:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الاثنين، يونيو 25، 2012

أوديب بين كينوبف و مورو

في العام 1896، رسم الفنّان البلجيكي فيرناند كينوبف لوحة اسماها المداعبة "أو أبو الهول" واستمدّ موضوعها من رواية للكاتب الفرنسيّ اونوريه دي بلزاك. وفيها يروي قصّة حبّ غريبة حدثت بين احد جنود نابليون ممّن ضلّوا طريقهم في صحراء مصر وبين أنثى نمر. بلزاك في الرواية يسهب في وصف جسد الحيوان المتموّج وحركته الأفعوانية ومداعبته للجنديّ.
غير أن كينوبف رسم الحيوان بطريقة غريبة. فالجسد جسد نمر، لكن الرأس رأس إنسان. واللافت أيضا أن الرسّام استعار ملامح شقيقته وأعطاها للكائن الذي يُفترض أنه أنثى نمر. الحيوان الهجين في اللوحة، والذي يشبه سفينكس أو أبا الهول، يظهر وهو يداعب وجه الجنديّ بحنان واضح. الجنديّ نفسه، ذو الملامح الاندروجينية، تبدو تعابيره جامدة ومن الصعب قراءتها.
لكن ما الذي يقصده الرسّام من وراء هذه اللوحة الغريبة؟
هذا السؤال أغراني بقراءة المزيد عن اللوحة والرسّام. ووجدت بعض المعلومات المثيرة للاهتمام. في المخيّلة الشعبية، وحتّى في كتب الخيال العلمي والأساطير القديمة، لا تُعتبر المرأة مخلوقا راشدا بالكامل. فهي لا تتحكّم في غرائزها، وبالتالي تشكّل تهديدا وخطرا على من حولها.
ميدوسا في الأساطير، مثلا، يتحوّل شعرها إلى أفاع وحيّات، ونظراتها النارية تحيل الرجال إلى حجارة. وسالومي طلبت أن تكون مكافأتها على الرقص رأس يوحنّا المعمدان.
الرسّام فيرناند كينوبف قد يكون أراد من خلال اللوحة أن يقلب هذه الصورة النمطية عن النساء وأن يشير إلى الطبيعة المزدوجة للمرأة. فهي يمكن أن تكون أنثى قاتلة، ويمكن أيضا أن تكون مخلوقا رقيقا وأشبه ما يكون بالملاك.
كينوبف كان مشهورا بتضمين لوحاته رموزا واستعارات كثيرة. وبعض النقّاد يرون أن لوحة المداعبة هي تفسير الفنّان لأسطورة أوديب.
أبو الهول "أو سفينكس" في هذه الأسطورة كان وحشا هجينا نصفه إنسان ونصفه الآخر أسد، وله جناحا نسر وذيل أفعى. كان من عادة الوحش أن يقف في منتصف طريق جبلي يؤدّي إلى المدينة. ولم يكن يسمح بمرور أيّ شخص من هناك ما لم يُجب أوّلا على لغز. وكلّ الذين مرّوا على ذلك الطريق لم يستطيعوا حلّ اللغز. لذا كان مصيرهم جميعا القتل. وحدث أن قَبِل أوديب هذا التحدّي، حتى بعد أن رأى جثث من سبقوه ممّن فشلوا في حلّ اللغز مبعثرة على جانبي الطريق.
كان سؤال اللغز يقول: ما هو الشيء الذي يمشي على أربع أقدام في الصباح، وعلى اثنتين في الظهيرة، وعلى ثلاث في المساء؟
وبطبيعة الحال، فإن حلّ هذا اللغز أصبح اليوم سهلا. فالجواب هو الإنسان. لكنّ السؤال الأكثر عمقا الذي يطرحه اللغز يتعلّق بمعنى الحياة وطبيعة البشر.
الرسّام الفرنسي غوستاف مورو رسم لوحة يصوّر فيها المواجهة بين أبي الهول وأوديب بطريقة غريبة. فالوحش يثب إلى صدر أوديب، ويتبادل الاثنان نظرات منوّمة عن قرب، بينما ينتظر الحيوان الهجين ردّ أوديب. وأبو الهول يبدو قلقا إلى حدّ ما كما لو انه يدرك أن أوديب سيحلّ اللغز. رأس الوحش وجناحاه يمنحان انطباعا مريحا. لكن جسده الأنثوي يبدو شرّيرا ومخاتلا. أي أن سفينكس هو نوع من الأنثى القاتلة. أوديب، كما رسمه مورو، يسمو فوق الإغراءات الأرضية ويدمّر قدرة أبي الهول من خلال قوّة إرادته.
وفيرناند كينوبف يتبنّى في لوحته نفس هذه الفكرة تقريبا، لكنّه يمنحها رؤية شخصيّة. واللحظة التي يصوّرها في لوحته لم يسبق أن وردت في أيّ نصّ أدبي. وهو يرسم أوديب بعد أن حلّ اللغز. وبدلا من تدمير الوحش، يبدو هذا الأخير وهو يخطب ودّ أوديب ويداعبه بتعابير تنمّ عن الرضا. لكن رغم أن أوديب تمكّن من حلّ اللغز أخيرا، إلا انه ما يزال يشعر انه واقع في براثن الوحش وأنه ما يزال في خطر.
في الأسطورة المشهورة، يُكافَأ أوديب على حلّه اللغز بتنصيبه ملكاًَ. ثمّ يتزوّج الملكة دون أن يعلم أنها، في واقع الأمر، أمّه. وعندما يعلم بالحقيقة، يعاقب نفسه بإطفاء نور عينيه. هذا الفعل يوحي بأن أوديب كان يفتقر للبصيرة والأناة. ومأساته، في النهاية، تبرهن على أن المعرفة وحدها لا تحرّر البشر من أقدارهم.

موضوع ذو صلة: زمن البراءة