:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الثلاثاء، أكتوبر 02، 2012

المحظيّة والسلطان

بعض اللوحات لا يكفي أن تنظر إليها مرّة واحدة كي تفهمها، بل لا بدّ من معاودة النظر إليها أكثر من مرّة والتمعّن في تفاصيلها الصغيرة لتعرف ما الذي أراد الرسّام أن يقوله.
هذه اللوحة للرسّام البولندي فرانشيشيك زيموركو يصوّر فيها جسدا عاريا لامرأة مستلقية ووجهها محجوب عن الناظر. الأقمشة وقطع الأثاث في الغرفة متناثرة هنا وهناك وفي حال من الفوضى.
ولأوّل وهلة، لن تكتشف المعنى الكامن في الصورة. لكن بعد أن تدقّق في تفاصيلها قليلا ستدرك أن ما تراه هو عبارة عن مسرح لجريمة قتل مفترضة وأن المرأة فيها قُتلت بناءً على تعليمات سيّدها السلطان.
الجمال الايروتيكي للصورة يحجب عن الناظر علامات العنف التي بالكاد يمكن رؤيتها. غير أن هناك سكّينا تقطر دما وآثار دماء على عنق المرأة وعلى إحدى الوسائد.
لوحة زيموركو هي نموذج للفانتازيا المرتبطة بعصر الحريم والتي تنعكس في تصاوير العديد من الرسّامين الأكاديميين الأوربيّين. غير أننا نعرف اليوم أن معظم هذه المناظر كانت ثمرة خيال جامح، لأن أيّا من أولئك الرسّامين لم يستطع اختراق هذا العالم المليء بالأسرار والغموض.
جاذبية المواضيع الشرقية في الرسم الأوربّي في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين مثّلت بداية نوع جديد من الرسم عُرف بالرسم الأكاديمي. ومن يومها أصبح الاستشراق في الرسم ظاهرة، وبات جزءا من اتجاه أكثر شمولا في الثقافة الأوروبية رأينا آثاره في العديد من المجالات مثل المعمار والموسيقى والعلوم والأدب.
اهتمام الفنّانين والعلماء الأوروبيّين بالشرق، والذي بلغ أوجه في العصر الرومانسي، ترافق مع جملة من الأحداث السياسية المهمّة، مثل حرب نابليون في مصر، واحتلال فرنسا للجزائر، ونضال اليونانيين من أجل الاستقلال. وأثناء تلك الأحداث، لعب العديد من الرسّامين الأدوار التي يضطلع بها هذه الأيّام المؤرّخون والصحفيون.
البعثات العلمية الأوربّية - ومعظمها كانت فرنسية وألمانية - أسهمت، هي الأخرى، في معرفة المزيد عن بلاد الشرق. وكان على الفنّانين أن يرسموا الأحداث السياسية والتاريخية التي كانت تجري أمام أعينهم. وقد نقلوا في صورهم الموتيفات الدينية والحريم والأسواق والمناظر الطبيعية والمعالم المعمارية. وكان هذا مصدر إلهام لظهور الأدب الخيالي الاستشراقي، بما في ذلك حكايات ألف ليلة وليلة.
الرومانسيون البولنديون لم يكونوا بعيدين عن ما يجري آنذاك. ومن أشهر هؤلاء المسرحي آدم ميتسكيفيتس ، والشاعر يوليوش سويفتسكي الذي ألّف من وحي رحلته المشرقية كتابا مصوّرا بعنوان "الرحلة إلى الشرق".
ولأن الرسّامين الاستشراقيين كانوا يركّزون، بشكل خاصّ، على تصوير مظاهر الثروة والأبّهة والطبيعة الحسّية للمناظر الاكزوتية أو الغرائبية، فقد ركّز زيموركو أيضا، وبقدر كبير من العناية، على الإمساك بنسيج الأقمشة النفيسة والأثاث وبريق المجوهرات الذهبية. ويبدو جسد المرأة متوهّجا ومرمري الطابع، مع نغمات لونية رائعة تتناغم مع الأشياء المحيطة المزخرفة بألوان ذهبية دافئة. والشكل المتطوّر للوحة لا يروق للعين فحسب، وإنما يخلق أيضا وهما باللمس.
هذا المزيج الغريب من الفتنة والعنف والثراء والشبق الذي كان يطبع اللوحات الاستشراقية فتن الأوربّيين وسكن مخيّلتهم زمنا طويلا. وقد أسهمت هذه اللوحات في إماطة أجواء الملل والرتابة التي كانت تتسم بها الصالونات البرجوازية في أوربّا في ذلك الحين. لكن الكثيرين يرون أن من الخطأ اعتبار الرسم الاستشراقي علامة على رغبة الأوربّيين في اكتساب مزيد من المعرفة عن أماكن بعيدة وغريبة، بل كانت وظيفته الأساسية إسقاط رغبات وتهويمات الإنسان الأوربّي على صورة الآخر.