:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الاثنين، مايو 21، 2012

أميرة كابورتالا

حدثت هذه القصّة قبل ما يزيد قليلا عن مائة عام، وألّف عنها ما لا يقلّ عن ثلاثة كتب. ويجري الإعداد حاليا لتحويلها إلى فيلم سينمائي بإنتاج عالمي.
تبدأ القصّة وتنتهي في الأندلس. لكن أحداثها تجري ما بين باريس ودلهي.
في احد أيّام شهر مايو من عام 1906 كانت مدريد عاصمة اسبانيا تشهد احتفالا غير عاديّ. كانت المناسبة زواج الملك الاسباني ألفونسو الثالث عشر من الأميرة الانجليزية فيكتوريا دي باتينبيرغ.
وقد دُعي إلى الحفل عدد من قادة الدول والشخصيات الأخرى المهمّة. وكان من بين هؤلاء مهراجا هندي يُدعى جاغاتجيت سنغ. وعندما وصل المهراجا إلى الحفل كان يرتدي عمامة زرقاء مزيّنة بالفيروز واللؤلؤ والأحجار الكريمة، بينما رصّع صدره بالأوسمة وزيّن خصره بخنجر موشّى بالألماس.
سنغ كان وقتها في الرابعة والثلاثين من عمره. وكان يشكّل جزءا من حاشية أمير ويلز الانجليزي. كما كان واليا على كابورتالا، وهي ولاية تقع على سفوح جبال الهمالايا. وقد ظلّت عائلته تتوارث هذا المنصب منذ مئات السنين.
المهراجا سنغ كان تحت تصرّفه ثروة هائلة منحته نفوذا ومكانة كبيرين، سواءً داخل الهند أو خارجها. غير انه أيضا اشتهر بشغفه بالنساء وبجمع وامتلاك المجوهرات الفخمة والنفيسة.
بعد انتهاء حفل زواج الملك، طلب المهراجا من حاشيته أن يبحثوا له عن مكان يسرّي فيه عن نفسه ويلتمس بعض التسلية والمتعة. وقد اختاروا له ناديا ليليّا لا يبعد كثيرا عن مكان إقامته في إحدى ضواحي مدريد. وكان من ضمن برنامج السهرة فقرة تَظهر فيها راقصة فلامينكو صاعدة تدعى انيتا ديلغادو وهي تؤدّي فاصلا من الرقص المبتكر على أنغام الموسيقى التقليدية.
كانت انيتا وقتها في السابعة عشرة من عمرها. وكانت تتمتّع بقدر كبير من الجمال والجاذبية. وعندما رآها المهراجا وهي ترقص لفت انتباهه قدّها الممشوق وشعرها الفاحم وعيناها الناعستان، فوقع في حبّها من النظرة الأولى. ثم سعى بعد ذلك للتعرّف على عائلتها وغمرهم بالهدايا والأعطيات الثمينة.
غادر المهراجا سنغ بعد ذلك مدريد قاصدا باريس لإنجاز بعض أعماله الخاصّة. ومن هناك واصل مغازلة الفتاة محاولا استمالتها والظفر بقلبها. وأرسل إليها يعرض عليها مبلغا ضخما من المال يكفي لإعالتها وأسرتها سنوات طوالا إن هي وافقت على الاقتران به. وفي النهاية، أرسلت له تُعلمه بموافقتها وعائلتها على فكرة الزواج.
ولم تمضِ أسابيع حتى كانت انيتا قد التحقت بالمهراجا في باريس. وعندما وصلت إلى هناك، كان في استقبالها عدد من أفراد حاشيته وخدمه وعشرات السيارات الفارهة. وقد أخذت فور وصولها إلى قصر فاخر يقع في إحدى ضواحي باريس. وكانت هناك رسالة بانتظارها تقول: لن تري الأمير حتى تتقني الفرنسية، لأنه لا يرغب في التعبير عن مشاعره الخاصّة عن طريق شخص آخر".
تغيّرت حياة انيتا بعد ذلك بشكل مدهش. وبالنسبة لامرأة اسبانية شابّة من خلفية اجتماعية متواضعة وبالكاد تعرف القراءة والكتابة، كان الحصول على قدر من التعليم الكافي مع إمكانيات السفر والتقدّم الاجتماعي من الأشياء النادرة والصعبة. لكن خلال فترة وجيزة، تعلّمت ركوب الخيل والعزف على البيانو والتحدّث بالفرنسية والإنكليزية وكيفية مراعاة الايتيكيت في المآدب والحفلات الرسمية.
باشر المهراجا سنغ وضع الترتيبات الخاصّة بانتقاله هو وعروسه إلى الهند. واستقلا مع حاشيتهما سفينة توجّهت بهم إلى مرسيليا استعدادا للرحلة الطويلة التي ستأخذهم من هناك إلى بومباي. وقد تقرّر أن تجري مراسم الزفاف في كابورتالا في احد أيّام شهر يناير من عام 1908م.
وعند وصولهما إلى كابورتالا، تزوّج العروسان وفقا للطقوس الهندوسية. كان حفل زفاف فخما وباذخا لدرجة انه أثار ضجّة كبيرة في أوساط المجتمع الهندي الراقي. غير أن انيتا أحسّت بالصدمة عندما علمت أن المهراجا متزوّج من أربع نساء وأن له منهنّ أربعة أبناء، احدهم في مثل سنّها. وبعد أن فكّرت في الأمر، قرّرت أن من الأسلم لها أن تداري تبرّمها وانزعاجها وترضى بما كُتب لها.

