:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الأحد، يونيو 06، 2010

عالَم فرانسيس بيكون

لوحات فرانسيس بيكون مخيفة وأحيانا مرعبة: رأس منصهر أمام ستارة، شخص يصرخ وهو يتكوّم تحت مظلّة، شخص آخر يجلس في غرفة صغيرة بلا نوافذ كما لو انه مسجون في الجحيم.
حياة هذا الرسّام كانت دائما مصدر اهتمام العديد من نقّاد ومؤرّخي الفنّ. بعضهم وصفه بالمجنون. والبعض الآخر اعتبره أعظم رسّام بريطاني منذ تيرنر. والبعض الثالث حاول أن يقيم صلة ما بين حياته الشخصية ومواضيع لوحاته.
الزمن الذي عاش فيه بيكون كان رهيبا. ملايين البشر فتكت بهم الفاشية والنازية والثورات والحروب المتعدّدة طيلة القرن العشرين. وقد جلب بيكون كلّ هذه الفظاعات إلى لوحاته.
في بعض أعماله، رسم بيكون قطعا من اللحم. "ذلك اللحم هو لحمنا جميعا. من المرعب أن تصحو في الصباح لتكتشف أن هناك بشرا تحوّلوا إلى أشلاء صغيرة باسم الدين أو إرضاءً لنزوات مجموعة من الحمقى والمتوحّشين".
كان فرانسيس بيكون، بالإضافة إلى اشتغاله بالرسم، فيلسوفا وقارئا نهما. من أقواله المشهورة: كلّ الألوان تتوافق في الظلام. اللوحة ليست دائما تعبيرا أمينا عن مزاج الرسّام، إذ قد يكون في حالة يأس عظيمة ومع ذلك يرسم لوحة تضجّ بالسعادة والبهجة. من الحالات الأكثر مدعاة للتعاسة هي حقيقة أن الأشياء التي نشتهيها قليلة والأشياء التي نخاف منها كثيرة. بعض الكتب يحسن تذوّقها، والبعض الآخر التهامها، والبعض القليل جدّا يتعيّن مضغها وهضمها. ثمّة أربعة أشياء تكون في أحسن حالاتها عندما تتقدّم في العمر: الغابة كي تُحرق، والنبيذ كي يُشرب، والصديق القديم كي تثق به، والكاتب المخضرم كي تقرأ له".
الموضوع المترجم التالي يلقي بعض الضوء على عالم فرانسيس بيكون وطبيعة نظرته للحياة والفنّ لمناسبة الاحتفال بمرور مائة عام على مولده.

