:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الأحد، ديسمبر 26، 2010

نهر النسيان

لا أعرف مدى صحّة العبارة التي تقال أحيانا من أن الإنسان لم يُسمّ إنسانا إلا بسبب انه كثير النسيان. ولكنْ ممّا لا شكّ فيه أن النسيان يُعتبر صفة ملازمة للإنسان وجزءا لا يتجزّأ من طبيعته وتكوينه.
وفي السنوات الأخيرة لاحظت أنني أصبحت أنسى كثيرا. والمشكلة أن مظاهر هذا النسيان كثيرة ومتعدّدة. يحدث أحيانا أن أقابل شخصا لأوّل مرّة فيعرّف كل منّا نفسه بالآخر. لكن ما أن أقابل نفس الشخص بعد بضعة أيّام حتى أقع في الحرج عندما اكتشف أنني نسيت اسمه.
وقبل أيّام كنت في زيارة لموظّف بإحدى الشركات الخدمية. وبعد أن غادرت مكتبه ووصلت إلى سيّارتي، اكتشفت أنني نسيت هاتفي المحمول عنده. وكنت متأكّدا من أنني تركت الهاتف في مكان ما على مكتبه لأنني تذكّرت أنني أجريت آخر مكالمة وأنا جالس هناك.
وعندما عدت إليه لأساله ما إذا كان قد رأى الهاتف، أجاب بالنفي. ومع ذلك بحث على المكتب وفتّش كثيرا بين الأوراق فلم يجد شيئا. ثم قال: عندي فكرة. كم رقم هاتفك حتى اتصل به من هاتفي لنستدلّ على مكانه؟ قلت وأنا اشعر ببعض الحرج: للأسف لا أحفظ الرقم. ضحك من ردّي ثم قال بأدب: بسيطة، لست وحدك من لا يتذكّر رقم هاتفه. لكنْ هناك حلّ آخر، حاول أن تتصل بأحد معارفك واطلب منه الرقم. قلت: إذا كنت لا أحفظ رقمي الخاصّ فكيف تتوقع منّي أن أحفظ رقم شخص أخر! وأضفت: أنا لست مهتمّا بالجهاز نفسه بل بالأرقام التي بداخله والتي إن ضاع فستضيع إلى الأبد. ثم دوّن رقم هاتفه على ورقة صغيرة أمامه وقال: خذ، هذا رقم هاتفي. اتصل بي قبل نهاية الدوام. وبدوري سأطلب من عمّال المبنى البحث عنه.
ولحسن الحظ اتصلت به مساء نفس اليوم وأبلغني بأنهم عثروا على الهاتف محشورا في زاوية ضيّقة تحت المكتب.
أن لا يحفظ الإنسان رقم هاتفه قد يعتبره البعض أمرا غريبا ونادرا. لكن المشكلة أن الإنسان قد يتعرّض لظروف ومواقف يتحتّم عليه فيها أن يعرف رقم هاتفه، على الأقلّ.
المشكلة أن النسيان لا يقتصر على الأرقام. أصبحت أنسى حتى اسم كاتب قرأت له منذ أيّام، أو اسم موسيقيّ طالما استمعت إلى موسيقاه وأعجبتني، أو اسم كتاب قرأته مؤخّرا أو سمعت عنه من الناس.
تذكّرت قصتّي مع النسيان وأنا اقرأ مقالة طريفة عن الموضوع لكاتب اسمه بيلي كولينز. تخيّلت انه يتكلّم نيابة عنّي، غير انه تحدّث عن المشكلة بطريقة ابلغ وأعمق. يقول: يحدث كثيرا أن ننسى سريعا الأشياء التي كنّا نظنّ أننا لن ننساها. خذ، مثلا، كتابا قرأته منذ بعض الوقت. أوّل ما يتلاشى من ذاكرتك اسم المؤلّف، وبعد ذلك العنوان. ثم لا تلبث أن تنسى الكتاب نفسه. وشيئا فشيئا تشعر انك لم تقرأ الكتاب، بل ولم تسمع به مطلقا. الذكريات التي اعتدنا أن نحتفظ بها تُقرّر شيئا فشيئا أن تتقاعد في الجزء الخلفي من أدمغتنا، تماما مثلما يذهب الصيّادون إلى قرية صغيرة لا يوجد بها تليفون.
ويضيف: منذ زمن طويل ودّعت أسماء الملهمات التسع وراقبت المعادلات التربيعية وهي تحزم حقيبتها وتذهب إلى غير رجعة. وبينما تجهد نفسك وأنت تحاول أن تحفظ تسلسل الكواكب، ينزلق من ذاكرتك اسم زهرة، أو عنوان لأحد أقربائك أو اسم لعاصمة احد البلدان.
وأيّا ما كان الشيء الذي تحاول أن تتذكّره، فإنه لن يأتي على طرف لسانك مهما فعلت. كلّ شيء كنّا نتذكّره يذهب بعيدا ليستقرّ في نهر عميق ومظلم. وفي طريقك إلى النسيان، ستنضمّ إلى أولئك الذين نسوا حتى كيف يسبحون أو كيف يركبون درّاجة.
لا تستغرب إذن إن استيقظت في منتصف إحدى الليالي لتبحث عن تاريخ معركة مشهورة في كتاب عن الحرب. ولا تندهش إن اكتشفت أن القمر خارج النافذة يبدو كما لو انه انحرف خارج قصيدة حبّ كنت تحفظها ذات يوم عن ظهر قلب.
البعض يقول إن النسيان نعمة غير خالصة. لكنّي اعتبره في بعض الأحيان آفة ونقمة. وقد اكتشفت أن محاولاتي في أن اشحذ ذاكرتي وأن اُظهِر مزيدا من الحرص على تذكّر بعض الواجبات العملية التي يتعيّن عليّ القيام بها بشكل عاجل لم يغيّر من واقع الحال شيئا.
لكنّي أحيانا أجد بعض السلوى في أقوال بعض الحكماء والفلاسفة الذين كانوا يمجّدون النسيان في كتاباتهم ويعتبرونه من تمام النِعَم. "طوبى لمن ينسون"، يقول نيتشه. "النسيان أغنية، طائر يفرد جناحيه الأبيضين، مطر في الليل"، يقول آخر.
"لا تبتئس إذا نسيت. الأهرامات نفسها نسيت منذ زمن طويل أسماء من شيّدوها"، يقول ثالث. "الرياح تهدأ والينابيع تجفّ والندى يتلاشى والنجوم تأفل .. والإنسان ينسى!"، يقول كاتب رابع.
ومع ذلك، وعلى مستوى أعمّ، أحاول جهدي أن اعمل بنصيحة حكيم قديم عندما قال: في هذه الحياة حاول أن لا تنسى الأشياء التي يجب أن تتذكّرها، وأن لا تتذكّر الأشياء التي يجب أن تنساها.