:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الاثنين، يناير 11، 2010

ديلاكروا ومصرع كليوباترا

تعتبر كليوباترا إحدى الشخصيّات التاريخية المهمّة التي تناولها الأدب والفنّ.
كانت مشهورة بقسوتها ضدّ خصومها وبدهائها وبجاذبيّتها وسحرها.
مصرع كليوباترا بالسم كان دائما موضوعا مفضّلا للكثير من الرسّامين مثل الكسندر كابانيل وآرثر رينالد وجان اندريه ريكسن.
المقال المترجم التالي يتناول رؤية الرسّام الفرنسي اوجين ديلاكروا لشخصية كليوباترا وواقعة موتها الغامض.



لوحة ديلاكروا "كليوباترا والفلاح" ليست فقط لوحة جميلة ومشرقة لملكة مصر القديمة، لكنّها أيضا رسالة قويّة عن جدلية العلاقة بين الحبّ والسلطة.
أوّل ما يجذب الانتباه في اللوحة هو كليوباترا نفسها. هذه الصورة لها مختلفة كثيرا عن صورتها النمطية كامرأة سمراء، كما يقدّمها الفنّ الحديث.
في لوحة ديلاكروا تبدو كليوباترا في هيئة شاحبة. غير أنها ترتدي ملابس ملوكية جدّا مع الكثير من الحليّ والمجوهرات على معصميها وعنقها ورأسها، بالإضافة إلى فستان من الحرير بلون وردي.
كليوباترا في اللوحة تثير الانتباه بسبب التعابير التي على وجهها في المقام الأوّل. إنها تحدّق في الأفعى كما لو أنها في حالة نشوة.
الفلاح، إلى اليسار، يبدو أكثر قتامة من كليوباترا. لحيته سوداء كثّة وغير مشذّبة. وهو يلبس رداءً من جلد النمر يلفّه حول نفسه. وتحت الرداء سلّة من الفاكهة. يداه تبدوان متغضّنتين، ربّما بسبب المجهود العضلي الذي يبذله بحكم مهنته.
سلّة الفاكهة تحت جلد النمر تحتوي على حبّات من التين الأحمر. وعلى التين أفعى.
المُزارع يبدو معتدّا بنفسه إلى حدّ ما. لكن لا تبدو ملامحه جادّة كثيرا.
في اللوحة ثمّة تركيز خاصّ على الجانب الأيسر، على اعتبار انه لا توجد تفاصيل كثيرة في الجانب الأيمن، بالإضافة إلى حقيقة أن كليوباترا تحدّق في ذلك الجانب بالذات، أي الأيسر.
درَس ديلاكروا الأدب الانجليزي، وخاصّة مسرحيات شكسبير. في مسرحية "انتوني وكليوباترا"، بعد أن يُقتَل مارك انتوني تحاول كليوباترا قتل نفسها مفضّلة الموت على الوقوع أسيرة بيد اوغستوس قيصر. هذا هو المشهد الذي بنى عليه ديلاكروا لوحته.
من الواضح أن كليوباترا في حالة كرب. لكن، لماذا تستثير الأفعى كلّ هذا الإحساس بالخطر والموت المحدق؟
لآلاف السنين، استخدمت الأفاعي كرمز للموت. وفي بعض المعتقدات القديمة فإن المعنى الرمزي للأفعى أتى من خاصّية تغييرها لجلدها، ما جعلها رمزا قويّا للانبعاث والولادة الثانية.
في سياق مشهد شكسبير، تعلن كليوباترا أنها تفضّل الموت على الأسر. وهذا يثبت أنها كانت قد تحرّرت من خوفها من الموت وقبلته عندما رأت الأفعى.
وفي المسرحية، كما في الرواية التاريخية، فإن كليوباترا تقتل نفسها عن طريق لدغة أفعى.
كانت الأفاعي دائما رمزا تاريخيا للشرّ. وأفضل مثال على ذلك الأفعى التي أقنعت حوّاء بأكل التفّاحة في جنّات عدن. وفي ثنايا القصّة القديمة أوجه شبه مع المضمون الرمزي للوحة ديلاكروا.
في المسيحية، ترمز أشجار التين لمحبّة الله للبشر. صحيح أن كليوباترا لم تكن مسيحية. لكن اللوحة رُسمت في فرنسا منتصف القرن التاسع عشر، وهي بلد مسيحي. لكنْ لأن ديلاكروا كان يعرف طبيعة الجمهور الذي يتوجّه إليه، فقد تعمّد تضمين اللوحة رموزا مسيحية. وقد يكون أراد أن يقول شيئا ما عن سعي الحاكم وراء السلطة. فقد كانت كليوباترا تعرف أن حكمها كملكة على مصر في حكم المنتهي. وقد يكون هذا هو السبب الأساسي في أنها قرّرت أن تموت.
