضلة.
إن من الطبيعي أن نبحث عن بداياتنا؛ عن المكان الذي أتينا منه في البداية. لكن لا يجب أن نفترض أن له اتجاها واحدا. إننا نعيش الآن في "مستقبل" علمي لم يستطع الفلاسفة والحكماء المتقدّمون أن يتنبّئوا به، لكنهم فهموا جيّدا العلاقة الأساسية بين السماء والأرض التي نسيناها. الكتب القديمة تصف المراحل والاستعارات والرموز التي تطفو في كلّ مكان. الأمر أشبه ما يكون برحلة روحية نحو الإدراك والكمال.
الشمال والشرق والجنوب والغرب والمرتفع والمنخفض ليست قضايا مكانية. بالنسبة لي، هذه أشياء لها علاقة بالزمن. الماضي والحاضر والمستقبل هي في جوهرها رموز تتحرّك في جميع الاتجاهات.
إننا لا نستطيع أن نهرب من الدِين. لكن هناك فرقا بين السماء والأرض. وأحدهما لا يقود إلى الآخر بالضرورة.
هناك فنّانون كثر واجهوا مشاكل وهم في طريقهم إلى "الجنّة". وهناك فلاسفة أيضا مثل ماركس وهيغل وماو وفاغنر واجهوا نفس المشاكل. كلّهم جميعا كانوا يبحثون عن مكانهم، عن جنّتهم، عن خلاصهم من خلال الفلسفة والفنّ والدِين.
إن رقعة الرسم تمثّل فكرة الفنان عن ارتباط السماء والأرض. الفنّان يعمل هنا لكنه ينظر إلى هناك، إلى فوق. وهو يتحرّك دائما بين العالَمَين. الفنّانون يشبهون السحرة القدامى الذين كانوا يمارسون التأمّل في شجرة كي يعلّقوا أنفسهم بين السماء والأرض. اللوحة يمكن أن تغيّر الواقع باقتراح رؤى جديدة. إذ يمكنك أن تقول إن الرؤيا تجد طريقها إلى العالم المادّي من خلال اللوحة.
إنني أنظّم صوري ولوحاتي اعتمادا على مفهوم أن لا شيء ثابت في مكانه. الآلات الطائرة لعبت أدوارا مهمّة في التاريخ وكانت تمثّل طموحات العلوّ والقوّة العسكرية منذ ايكاروس إلى عصر الصواريخ المسافرة للقمر.
إن كلّ القصص عن السماء بدأت على الأرض. والسماء والأرض في لوحاتي مترادفتان. بعض اللوحات يمكنك أن تقلبها رأسا على عقب ومع ذلك ما تزال تحمل رسائلها، كما لو أن السماء والأرض تتبادلان هويّتيهما.
عندما تحفر في الأرض قد تجد شيئا ما، ماءً، نيزكا مدفونا، جرماً من السماء. هذه الأنواع من الصور تعمل دائما بين الكون الكبير والكون الصغير. مجرّة درب التبّانة التي رُصدت منذ آلاف السنين كمجموعة كبيرة ومتمدّدة، هي في الحقيقة شيء صغير في الكون. إنها تشبه بركة صغيرة موحلة على الأرض.
إن خلق سماء وأرض هي طريقة نحاول من خلالها أن نحدّد اتجاهاتنا. لكنّ الفضاء الكوني لا يفهم هذا. فكلّ شيء في هذا الكون نسبي. ما هو كبير يمكن في الحقيقة أن يكون صغيرا جدّا، وما هو أعلى يمكن أن يكون أسفل.
العلماء وصفوا النجوم وأعطوها أسماءً وأرقاما، بل وربطوا في ما بينها بخطوط تشير إلى بعد النجم ولونه وحجمه.. إلى آخره. هذه هي السماء "العِلمية". لكنها بطبيعة الحال مجرّد وهم. كلّ المجرّات والأبراج هي أوهام وأشباح. إنها غير موجودة في الواقع المحسوس. الضوء الذي نراه اليوم انبعث منذ ملايين أو بلايين السنين. ومصادر الضوء ظلّت تتغيّر باستمرار وتتحرّك وتموت.
هذه الأضواء التي نراها في السماء لا علاقة لها بواقعنا. نحن خائفون، لذا كان يتعيّن علينا أن نوجد معنى لهذا العالم. ولا نستطيع أن نتحمّل أن لا يكون هناك سماء في عقولنا. لو أن هناك سماءً حقّا لوُجِدت خارج العلم والدِين.
لذلك فالعلماء يصنعون قبّة السماء الخاصّة بهم. يريدون أن يعثروا على سماء أيضا، لكن نجومهم دائما تتحرّك، ودائما تموت، وبعضها ينفجر مكوّنا نجوما جديدة.
العلماء يشبِهون الفنّانين إلى حدّ كبير. نجومهم مثل تلك الأجزاء من الذاكرة التي تجد طريقها إلى لوحة. إنها تتوقّف فقط في اللحظة التي تثبّت عليها عينيك ثم لا تلبث أن تغيّر المكان لترى بعد ذلك شيئا آخر مختلفا.
- آنسيلم كيفر، فنّان ومفكّر ألماني