:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الثلاثاء، مايو 29، 2012

كتاب الأسرار

مع عزف الهَارْب المصفّى والتراكيب الرخيمة والصوت الملائكي، تصهر لورينا ماكينيت الأصوات الكِلْتية مع مزيج من تأثيرات موسيقية مختلفة، مغربية وتركية ويونانية وهندية وإيطالية.
ماكينيت في أغانيها تقوم بدور العارف. ولأغانيها، دائما، طابع الرحلة الروحية. ربّما كان هذا هو ما يجذب الناس إلى موسيقاها. وألبوم "كتاب الأسرار" ليس استثناءً، سواءً كان ذلك من خلال الإيقاعات الكسولة لـ ماركو بولو، أو الإيقاع المرح لـ رقص الثعالب، أو النكهة اللاذعة لـ صلاة دانتي. هذا النوع من الموسيقى ذات التأثير المنوّم يمكنك الاستمتاع به على عدّة مستويات، ابتداءً بمهارة ماكينيت المتنامية كمؤلّفة، وانتهاءً بالأسئلة العميقة التي تطرحها كلمات أغانيها.
سوق في مرّاكش. حجر له علاقة بأسطورة قديمة في ايرلندا. مسرح دُمى صقلّي. محطّة للقوافل على طريق الحرير. هذه ليست سوى بعض الأماكن التي ستزورها وأنت تستمع إلى أغاني ماكينيت.
وهذه الأماكن البعيدة يربطها معا موضوع واحد ومشترك، هو الشعوب الكلتية وأسفارها على مدى آلاف السنين في سهوب سيبيريا وسهول الأناضول وغاليثيا في اسبانيا.
في يد ماكينيت، لم تعد الموسيقى الكلتية تتوافق مع صيغ الرقصات النهرية المألوفة. فموسيقاها تمزج هذه العناصر الأيرلندية بمواضيع من جميع أنحاء العالم، خاصّة التقاليد الموسيقية لمنطقة الشرق الأوسط. ونتيجة هذا المزج هي وليمة رائعة من الألحان الغنيّة والجميلة.
قضت لورينا ماكينيت بضع سنوات تفكّر في تقاليد الترحال الكلتية. كانت تتساءل ما إذا كانت هذه الحاجة قد نشأت من مجرّد فضول لا يشبع. ثم سافرت إلى روما وانتهت في اسطنبول. وذهبت لليابان وانتهت في قطار عبر سيبيريا.
تصف ماكينيت تجربة رؤيتها معرضا للمومياوات ذوات الشعر الأحمر في شمال غرب الصين والتي يُعتقد أنها تخصّ أقواما ينحدرون من الكِلْت الايرلنديين، وكيف اثّر هذا على مقاربتها للموسيقى الكلتية فتقول: أنا مهتمّة بالتفكير في الأقوام الذين أتوا من ذلك الجزء من العالم، وكيف كانوا يسافرون ويؤثّرون على بعضهم البعض. هذا الموضوع ما يزال مهمّا اليوم. فالكثير من الناس ما يزالون يسافرون، بعضهم من أجل المتعة والبعض الآخر هربا من الاضطهاد. الثقافات تتمازج وتتقارب. وأنا أردت أن أعود إلى التاريخ كي أمدّ تلك الخيوط إلى الأمام وأفكّر فيها من جديد. أحيانا أتساءل عن مفهوم الوطن. ما الذي يعنيه الوطن؟ هل هو مكان؟ عائلة؟ ثقافة تعرفها وتشعر بالارتياح ضمنها؟
في سياق بحثها، أدرجت ماكينيت موسيقى من مختلف الديانات، بما في ذلك الإسلام واليهودية، وأضافتها إلى ذخيرتها من الألحان والأغاني. موسيقى السبت المقدّس التي تضمّنها ألبومها السابق "ملهمة قديمة" تُعزى إلى يهود اسبانيا. وماكينيت توضح أن جزءا من افتتانها بهذا القطعة له علاقة بحضورها الدائم والكبير. فقد سافرت هذه الموسيقى على مرّ القرون عبر البحر المتوسط وايرلندا وانجلترا. ولا يُعرف على وجه التأكيد من أين جاءت ولا أصلها الحقيقي. "ثمّة قطع موسيقية تسافر في مناطق جغرافية بصحبة الناس، ثم تتبنّاها ثقافات مختلفة. كنت أريد تلك القطعة لأسباب شتّى. فأنا أحبّ الاستماع إليها عندما يعزفها موسيقيون في الأستوديو. ولكنّي أيضا أردت أن استمرّ في الترويج لفكرة مؤدّاها أن كلّ هذه الثقافات والانتماءات الدينية تمازجت معا وسافرت عبر جميع أنحاء أوروبّا والشرق الأوسط والبحر المتوسط".