كانت هناك أربع خادمات يقمن على راحتها. وكلّ منهنّ مختصّة بوظيفة مختلفة. زوجها المهراجا ذو التفكير المتحرّر والمتأثّر بالثقافة الغربية منحها قدرا كبيرا من حرّية التصرّف وسمح لها بأن تعيش خارج تقاليد الحريم وأنعم عليها بلقب الماهاراني، أي زوجة المهراجا. كان سنغ يعتبر انيتا زوجته المفضّلة. وقد أولاها رعايته واهتمامه وأهداها أفخم وأغلى أنواع المجوهرات التي صنعتها لها خصّيصا أشهر الشركات العالمية.
شَغف المهراجا بالمجوهرات لم يلبث أن انتقل إلى انيتا نفسها. كانت هناك جوهرة كبيرة من الزمرّد على هيئة هلال من تصميم شركة بيل ايبوك العالمية. هذا الحجر الثمين كان يزيّن اعزّ أفيال المهراجا إلى قلبه. وقد رأته انيتا ذات يوم وأعجبت به فأهداها إيّاه في عيد ميلادها التاسع عشر. وكانت ترتدي الجوهرة وتزيّن بها جبينها في المناسبات والحفلات الرسمية.
قصّة زواج انيتا ديلغادو الرومانسي والعابر للجغرافيا والثقافة اكسبها شهرة عالمية. وقد أصبحت تُكنّى بـ سندريلا الاسبانية وأخذت لها العديد من الصور وكُتبت عنها مقالات وتحقيقات لا تُحصى في الكثير من الصحف والمجلات العالمية في بدايات القرن الماضي.
كما أصبح ذلك الزواج مقترنا بعالم الهند القديم الذي ذهب إلى الأبد، ذلك العالم النقيّ والمصاغ من أجواء قصائد رابندرانات طاغور وروديارد كيبلنغ.
كان المهراجا سنغ صديقا للعديد من ساسة وحكّام العالم. وكانت له أسفاره الكثيرة. كما كان من عادته أن يأخذ انيتا معه أينما ذهب. وقد تُوّج زواجهما السعيد بولادة طفلهما الوحيد الذي أسمياه "اجيت".
لكن، ومثل معظم قصص الحبّ الخرافية، انتهت قصّة زواج انيتا ديلغادو والمهراجا جاغاتجيت سنغ نهاية حزينة. فقد أصبح المهراجا منصرفا بالكامل إلى تجارته وأعماله الخاصة. ونتيجة لذلك، بدأت العلاقة بينهما تفتر شيئا فشيئا.
كان للمهراجا سنغ ابن من إحدى نسائه الأخريات. وقد لاحظ المهراجا أن انيتا أصبحت تبدي اهتماما غير عاديّ به. وقد شجّعها على ذلك تقاربهما في السنّ وحاجة انيتا العاطفية إلى شخص تبثّه همومها ويخفّف عنها إحساسها المتزايد بالغربة.
كان الاثنان يخرجان في مشاوير إلى المروج البعيدة على ظهور الخيل ويبقيان هناك لوحدهما ساعات طويلة. ولم يكن المهراجا غافلا عمّا كان يجري بين زوجته وابنه. كان يرسل عيونه لمتابعتهما ورصد تحركّاتهما. ومع مرور الوقت، تأكّدت ظنونه وأيقن من خيانة زوجته له.
وقد تطوّرت علاقة الزوجة والابن إلى أن أتى يوم أصبحت فيه انيتا حاملا. كان المهراجا سنغ رجلا يتّصف بالحكمة والأناة وحسن التصرّف. وعندما علم بالخبر اجبرها على إجهاض جنينها ودفع ولده دفعاً إلى الزواج. وبعد أن شُفيت من آثار الإجهاض، قام بتطليقها وأمرها بمغادرة الهند دون إبطاء وألزمها بعدم العودة إليها تحت أيّ ظرف. كما قرّر أن يمنحها راتبا شهريّا مدى الحياة شريطة أن لا تتزوّج بعده أبدا. وقد قبلت انيتا هذه الشروط مكرهة.
وانتهى الزواج رسميّا عام 1925، أي بعد ثمانية عشر عاما. وكان عمر انيتا آنذاك 33 عاما. ابن المهراجا كان الحبّ الأكبر في حياة انيتا ديلغادو. وبعد وفاة والده عام 1947، أي بعد وقت قصير من استقلال الهند عن بريطانيا، داوم على الذهاب سرّا إلى باريس، حيث أصبحت تقيم، لرؤيتها والالتقاء بها.
كانت انيتا تتنقّل ما بين باريس ومدريد. وأخيرا استقرّت في مدريد إلى أن توفّيت فيها في يوليو عام 1962 بنوبة قلبية. غير أن قصّة انيتا ديلغادو لم تنته بوفاتها. إذ انتقلت مجوهراتها لابنها الوحيد الذي باع القطع الرائعة والنادرة إلى بعض العائلات الأوربّية الثريّة.
انيتا ديلغادو، ابنة مالك المقهى المتواضع التي غادرت وطنها لتعيش 18 عاما حياة القصور والترف في إحدى قرى سفوح جبال الهمالايا، فتنت قصّتها المجتمع الإسباني على مدى عقود، لدرجة أنه أصبح يقال عن أيّ امرأة شابّة تحلم بالانجاز الاجتماعي أنها تريد أن تتزوّج من مهراجا!.