:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الثلاثاء، يونيو 14، 2011

مار جرجس والتّنين

في الماضي كان الفنّانون يتنافسون في رسم اللوحات التي تصوّر قصصا دينية مستوحاة من الكتب المقدّسة. اليوم لم يعد هناك من يهتمّ كثيرا برسم مثل هذه القصص. ومن أشهر، وربّما أطرف القصص الدينية التي فتنت الرسّامين في العصور المتقدّمة قصّة القدّيس جورج "أو مار جرجس كما يُعرف في بلاد المشرق" مع التنّين.
هذه القصّة يقال أنها حدثت في مكان ما في فلسطين. لكن هناك من ينسبها إلى ليبيا. وهي تحكي عن أهل إحدى القرى الذين كانوا يعتمدون في حياتهم على مياه احد الينابيع. وفي احد الأيّام، حلّ بأرضهم تنّين شرّير كان يترصّدهم ويحول بينهم وبين النبع. ولكي يبلغوا النبع، كان يتعيّن عليهم أن يضحّوا كلّ يوم بخروف يقدّمونه للتنّين إلى أن انقرضت جميع مواشيهم.
لكنهم كانوا ما يزالون بحاجة إلى الماء. لذا اضطرّوا للتضحية ببناتهم واحدة بعد الأخرى، إلى أن أتى الدور على آخر فتاة تبقّت في القرية وكانت أميرة جميلة وابنة لزعيم القرية.
في ذلك اليوم، تصادف أن كان مار جرجس مارّاً بالقرية. ولما رأى الفتاة وهي على وشك أن تُقدّم قربانا للتّنين، انقضّ على الوحش برمحه والتحم معه في قتال دام إلى أن تمكّن من قتله.
دائرة المعارف الكاثوليكية تقول انه لا مجال للتشكيك في وجود القدّيس جرجس نفسه. لكنّها ترجّح أن قصّة التّنين مجرّد خرافة وأن أصلها ربّما يعود إلى قصص مشابهة من النصوص القديمة حول العالم. وقد تكون هذه القصّة صدى لأسطورة اندروميدا وبيرسيوس الإغريقية.
غير أن القصّة تطرح قضيّة أخلاقية مهمّة. لماذا، مثلا، كانت الأميرة آخر فتاة تُقدّم قربانا للتّنين؟ ولماذا لم يظهر القدّيس المخلّص إلا عندما أصبحت حياتها، هي بالذات، معرّضة للخطر؟ وقد يقول قائل: والفقراء، أليس لهم ربّ؟!
هناك احتمال بأن يكون مؤلّف القصّة شخصا منحازا طبقيا. وقد يكون المغزى من جزئية الأميرة في الحكاية دغدغة مشاعر ملوك ونبلاء ذلك الزمان حتى يقبلوا على اعتناق المسيحية وينبذوا الأفكار الوثنية. الاحتمال الثاني يبدو أكثر إقناعا. وما يرجّح صحّته حقيقة أن معظم قصص التّنين تقترن في الغالب بأميرات. حتى في قصص الأطفال، هناك دائما إشارات متواترة إلى التّنين وعلاقته بالأميرات. لكن لماذا التنّين بالذات وليس أيّ حيوان كاسر آخر؟ لا يوجد جواب واضح على هذا السؤال.
ومثلما سبقت الإشارة، كانت هذه الأسطورة محطّ اهتمام الرسّامين منذ القدم. وقد رسمها كثيرون، من بينهم رافائيل وغوستاف مورو وروبنز وتينتوريتو وجيوفاني بيليني وغيرهم.
في اللوحة فوق، يرسم الايطالي جاكوبو تينتوريتو القدّيس معتليا صهوة جواده بينما يدفع بالرمح بين عيني التّنين محاولا الإجهاز عليه. وفي مقدّمة اللوحة تبدو الأميرة وهي تحاول الفرار من المكان وقد أخذتها المفاجأة على حين غرّة. وفي كلّ اللوحات التي تصوّر القصّة، يظهر القدّيس دائما راكبا حصانا، وأحيانا معتمرا خوذة. لكن هيئة الفتاة في المشهد تتغيّر من لوحة لأخرى. هي هنا تهمّ بالفرار. بينما تظهر في لوحات أخرى وهي جاثية تصلّي بخشوع شكرا لله على هذه المعجزة.
جيوفاني بيليني، من ناحيته، رسم القصّة بعد أن انتهت المبارزة. إذ تصوّر لوحته القدّيس وقد سقطت خوذته ورمحه على الأرض بعد أن طعن الوحش حتى الموت.
التّنين كما تروي الحكاية، مات مقتولا. في حين أن الراوي لو اختار سيناريو مختلفا، كأن يتمكّن القدّيس من ترويض الحيوان والسيطرة عليه بدلا من قتله، لكانت القصّة أبلغ وأكثر تأثيرا على مشاعر المؤمنين.
نهاية القصّة هي بيت القصيد كما يقال. إذ تذكر أن أهالي القرية اعتنقوا المسيحية في الحال تأثّرا بما رأوه. ومن يومها عاشوا في سلام وأمان بعد أن خلّصهم القدّيس من ذلك الوحش الكاسر الذي كان ينغّص حياتهم ويتهدّد وجودهم.
ومن الواضح أن الحكاية، مثل كثير من الحكايات المشابهة، تتضمّن معنى رمزيا. فهي تجسّد انتصار البطل أو المخلّص المسيحي على الشرّ، وربّما على الوثنية التي يمثلها التّنين.