:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الثلاثاء، مايو 10، 2011

ماذا حدث لليدي جين ؟



بعد دقائق قليلة من مرورنا بعلامة طريق سريع مكتوب عليها "بغداد"، ظهر طريق آخر فرعي عليه لافتة تحمل عبارة "مقهى بغداد". وبينما كنت أتمتم بيني وبين نفسي بنغمات من موسيقى فيلم بيرسي ادلون، طلبت من السائق أن يتوقّف. داس السائق فؤاد على الكوابح وانحرف قليلا إلى جانب الطريق.
ورأينا عددا من الشاحنات تحيط بالمقهى الذي يشبه الكوخ، بينما ارتفع على احد جانبي الطريق جرف صخري حادّ ولاحت على الجانب الآخر منه أبراج ضخمة. كان الأفق الأصفر من بعيد فارغا باستثناء صورة ظلّية لشاحنة عابرة.
إذن نحن هنا، تائهون في الأرض القاحلة لصحراء سوريا الشرقية في مقهى سيتبيّن لنا بعد قليل انه شرَك سياحي. في هذه الأيام أصبح من الصعب أن تهرب من طريق رحلات المجموعات الثقافية. لفتت انتباهنا في المقهى مجموعة من الأشياء واللوازم القليلة والمبالَغ في أسعارها كالحليّ والمشروبات. واكتفينا بتصوير بعضها. ثم أشرت إلى فؤاد بمواصلة مشوارنا.
منذ 150 عاما، لم تكن الليدي جين ديغبي (1807-1881) قد رأت شيئا من هذا عندما عبرت الطريق الصحراوي نفسه في طريقها إلى واحة تدمر البعيدة. وحتى ذلك الحين، كان قليل من الناس هم من غامروا بالوصول إلى أطلال المدينة القديمة. لكن ديغبي، ذات الطبيعة الرومانسية والمحبّة للمغامرات، كانت دائما استثناءً.
نشأت الليدي في هولكهام هول في نورفولك. وبعد طلاقها من اللورد ايلينبورو عاشت مثل فراشة، إذ تجمّع حولها العشّاق والمعجبون قبل أن ينتهي بها المطاف في سوريا بعد انهيار زواجها الثالث من جنرال يوناني. وقد أشاد معاصروها بجمالها وفطنتها وقدراتها اللغوية، حيث كانت تتحدّث ثمان لغات. كما عُرف عنها براعتها الكبيرة في ركوب الخيل. هذه المرأة التي اجتمعت في شخصيّتها كلّ هذه السمات حطّت رحالها أخيرا في الصحراء السورية.
وعندما وضعت قدميها لأول مرّة في تدمر، كانت البلدة وقتها جزءا من الإمبراطورية العثمانية. وكان الأمل في رؤية آثار تدمر المشهدية يعلو رأس قائمة أولويات ديغبي، وتليها مباشرة آثار بعلبك والقدس. فقط حفنة قليلة من الفيكتوريين كانوا قد وصلوا إلى تدمر بالنظر إلى وعورة الطريق المؤدّي إليها، إذ يلزم المسافر تسعة أيام على ظهور الجمال عبر الصحراء التي يجوبها بانتظام اللصوص وعصابات الحروب القبلية المحلية.
وقادت الصدفة جين ديغبي للقاء مِجوَل المِصْرَب، وهو شيخ إحدى قبائل البدو التي كانت تسيطر على منطقة تدمر، والذي اتخذته دليلا وحاميا. وبخلاف عادات البدو، كان مجول رجلا متعلّما وكان يتحدّث عدّة لغات. وبطبيعة الحال كانت له ملامح بدويّ مقتطعة من لوحة استشراقية.
رحلتهما الأولى معا وضعتهما في مواجهة مع عدد من اللصوص في الصحراء. وقد تخلّص منهم بطريقة مناسبة. لكن ما حدث أنبت في الوقت نفسه بذور قصة حبّ غير عاديّة بين امرأة غربية ورجل من الشرق.
وعلى الرغم من انه كان يصغرها بعشرين عاما، إلا أن مجول سرعان ما وقع أسير سحرها. وبعد ذلك بعام واحد تزوّجا. والبقية، كما يقال، أصبح تاريخا.
