:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الجمعة، يونيو 25، 2010

اللون الأسود: الإشارات والرموز


اللون الأسود لون غريب ومحيّر. الرسّامون يتجنّبون استخدامه إلا نادرا. معاني ودلالات هذا اللون في الثقافة واللغة سلبيّة في معظمها: السحر الأسود، السوق السوداء، الموت الأسود، الثقوب السوداء، التاريخ الأسود.. إلى آخره. في الثقافة الشعبية يقال "هذا يوم اسود" في إشارة إلى كارثة أو مأساة. ويقال أيضا "فلان قلبه اسود" للتدليل على حقده وحبّه للشر. وهناك أيضا القائمة السوداء التي تتضمّن أسماء أشخاص أو منظّمات تستحق المقاطعة أو العقوبة.
غير أن بعض النساء يفضّلن الأسود لأنه كلاسيكي ويُظهرهنّ بقوام أكثر نحافة. مع أن بعض علماء النفس يقولون إن المرأة التي تفضّل الأسود ذات شخصية انقيادية وتميل إلى الخضوع للرجل. الأسود أيضا لون يدلّ على السلطة والهيبة. ربّما لهذا السبب يرتديه القضاة في المحاكم. وهو أحيانا يعطي معنى الخضوع والاستسلام، لذا يستخدمه الرهبان ورجال الدين.
في الموسيقى الكلاسيكية يرتدي العازفون لباسا موحّدا من الأسود.
وكثيرا ما يرمز الأسود للتكتّم والسرّية. وهناك مصطلح الخروف الأسود الذي يشير إلى الشخص الرديء أو غير المحترم في عائلة أو جماعة.
هناك أيضا مصطلح الكوميديا السوداء التي يعبّر عنها القول الشائع "شرّ المصيبة ما يضحك". وفي عالم الطبيعة هناك الأرملة السوداء أو أنثى العنكبوت التي تقتل ذكرها.
الرسّامون أيضا منقسمون في نظرتهم للون الأسود. التجريديون، مثلا، استخدموه كثيرا في أشكالهم ورسوماتهم. ومانيه قال عنه مرّة : الأسود ليس لونا. ورينوار اكتشف بعد سنوات طويلة أن الأسود ملك الألوان. وجورجيا اوكيف، الرسّامة الأمريكية، كانت تعتقد أن اللون الأسود يخفي في أعماقه سرّا دفينا وغامضا. كما أن لوحات غويا السوداء أصبحت ترمز لليأس والتشاؤم والموت.
غير أن أشهر لوحة اقترنت بهذا اللون هي المربّع الأسود للرسّام الروسي كاسيمير ماليفيتش والتي أصبحت في ما بعد إحدى أيقونات الفنّ الحديث.
الموضوع المترجم التالي يستعرض الممرّات والدروب المظلمة التي سلكها اللون الأسود عبر تاريخه الطويل وكذلك الإشارات والرموز التي أصبح مرتبطا بها.

نتحدّث كثيرا عن الألوان كما لو أنها أشياء مادّية ثابتة في حياتنا اليومية. نقول أحيانا هذا اللون بارد وذاك دافئ، مع أننا من خلال هذه التوصيفات نخلع على الألوان تلقائيا استعارات وتشبيهات غامضة. في كتابه عن نظرية الألوان، درس الفيلسوف والشاعر الألماني غوته التأثيرات السايكولوجية للألوان. وقال إن اللون ما هو إلا "ضوء مضطرب". غير انه ليس هناك من الألوان ما هو أكثر إثارة للاضطراب والفتنة من اللون الأسود. لكن هل يمكن أن نطلق على الأسود وصف لون؟ غوته نفسه لم يكن متأكّدا من هذا.
إننا نرى الأسود كسطح يمتصّ جميع ألوان الطيف المرئي. وهو دائما يحتفظ بهالة خاصّة وغامضة. كما كان له تأثيره الكبير على الرسّامين.
بِيت موندريان الذي كان معجبا بنظريات غوته استخدم الأسود بطريقة مؤثّرة جدّا في أشكاله التجريدية ذات الخطوط الأفقية والعمودية. بالنسبة له لم يكن الأسود لونا. آد راينهارت الذي درس لوحات موندريان نقل الموضوع خطوة ابعد عندما قال إن الأسود هو لون نفي. انه ينفي جميع الألوان الأخرى. الجانب الغامض من الأسود كان يروق كثيرا للرسّامين.
بول كْلِي قال انه لا يمكن عقلنة الأسود وليس مطلوبا أن نفهمه. بالنسبة له، الأسود هو تعبير عن البدائية. تعليقات كْلي تشير إلى الأصول القديمة للون الأسود، أي إلى الزمن الذي لم يكن الإنسان بعد قد روّض النار أو استخدمها لإضاءة ساعات الظلام.
في فيلم اوديسّا الفضاء لـ ستانلي كوبريك، يظهر بشكل غير متوقّع عمود اسود غامض في الأيّام الأولى لوجود البشر على كوكب الأرض. وعندما يهبط الليل، يبعث مرأى ذلك العمود الغامض الشكّ والهلع في نفوس القِرَدَة.


