:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الأربعاء، مارس 10، 2010

شاعر البيانو

في موسيقى شوبان شاعرية وأصالة. سيولة وانسيابية ألحانه على البيانو لا يمكن وصفها. وقد بلغ من خلالها أعلى درجات الإبداع. لذا يقال إن شوبان فعل للبيانو ما فعله شوبيرت للصوت. شوبان متفرّد كعازف للبيانو. ومن هذه الناحية بالذات لا يمكن مقارنته بأيّ موسيقي آخر.
وصفته رفيقته الأديبة الفرنسية جورج صاند مرّة بأنه "كان يغلق باب غرفته على نفسه لأيّام ويكسر أقلامه ويكتب ويمحو مئات المرّات. وقد كتب شوبان قطعتين من نوع المازوركا أو الرقصات البولندية وهما تعادلان أربعين رواية وتتفوّقان على سائر ما كُتب من أعمال أدبية طوال قرن كامل.
عندما حضرته الوفاة وهو في سنّ التاسعة والثلاثين قال لمن حوله: اشعر أن الأرض خانقة. وهذا السعال يكاد يمزّقني. أتوسّل إليكم أن تتفحصّوا جسدي جيّدا كي لا ادفن حيّا. ولا تنسوا أن تعزفوا موزارت في جنازتي".
المعروف أن شوبان ولد في بولندا لأب فرنسي وأمّ بولندية. لكنه انتقل في ما بعد ليعيش في فرنسا. وبعد وفاته دُفن جثمانه في باريس بينما وضع قلبه في آنية كريستال وأودع داخل عمود بإحدى كنائس وارسو.
في المقال التالي تتناول آن ميدغيت جوانب من حياة شوبان وموسيقاه لمناسبة الاحتفال بمرور مائتي عام على ولادته.

موسيقى شوبان ما تزال إلى اليوم عصيّة على الفهم. المعروف انه لم يكتب سيمفونيات ولا أوبرا. لكن جميع قطعه التي ألفها للبيانو شاعرية وجميلة. مع أن الكثير منها معقّد وصعب من الناحية الهارمونية.
مجموعة معزوفاته المسمّاة بـ الاتيودات Etudes ليست سهلة أبدا. بل ومن الصعب تعليمها لطلاب الموسيقى. وقد بلغ من صعوبتها أن عازف البيانو الكبير والمتخصّص في موسيقى شوبان آرثر روبنسون كان يتجنّب عزف بعضها نظرا لعمقها وتعقيدها، مع أنها توفّر للسامع متعة كبيرة.
أسلوب شوبان فريد من نوعه وخاصّ، وقد كان دائما موضوعا لنقاشات لا تنتهي. موسيقاه ذات لمسة خفيفة وصافية وتعطي انطباعا واهما بأن الموسيقيّ يخلق خطّا لا ينكسر من الصوت يشبه صوت الإنسان. وهذا واضح جدّا في مجموعة موسيقاه التأمّلية والحالمة المسمّاة النوكتيرن Nocturnes والتي يشبّهها البعض بموسيقى أوبرا صديقه فينسينزو بيليني.
ويقال إن شوبان لم يكن حرّا تماما كعازف بيانو، فهناك من الدلائل ما يشير إلى أن اهتزازات مطّردة كانت تنتاب يده اليسرى طوال الوقت.
أحيانا توصف موسيقى شوبان بأنها موسيقى صالونات. أي أنها ليست جادّة. كما أنها ليست ألمانية تماما لأنها لا تلتزم بالتقاليد الموسيقية لمدرسة فيينّا الكلاسيكية العظيمة.
النظرية التي تقول بهشاشة موسيقاه تبدو مرتبطة بالفكرة الرائجة عن شوبان. فهو كان نموذجا للعبقريّ الرومانسي. كان شاحبا ورقيق الحال، كما قُدّر له أن يموت بطريقة مأساوية وهو بعد في سنّ صغيرة نسبيا بعد إصابته بالسلّ. كان يحتاج لعناية امرأة تقوم مقام الأمّ وقد وجدها في شخص الأديبة جورج صاند.
كان شوبان يتلقّى ومضة الإلهام المقدّسة وهو جالس أمام البيانو. ورغم انه كان بارعا في الارتجال، إلا انه كان يبذل جهودا مضنية في تأليف موسيقاه.
كان شوبان مختلفا عن الكثير من معاصريه في انه لم يكن متأثرا بـ بيتهوفن. ولطالما عبّر عن امتعاضه من بداية الحركة الأخيرة من السيمفونية الخامسة. ويبدو أن تأثّره الحقيقيّ كان بـ باخ، خاصّة في مراحل حياته المبكّرة.
ومثل باخ، كان شوبان يكتب موسيقاه في مجموعات، من قبيل استهلالاته الأربع والعشرين Preludes، وموسيقاه التأمّلية أو مجموعة النوكتيرن الحافلة بالتعبيرات الرومانسية.
لكنّه كان رائدا في تأليف الرقصات البولندية "البولونيز والمازوركا" التي تعتمد على أفكار مستوحاة من الموسيقى البولندية والتي كانت تعتبر مثالا على تمسّكه بالمشاعر الوطنية. كان شوبان يتعامل مع مشاعره القومية بجدّية. لكنه أيضا استوحى بعض الألوان الفولكلورية المحليّة مثل الكونشيرتو التركي لـ موزارت والرقصات الهنغارية لـ برامز.
عندما ذهب شوبان إلى فيينّا وهو شابّ، قبل أن يستقرّ في باريس، كان يأنف من موسيقى الفالس الراقصة ويعتبرها ضربا من الموسيقى الشعبية التي تعبّر عن ذائقة رديئة. ومع ذلك، فقد بدأ يكتب موسيقى فالس خاصّة به. صحيح انه ليس من نوعية الفالس الذي يمكن أن يرقص له الإنسان، لكنه مع ذلك يستدعي أجواء ساحات الرقص والفساتين الفضفاضة والملتوية.
وقد ظهر حديثا تسجيلان لـ فالسات شوبان لكلّ من اليس سارا اوت alice-sara-ott.com وانغريد فليتر ingridfliter.com، وكلاهما عازفتا بيانو موهوبتان. لكنّ سماع كلّ فالسات شوبان دفعة واحدة يشبه التهام علبة من الشوكولاته، إذ تتركك وأنت تشعر باعتلال في الكبد والمعدة، مع أن كلا منها له مواطن قوّته الخاصّة به.
إن التعامل مع فالسات شوبان ينطوي على الكثير من الصعوبة. وعزفها يشبه عبور الخط الفاصل بين العاطفة والانفعال، بين الإحساس بشيء ما والنظر إلى الوراء بتوق في محاولة لفهم طبيعة ذلك الإحساس.
الرقصات التي استخدمها شوبان هي نوع من التعليق الاجتماعي. ويقال الآن أن النوستالجيا تهدّد بتزوير كلّ شيء هذه الأيام. وأحد الأسرار الكبيرة في عزف موسيقى شوبان قد تكون، ببساطة، أن نتذكّر أن الموسيقى ليست بالجمال الذي تُعزف به.

Credits
study.com