قضت جين ديغبي الجزء الأخير من حياتها محاولة التكيّف مع بيئتها الجديدة وعكفت على تثقيف نفسها فأجادت لغة تاسعة هي العربية. وكانت ترتدي جلابية فضفاضة وتستخدم الكحل وتدخّن الأرغيلة. كما كانت مخلصة لـ مجول. وقد اعتادت قضاء وقتها بين منزلها الجميل في دمشق والسكن الأكثر صرامة في خيمة من خيام البدو في تدمر. في تلك الخيمة تعلّمت حلب الأغنام وطبخ لحم الضأن ممزوجا بالزبادي والعسل البرّي على نار مفتوحة. كما كانت تصرف بعض وقتها في ركوب الخيل والطِبابة البيطرية وفي اصطياد الذئاب والظباء ورعاية الإبل المريضة.
اليوم ، أصبح الوصول إلى تدمر أسرع وأسهل، إذ يستغرق من العاصمة أقلّ من ثلاث ساعات بالسيّارة. لم يعد هناك لصوص، ولكن ما يزال هناك الكثير من البدو الذين تتناثر خيامهم على مساحة واسعة من هذه الأرض اليباب. هذا النوع من الصحراء لا علاقة له بصحراء لورانس العرب ذات الرمال المتحرّكة. على البعد، نرى نقاطا سوداء مبعثرة. وعند الاقتراب منها نكتشف أنها عبارة عن مجموعات من الخيام ذات الجوانب المفتوحة والمصنوعة من الأربطة الخشنة المستخلصة من صوف الماشية. وظاهريا لا يبدو أن الخيام مأهولة. لكن عندما تدلف إلى داخل إحداها يظهر لك أفراد أسرة كاملة وممتدّة.
داخل الخيمة الرئيسية التي تزيّن نسيجها أنماط واضحة وجميلة، جلسنا على السجّاد نحتسي الشاي الذي يُقدّم إلى أيّ مسافر عابر من هنا مع ضيافة تقليدية وابتسامات خجولة.
الرجال يرتدون الكوفيات الحمراء والبيضاء والسترات الفضفاضة فوق الجلابيّات، في حين بدا الأطفال وكأنهم يرتدون أيّ شيء يجدونه. المال هنا شحيح لأن رعاة الأغنام يقبعون في أسفل درجات السلّم الاجتماعي في سوريا، وهم في مكانة اقلّ بقليل من البدو رعاة الجمال.
ومضيفونا كانوا أعضاء من نفس قبيلة عنزة التي تزوّجت جين ديغبي احد رجالها. وأصل عنزة من الجزيرة العربية. لكن قبل قرنين تحرّكت القبيلة باتجاه الشمال بينما اضطرّ بدو سوريا الأصليون للنزوح شرقا.



تدمر مدينة ذات جمال مؤرّق يمتزج بجمال الصحراء المحيطة بها. لذا لا يبدو مستغربا أن جين اختارت قضاء الكثير من حياتها هنا في وقت لم يكن هناك سيّاح ولا فنادق ولا محلات ولا باعة حليّ.
في ذلك الوقت، أي عندما كان معظم هذا المكان ما يزال مطمورا تحت الرمال، لم تكن جين قد رأت مقابر البرج الرائعة مع لوحاتها الجدارية ولا السقوف المطليّة ولا المنافذ متعدّدة الطوابق. كان الفرنسيون، أثناء انتدابهم الذي دام خمسة وعشرين عاما، هم الذين بدءوا عام 1924 عمليات حفر وتنقيب جدّية. وما تزال أعمال الحفر مستمرّة إلى اليوم من قبل فرق آثار سورية وألمانية ويابانية ودانمركية وفنلندية.
وبالرغم من تاريخ تدمر العريق، إلا أن السياحة هنا ما تزال جنينية، مقارنة بالبتراء في الأردن المجاورة. ويمكنك التجوال بين أطلال المدينة لوحدك سواءً كان الوقت نهارا أو ليلا. ويزداد المكان سحرا عند حلول الغسق عندما تميل الشمس إلى الغروب وترمي بوهجها الذهبي على الرواق ذي الحجارة الجيرية بلون العسل وعلى المسرح الروماني ومعبد بعل شامين والجدران الرائعة المرتفعة لمعبد بل.