لو قُدّر لك أن عشت في لندن خلال ستّينات القرن الماضي وأردت التحدّث مع فرانسيس بيكون فما عليك إلا أن تتوجّه إلى نادي كولوني روم بحيّ سوهو الذي كان الرسّام يرتاده بانتظام.
وقد حدث في ذلك الوقت أن ارتفعت حظوظه بين النقّاد وازدادت إمكانياته المالية. وقد عُرف بأريحيّته، إذ كان يبادر بالدفع نيابة عن أصدقائه ويخصّ عمّال المقهى بإكراميات سخية.
الشيء الذي كان يقدّره بيكون أكثر من المال هو الحديث إلى الآخرين. ولم يكن يتواني عن رواية بعض النكات الرديئة عندما كان يناقش مسرحيات اسخيليوس.
في عام 1962 قرّر ديفيد سيلفستر الناقد الفنّي وصديق بيكون إيصال مواعظ وأفكار بيكون إلى اكبر شريحة من الجمهور، فسجّل عددا من المقابلات التي أجراها مع الرسّام ثم نشرها جميعا في كتاب اختار له اسم "وحشية الحقيقة: لقاءات مع فرانسيس بيكون". وقد حقّق الكتاب شعبية كبيرة وألقى الضوء على فنّ بيكون الذي يعتبره الكثيرون غامضا ومزعجا.
اليوم يتمتّع فرانسيس بيكون بالكثير من الاهتمام، خاصّة بعد أن بيعت بعض لوحاته في عام 2007 بأسعار قياسية. لقاءاته مع سيلفستر تبدو الآن أكثر أهمّية في وقت يحاول الجيل الجديد فهم لوحاته المثيرة والحارقة. هذا الكتاب يطرح أسئلة كبيرة عن عملية الخلق الفنّي مثل: أيّ أنواع الفنّ أكثر صدقا، العمل الذي ينبثق عن فكرة مسبقة أم الذي يأتي عفو الخاطر ووليد اللحظة؟ هل التجريد أكثر قوّة من تمثيل الأشخاص؟ ما الذي يجعل الفنّانين يركّزون على موضوعات معيّنة دون غيرها؟
الفنّانون والكتّاب كثيرا ما يثنون على تصوّرات بيكون الصريحة والبسيطة عن موضوع بمثل هذه الصعوبة. يقول داميان هيرست: قرأت آراء بيكون وأعدت قراءتها وكنت مواظبا على التهامها كما يلتهم مؤمن كتابه المقدّس. كانت آراؤه هي السبيل الموصل للفنّ بالنسبة لي".
كان بيكون يعتقد أن من الأسهل على الإنسان أن يبدع عندما يكون تحت تأثير المخدّرات والكحول والإرهاق، أو اليأس كما في حالته هو.
كان السؤال المركزي بالنسبة له هو: كيف اشعر أنني استطيع رسم هذه الصورة بحيث تبدو أكثر صدقا بالنسبة لي؟
كان يستخدم ألوانا معيّنة إلى أن يحسّ بالملل منها فينتقل لألوان أخرى. "الفكرة هي أن ترسم عملا يدفع برموز الأشخاص في اللوحة إلى الجهاز العصبي بطريقة عنيفة ومتوتّرة". كان بيكون يبحث دائما عن الإلهام. محترفه الفوضوي كان مفروشا بأكداس من الصور ذات الطلاء المتناثر التي استقاها من مصادر عشوائية.
وكان يعزو إلى سيغموند فرويد الفضل في تنقّله الحذر والدقيق ما بين منطقتي الواقع والأحلام الغريبة. يقول: لا اعتقد أنني موهوب. أنا فقط اُحسِن استقبال الأشياء".
الموتيفات المتكرّرة في لوحات بيكون، مثل جيَف الحيوانات والمظلات السوداء ومخلّفات تعاطي المخدّرات، توصل إحساسا بتدمير الذات.
ولو تأمّلت الأشخاص المشوّهين في لوحاته، ستلاحظ أن أذرعهم وآذانهم وسيقانهم في غير أماكنها الطبيعية.
ذات مرّة وصف المخرج السينمائي الايطالي برناردو برتولوتشي بورتريهاته بأنها عبارة عن وجوه يلتهمها شيء ما من داخلها. وقد أوصى برتولوتشي مارلون براندو بحضور معرض أقامه بيكون للوحاته أثناء تصوير فيلم "التانغو الأخير في باريس".
لكنّ بيكون كان يقاوم فكرة أن أعماله تثير الرعب. "الرعب جزء من الحياة، لكنه ليس المكوّن الوحيد". وقد اعترف أن حياته المبكّرة في ايرلندا وغزواته وهو في سنّ المراهقة للعالم السفلي القاسي للمثليين في برلين جعله معتادا دائما على العيش في أجواء عنف. كما اعترف أن شخوصه تبدو مشرفة على الهلاك أو في لحظات أزمة. "إن قابلية الإنسان للفناء هي حالة لا مفرّ منها ولا يمكن أن نتوقّف أبدا عن التفكير بها. وإذا كانت الحياة تثيرك فإن ظلّها، أي الموت، يجب أيضا أن يثيرك".
يقول ديفيد سيلفستر: ليس من الغباء أن نعزو هاجس الرعب إلى فنّان رسم لوحات كثيرة لبشر يصرخون". الصرخات التي أثارت إعجابي أكثر من غيرها - يقول بيكون - هي التي رسمها نيكولا بوسان في لوحته مذبحة الأبرياء وتلك التي رأيتها في لقطة من فيلم سيرغي ايزنستين المدمّرة بوتومكين. لقد كنت أريد دائما أن ارسم ابتسامة ولم انجح أبدا".
إذا كان هذا الكلام يبدو سطحيا وغريبا، فإن ممّا لا شكّ فيه أن بيكون كان يملك في معظم الأحيان القدرة على التعبير عن نفسه بعمق. "أتذكّر أنني كنت انظر إلى فضلات كلب على احد الأرصفة عندما كنت في السابعة عشرة من عمري. وأدركت فجأة أن هذا هو ما تشبهه الحياة في واقع الأمر. لقد عذّبني ما رأيته لأشهر. وأعتقد أن الحياة لا معنى لها، ونحن الذين نعطي لهذا الوجود العدمي معنى من خلال دوافعنا ونزعاتنا".

Credits
tate.org.uk