ترى هل يكون الأسود منزرعا في أعمق أعماق دماغ الإنسان؟ هل هو جزء من تجربة التطوّر التي مرّ بها البشر عبر آلاف السنين؟ ليس ثمّة إجابة واضحة عن هذا السؤال بالرغم من التقدّم الكبير الذي ُانجز في مجال البحوث والدراسات العصبيّة. وكلّ ما نعرفه على وجه اليقين هو أن هذا اللون يمكن أن يثير في وعينا الجماعي إحساسا بالضعف والعجز. كما انه يرتبط بالأمور غير العقلانية أو تلك التي ترفض الخضوع لمنظومة المسلّمات الثقافية.
لذا يمكن القول إن الأسود لون مخرّب، من حيث انه يقوّض الواقع الراهن. ادموند بورك يقول إن الأسود مرتبط بالأشياء الرهيبة والمتسامية معا. كما أن له علاقة دائمة تقريبا بالأشكال الصلبة والهندسية. وبالنسبة للبعض، هو يرتبط باللانهائية وإلى بدايات خلق الكون والحياة على الأرض.
الرسّام الروسي كاسيمير ماليفيتش رسم لوحته المشهورة المربّع الأسود عام 1915 والتي أصبحت احد أهمّ الأعمال الفنية في روسيا. في هذه اللوحة أزاح الرسّام الفراغ الصوري والمنظور تاركا فقط مربّعا اسود نقيّا على خلفية بيضاء. هذه اللوحة أصبحت في ما بعد رمزا لفنّ الحداثة كما كانت مصدر إلهام للعديد من الفنّانين.
في معظم اللوحات التجريدية نلمس إحساسا بالحزن والكآبة. هذا الإحساس الغامض له ارتباط باللون الأسود يعود إلى زمن أرسطو في اليونان القديمة. وفي اللغة اليونانية، فإن مفردة الأسود تعني حرفيا الحزن. وعلى خطى أرسطو وبعد وقرون طويلة، ألّف روبرت بيرتون كتابه المشهور تشريح الحزن عام 1621م. هذا الكتاب عبارة عن دراسة معمّقة لظاهرة الحزن، تاريخها وأسبابها وعلاجها.
في القرن التاسع عشر، ظهر اللون الأسود في العديد من السياقات. بالنسبة إلى غويا، كان الأسود يرمز لحالة النفي الاجتماعي، وهو ما تؤكّده صوره الكثيرة عن الموت والكوارث.
الرسّام الفرنسي هنري ماتيس كان يعتمد على الأسود لتبسيط بناء اللوحة. في لوحته نافذة فرنسية يحوّل ماتيس نظر المتفرّج بعيدا عن ألوان ديكور رمادية وبنّية وخضراء كي يركّز اهتمامه على مشهد لشرفة مظلمة.
كان ماتيس سيّد الألوان المستقلّة الذي قاد تحوّلا تاريخيا مهمّا في الفنّ من خلال دراسته التي كتبها بعنوان "الأسود كلون". وقد بذل الفنّان جهده من اجل تحرير الأسود من هوّيته الشائعة والمتعارف عليها كلون يمتصّ الألوان الأخرى وجعل منه لونا مشعّا وذا خاصّية لامعة. أي انه تصرّف بعكس الانطباعيين الذين كانوا يهتمّون بالضوء، ولذا تجاهلوا اللون الأسود كلّيا تقريبا.
كاندينسكي الذي استخدم الأسود كثيرا في لوحاته كان يعتبره لونا يقود وجودا خاصّا به في مكان بعيد عن حياة الألوان البسيطة. كان كاندينسكي يصف الأسود إما كبُنية دائرية وإمّا تبعا لاستقطابه الألوان الأخرى مثل الأصفر والأزرق أو الأحمر والأخضر أو البنفسجي والبرتقالي.
في الفترة الأخيرة كان هناك اهتمام متزايد وانتقائي بالأسود. وفي بعض الحالات، أصبح هذا اللون يشير إلى التغييرات السياسية والاجتماعية. في لوحتها الحديقة السوداء ترسم جيني هولزر نباتات سوداء أو حمراء قاتمة، يمكن تفسيرها على أنها رمز لموت النظرة الطوباوية إلى العالم. كما يصحّ اعتبارها إعادة صياغة عصرية للوحة نيكولا بُوسان المشهورة رُعاة أركاديا.
ريتشارد سيرا حاول هو أيضا أن يجعل الأسود لونا دنيويا، وذلك من خلال تحويل طبيعته من لون ميثولوجي إلى لون متجسّد ومادّي بحيث تبدو سماته البصرية اقلّ أهمية من خصائصه اللمسية.
في كتابه بعنوان حلقات زحل، يشير دبليو جي سيبالد إلى عُرف كان سائدا في هولندا في القرن السابع عشر. حيث كان من عادة الناس الذين يتوفّى لهم قريب أن يغطّوا بأشرطة الحداد السوداء جميع المرايا في البيت وكذلك جميع اللوحات التي تصوّر طبيعة أو أشخاصا أو فاكهة في الحقول. كانوا يعتقدون أن من شأن ذلك أن يعين الروح وهي تفارق الجسد على أن لا تتشتّت أو تنشغل في رحلتها الأخيرة بانعكاس نفسها أو بإلقاء نظرة أخيرة على الأرض التي يُفترض أنها ستغادرها إلى الأبد.