تحت حكم الملكة المتمرّدة زنوبيا، في القرن الثالث الميلادي، ازدهرت إمبراطورية تدمر بقدر ازدهار مصر آنذاك إلى أن اعتقل الرومان زنوبيا واسقطوا حكمها.
جين ديغبي اجتمع لها عراقة النسب ووفرة المال والجمال. ويبدو أن مجول أحبّها لذاتها وليس لجمالها أو نسبها. مجول نفسه كان شخصا مثقّفا يجيد عدّة لغات ويهتمّ بالآثار.
في دمشق تعرّفت جين إلى المستشرق والرحّالة الانجليزي المشهور ريتشارد بيرتون الذي كان بدوره مرتبطا بعلاقة صداقة مع البطل الجزائري الأمير عبد القادر منذ أن التقيا في دمشق لأوّل مرّة.
كانت جين ديغبي امرأة جميلة ومتعدّدة الأزواج. وكانت قد تزوّجت من ثمانية رجال قبل وصولها إلى سوريا. وقد رسم لها الفنّان الألماني جوزيف كارل شتيلر بورتريها "فوق" عندما كانت في ضيافة الملك لودفيك الأول ملك بافاريا. ويقال إنها كانت تربطها بالملك علاقة عاطفية.
لكن يبدو أنها ضاقت ذرعا بالحياة في أوربّا، فأخذت طريقها إلى سوريا لتجد فيها الحبّ الأكبر في حياتها. كانت في منتصف عمرها. لكنها كانت ما تزال ذات جمال مبهر.
تصفها زوجة بيرتون بقولها: كانت جين امرأة جميلة جدّا وهادئة الطباع. كانت قد قاربت الستّين، طويلة، مسيطرة وذات ملامح ملوكية. وكانت دائما تبدو أنيقة بفستانها الأزرق وبشعرها الطويل المنسدل على الأرض كما لو أنها خارجة للتوّ من صالون للجمال في لندن أو باريس. كانت تقضي نصف العام في دمشق ونصفه الآخر مع زوجها في خيام البدو. هناك كانت تُكرّم وتُحترم كملكة على القبيلة. كانت جين تحلب النوق وتخدم زوجها وتجهّز له الطعام وتجلس إلى الأرض لتغسل قدميه وتصبّ له القهوة. وكانت أيضا تبدو رائعة بالملابس الشرقية. كانت جين أكثر صديقاتي قربا منّي وقد أملت عليّ سيرة حياتها".
كانت المرأتان، جين ديغبي وزوجة بيرتون، مدخّنتين شرِهتين. وكان كلّ من عبد القادر وبيرتون يقضيان الأمسيات على شرفة منزل الأخير يدخّنان الارغيلة. ولم ينس بيرتون وزوجته أبدا تلك اللحظات الجميلة.
طوال ثلاثين عاما كانت جين ديغبي تعيش في سعادة مع زوجها وسط مضارب قبيلته. كانت رسّامة ونحّاتة. وقد ضحّت بجدائلها الذهبية وصبغتها بالحنّاء خوفا من أن يعاود زوجها الحنين إلى ملامح النساء العربيات.
وفي بيتها، على مشارف دمشق، كانت تزرع حديقة المنزل وتقوم على رعاية الكلاب والخيول والقطط وتباشر أنشطة الحياة اليومية المختلفة. وعندما توفّيت عام 1881م عن 74 عاما، انخلع قلب مجول حزنا على فراقها.
ومنذ سنوات ظهر كتاب عن سيرة حياة الليدي جين ديغبي تحكي فيه مؤلّفته ميري لوفيل عن رحلة ديغبي إلى الشرق وعن التقاليد التي كانت سائدة في البادية العربية في ذلك الوقت.
من الصعب اليوم العثور على قبر الليدي جين في المقبرة البروتستانتية في دمشق. لكن بطريقة ما، وعلى امتداد ارض تدمر القاحلة وهوائها الجافّ، تخيّلت أنني أرى طيفها وأسمع وقع خطاها وهي تخطر بخفّة بين الأطلال. "مترجم"