وعن الجاذبية العالمية لموسيقاها تقول ماكينيت: الموسيقى الكِلتية لها خاصيّة عالمية مُعْدية. كما أن أصوات الشرق الأوسط تمثّل بعدا جذّابا فيها. ذات مرّة، دُعيت لأداء حفل في اسطنبول. واكتشفت وقتها أن لي معجبين كثرا في منطقة الشرق الأوسط. حدث هذا بعد عام واحد من إطلاقي ألبوم "حديقة الشتاء" الذي يتضمّن نكهة شرق أوسطية. عندما يسمع الناس شيئا مألوفا لهم، سواءً في الآلات أو الأسلوب، فإنهم يستمعون بحرص اكبر. الناس يركّزون عادة على البعد العاطفي للموسيقى. وأتوقّع أن التقارب بين المكوّنات هو ما جذبهم إلى الموسيقى".
في ألبوم أغاني "كتاب الأسرار"، تبثّ لورينا الروح في الأشعار التي نُسيت منذ زمن طويل وتستمرّ في عملية الحفر الثقافي في التراث الكلتي مستخدمة ذلك كنقطة انطلاق خلاقة وكجواز سفر نحو العصور الماضية. تقول: إذا بدأ المرء بالأسئلة الكبيرة مثل "من أنا" و"لماذا أنا هنا" فإن فهم الدروب التي تعيدنا إلى التاريخ يصبح أمرا مهمّا، بمثل أهمّية الدروب التي تقودنا إلى الأمام".
"كتاب الأسرار" كان ثمرة ترحال المغنّية في أكثر من مكان بدأته برحلة عبر طريق سيبيريا الأسطوري. وقد وجدت في تلك الرحلة الهدوء الذي كانت تحتاجه للتفكير والتحضير لهذا الألبوم. فقد أتاحت لها أخيرا الوقت الكافي لقراءة الكوميديا الإلهية لـ دانتي والتي تُسمع أصداؤها في آخر أغاني مجموعتها هذه.
من بين أغاني هذا الألبوم قصيدة للشاعر الفريد نويس بعنوان قاطع الطريق. والقصيدة تحكي عن راهب منعزل يجد السلام في صومعته بعد سنوات عديدة قضاها طافيا في البحر. تقول ماكينيت: هذه القصيدة توضح إلى أيّ مدى كان بعض الأفراد يعزلون أنفسهم، بالمعنى المتطرّف للكلمة، كي يزيدوا ارتباطهم بجوهر ما نسمّيه الله". والقصيدة تحكي عن قصّة مأساوية. وهي تبدو أكثر دراماتيكية في الأغنية. وأنت تستمع إليها قد تتخيّل أصوات جياد تعدو تحت ضوء القمر.
بعض هذه الأغاني تتضمّن خطّا طويلا من الظلال التي تشكّل تصوّرات وارتباطات معيّنة. أغنية رقصة الثعالب، مثلا، تتضمّن صورة صانع دُمى التقت به المغنّية في باليرمو بـ صقلية، مع صورة لحصان رأته في احتفالات عيد العمّال في باديستو، وطقوس رقص لإحدى الطرق الصوفية في تركيا. رقص الثعالب ترتكز على تقليد قديم تقوم فيه مجموعة من المؤدّين بلبس الأقنعة وربط أشرطة على ملابسهم قبل أن ينطلقوا في موكب إلى المنازل المجاورة وهم يغنّون ويحملون أغصان الأشجار. وهذه الرقصة ترتبط في الأساس بفصل الربيع والخصوبة.
اللحن المركزي في أغنية ماركو بولو مستوحى من عصر هذا المستكشف الأسطوري الذي جال في أنحاء متفرّقة من آسيا في القرن الثالث عشر الميلادي. والأصداء الشرقية في هذه القطعة تذكّر بالطبيعة المنتشية والمُسْكرة للأنغام الصوفية.
يمكن القول إن كتاب الأسرار هو عبارة عن سيل من الإشارات والتلميحات العابرة للثقافات. كما انه محاولة لتناول المسائل الفلسفية التي تبحث في الكيفية التي انصهرت بها حضارات وثقافات مختلفة وعلى مدى قرون لتنتج هذا النسيج الثقافي المعقّد الذي نراه اليوم.

