:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الخميس، فبراير 11، 2010

درس من الحياة

القويّ يفترس الضعيف. هذا ما تقوله اللوحة فوق. السمك القويّ يأكل السمك الضعيف. والإنسان بدوره يأكل السمك كبيره وصغيره. القاعدة نفسها تنطبق على دنيا البشر. أحيانا، أتصوّر أن السبب الأول في تعاسة البشر يمكن تلخيصه في كلمة واحدة: الأنانية. حبّ الامتلاك والتطلّع إلى ما بأيدي الآخرين ومحاولة انتزاعه دون وجه حقّ هي من الأمور التي تتسبّب في الفقر وتجلب البؤس والتعاسة وتزرع الحقد في النفوس وتغذّي الصراعات بين بني الإنسان. ولو تمعّنت في تفاصيل المشهد الذي تصوّره اللوحة ستكتشف أن الجميع آكل ومأكول وقاتل ومقتول. رائحة السمك تكاد تشمّها في الجوّ. ولفرط الصراع والانهماك في الفتك والذبح والافتراس يتحوّل الرجل إلى اليسار إلى ما يشبه السمكة.
اليوم قرأت في أخبار الياهو قصّة لا يبتعد موضوعها كثيرا عن مضمون اللوحة. وجدير بكلّ منشغل بجمع المال، سواءً بالحلال أو الحرام، أن يتأمّل الدرس البليغ الذي يقدّمه المواطن البريطاني كارل رابيدر. كارل كان قبل سنوات إنسانا فقيرا ومعدما. وبعد كفاح طويل، استطاع أن يجمع ثروة تقدّر بأكثر من ثلاثة ملايين جنيه استرليني. لكنه اكتشف أن المال لم يجلب له السعادة التي كان يتمنّاها فقرّر التخلّص من كلّ ثروته بالتبرّع بها إلى الجمعيات الخيرية.
وقد صرّح لبعض الصحف بقوله انه قرّر إنفاق كلّ سنت من ثروته، لأنه اكتشف أن لا جدوى من جمع المال، كما أن المال لا يجلب السعادة. وقال أيضا انه سينتقل من منزله الفخم في جبال الألب ليسكن بيتا متواضعا من الخشب.
وأضاف رابيدر: كنت اعتقد أن الثروة والترف يعنيان المزيد من السعادة. لكن مع مرور الوقت اكتشفت أنني كنت اشتغل كالعبيد كي أحقّق أشياء لم أكن أتمنّاها ولا احتاجها. ولديّ شعور أن الكثير من الأغنياء يساورهم نفس هذا الإحساس".
هذا الرجل يقدّم مثالا رائعا في نبذ الأنانية والتضحية من أجل الآخرين. مع أن البعض ربّما يعتبره شخصا ساذجا وأن تصرّفه يفتقر للحكمة والحصافة.
وقد أعجبني كلام بعض القرّاء ممّن علّقوا على القصّة. احدهم كتب قائلا: المشكلة أننا في هذا العصر الاستهلاكي نضع لأنفسنا الكثير من المطالب دون أن نحقّق أوّلا احتياجاتنا الأساسية. شركات السيارات تنصحنا بشراء الموديل الفلاني لأنه يحقق لنا السعادة، فنكتشف بعد أسابيع أننا أصبحنا فريسة للديون وجشع البنوك مقابل قطعة من الحديد. وشركات الالكترونيات تعدنا بالسعادة إن اشترينا جهاز تلفزيون بشاشة عريضة، والنتيجة أننا نجلس أمام التلفزيون لساعات طوال وننسى احتياجاتنا الإنسانية والتزاماتنا العائلية والاجتماعية".
وقال آخر: إنني احترم الدرس الذي يقدّمه هذا الرجل. وإن كنت اشكّ كثيرا في أن لديه زوجة".
وكتب ثالث: لقد فقدت وظيفتي وبعت منزلي وعن قريب سأفقد كلّ شيء عملت من اجله. وأتمنى أن أكون سعيدا مثله، وإن كنت اشكّ في ذلك".
شخصيا، اعتقد لو أن الكثيرين من أصحاب المليارات والأموال الطائلة في أوطاننا اكتشفوا مبكّرا ما عرفه هذا الرجل لعاد ذلك عليهم بالخير ولتقلّصت مساحة الفقر والبؤس في مجتمعاتهم. الأنانية والجشع وحبّ الامتلاك خصال نقيضة للسخاء والإيثار والعطف. أحيانا أتساءل كيف لإنسان أن يهنأ بالثروة ويذوق طعم السعادة وهو يرى من حوله أناسا يتناوشهم الفقر والبؤس وذلّ الحاجة.
وهذا الرجل اكتشف ما لا يتمكّن الكثيرون من إدراكه إلا بعد زمن طويل. وهو أن الثروة لا تجلب السعادة لصاحبها بالضرورة. يمكن للمال أن يجعل الحياة أسهل، لكنه قد يشكّل عبئا على صاحبه فيحرمه راحة البال ويسلب منه سلامه الداخلي.