وملابسها الباذخة ومجوهراتها الفارهة لا تبدو منسجمة مع تعابير وجهها المحبطة.
كليوباترا تدرك أنها على وشك أن تُجرّد من كلّ رفاهية وهيلمان الملك. وهي ترى أن الأفعى السامّة هي التي ستحقّق لها أمنيتها الأخيرة القاتلة.
بالنسبة لـ انتوني، كانت كليوباترا تستحقّ أن يضحّي من اجلها بسمعته وبكلّ ما يملكه. وقد غامر بمصلحة بلده وباسمه وكبريائه من اجل أن يظفر بحبّها.
وهو كان قد وقع للتوّ بيد القيصر ثم لم يلبث أن قُتل، بينما تجلس هي بانتظار مصير لا يقلّ إذلالا.
وكان الرومان قد خطّطوا لأن يعرضوا كليوباترا في شوارعهم في محاولة لتدمير مكانتها والاستخفاف بأصلها الملوكي.
في اللوحة ظلام مخيّم مصدره الألوان البنّية والسوداء القاتمة. وفي طريقة اتكاء كليوباترا على ذراعها الأيمن وتحديقها الغريب في الأفعى دعوة للناظر لأن يكتشف الواقع الذي يكمن وراء هذا الإحساس المفاجئ بالمصيبة والموت.
ملامح وجه الفلاح تشبه ملامح المهرّج. كما أن سمات شخصيّته منمّقة بوضوح. هو يحاول أن يجلب الراحة لملكته، وهذا واضح في طريقة وقوفه وابتسامته.
الشكل الذاوي للأفعى يبدو الشيء الوحيد الذي يتحرّك في هذه اللوحة. وقد تكون، أي الأفعى، أهمّ عناصرها الواقعية.
من الواضح أن تعابير كليوباترا متأثّرة بمنظر الأفعى. ومع ذلك، فإن ابتسامة الفلاح تخلق الانطباع بأنه يعرض ما في السلّة على الملكة بطيب خاطر. وبالرغم من هذا العرض الغريب وغير المألوف، فإن الملكة لا تُظهر أيّ إحساس بالخوف أو الصدمة.
في مسرحية شكسبير، بمجرّد أن يقنع الفلاح كليوباترا بالأخطار الممكنة للأفعى تأمره هي بالخروج من غرفتها. غير انه يبادرها بقوله: احترسي! لا يجب الوثوق بأفعى. كما لا ينبغي أن توضع سوى في عهدة شخص حكيم".
الخيوط الخفيّة التي خبّأها ديلاكروا في التفاصيل الشائكة والدقيقة للوحة لا تقود الناظر إلى مصدر وسرّ معاناة كليوباترا فحسب، وإنما أيضا إلى الجمال والغموض اللذين يكمنان خلف تصرّفاتها.
وترجمة ديلاكروا لمسرحية شكسبير تحتوي على مستوى من العبقرية يتضح من خلال الأسلوب وغنى الألوان وسطوعها وحركة الفرشاة المهتزّة والتوليف المضطرب الذي يسهم في تكثيف توتّر جوّ اللوحة.
رُسمت هذه اللوحة عام 1838، أي بعد عشرين عاما مما عُرف بالمائة يوم الأخيرة لـ نابليون.
وهناك احتمال أن كليوباترا في اللوحة تمثّل سعي الزعيم الفرنسي وراء السلطة وفشله المحتوم.
ومن المثير للاهتمام أيضا أن نعرف أن ديلاكروا رسم اللوحة خلال حكم لويس فيليب الذي أطيح به في العام 1848م.
وبناءً عليه، قد يكون الرسّام أراد للوحة أن تكون رمزا لفشل الملكية الحتمي. فالفلاح يقف بالقرب من كليوباترا ويبدو في حال أفضل من حالها لجهة مقدرته في الحفاظ على حياته.
الطبقات الشعورية في اللوحة تقدّم مثالا رائعا على طبيعة اللوحات الرومانتيكية. وكليوباترا مرسومة بطريقة فريدة. وإذا لم يُقدّر لك أن تنظر باهتمام وتفحّص إلى اللوحة فقد لا ترى الأفعى الملتصقة بثمار التين. كما أن المزج بين الجمال الواقعي والدلالة الرمزية في اللوحة يجعل منها إحدى أهمّ اللوحات في تاريخ الفنّ.