وعلى الرغم من أن الكثير من أغاني كتاب الأسرار تمثّل المرحلة المتوسّطية من اكتشافاتها، إلا أن لورينا ماكينيت ولدت ونشأت في بلدة تقع في وسط البراري الكندية ويقطنها ايرلنديون واسكتلنديون وألمان وأيسلنديون. "كان مجتمعا متواضعا كثيرا. ومعظم الناس ينحدرون من عائلات مهاجرة. والبقاء على قيد الحياة كان الهمّ اليومي للجميع. وعلى الرغم من أن أسلاف عائلتي جاءوا من ايرلندا، إلا أن العنصر الكلتي كان قليلا جدّا في تربيتي الموسيقية".
صوت ماكينيت ناعم ومكتمل. ومهارتها ككاتبة أغاني رائعة، تماما مثل روعة مواهبها الموسيقية الأخرى. أغنيتها الغريبة والمتأمّلة بعنوان مقدّمة "أو استهلال" تتحوّل إلى أنغام قويّة تستحضر طقوس الربيع القديمة عن الولادة والتجدّد.
وأغنية سكيليغ لها نكهة عصر النهضة، لأنها تحكي عن قصيدة وداع تأمّلية لراهب إيطالي. وسكيليغ هو دير ايرلندي مشهور يقوم فوق قمّة جبل شاهق ولا يمكن الوصول إليه إلا بصعوبة. وقد بُني الدير قبل حوالي 1400 عام. هناك خواء وندم منسوج في هذه القطعة. قد يكون تعبيرا عن الحنين إلى ما كان يمكن أن يكون. يمكنك وأنت تستمع إليها أن تتخيّل رهبانا يرتحلون من دير إلى دير باحثين عن الحكمة القديمة. جوّ الأغنية يشبه وميض شمعة في ليلة مظلمة. وكلّما اقتربت من الضوء كلّما ازداد سطوعا.
أغنية رحلة ليلية عبر القوقاز تُقدّم بإيقاع يعطي انطباعا عن خيول تركض، في إشارة إلى الرحلة الروحية للخيميائي أو المتصوّف. تقول كلمات هذه الأغنية: في الليل المخملي، وبجوار ظلال الأشجار الصامتة، ينتظرون ويراقبون أسرار الحياة".
أغنية صلاة دانتي تبدأ بصدى للحن أرثوذكسي روسي. ثم تتحوّل إلى صوت لحني معاصر بترتيل ماكينيت شعرا صوفيّا يتحدّث عن الحبّ الإلهي. "انظر إلى المحيط، وألقِ بروحك في البحر. وعندما لا تلوح نهاية لليل المظلم، فأرجوك أن تتذكّرني". لورينا في هذه الأغنية تفكّر في أحوال البشر، وكيف أننا جميعا نميل إلى الاعتقاد بأن هناك مكانا أفضل من المكان الذي نحن فيه. اللحن حزين تقريبا، لكنه يبعث على الأمل. والشاعر الإيطالي يقدّم تفسيرا للسؤال الذي ما يزال يحيّر الكثيرين: ما الذي يحدث لنا بعد أن نموت؟
كتاب الأسرار يوفّر ساعات لا تُحصى من المتعة والفكر. وجميع أغانيه هي انعكاس لمعرفة لورينا ماكينيت عن العالم. إنها تبحث وتستكشف، ثم تعبّر عمّا تجده من خلال الموسيقى. ويمكن القول أيضا أن هذه الأغاني هي عن المعرفة المستمرّة. ومعرفة الماضي تفيض عبر وعي ماكينيت وتتحوّل إلى موسيقى. ومن خلال تجربتها، تتطوّر الموسيقى وتتحوّل إلى لحظات من الجمال الصافي والنقيّ.
ترى، من الذي لا يريد أن يطّلع على كتاب أسرار من النوع الذي يُسمع ولا يُقرأ؟! الرحلة، وليست الوجهة، تصبح مصدرا للدهشة. وبالطبع، بعد أن تستمع إلى الأغاني، قد يساورك إحساس بأنك، أنت أيضا، بحاجة إلى أن تباشر رحلتك الروحية الخاصّة.

Credits
loreenamckennitt.com
wildething.org
alternatemusicpress.com