:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الثلاثاء، فبراير 05، 2013

رحلة إلى مركز الأرض

يُحكى أن فلكيّا اعتاد على أن يمشي في الصحراء كلّ ليلة مراقباً النجوم. وفي إحدى الليالي، وبينما كان يحدّق في السماء، إذا به يسقط في حفرة. واتّفق أن شخصا مارّا بذلك المكان سمع الفلكيّ وهو يصرخ طالبا النجدة. ولما رأى الرجلُ الفلكيَّ وهو على تلك الحال قال له: أنت تحاول أن تعرف أسرار السماء، ولكنّك تغفل عن معرفة الأشياء التي تحت قدميك". العبرة من وراء هذه الحكاية الجميلة واضحة، وهي أننا لا يجب أن ننشغل بالنظر إلى فوق أكثر من اللازم حتى لا نسهو عن رؤية الأشياء التي من حولنا.
تذكّرت هذه الأمثولة في الأسبوع الماضي وأنا أشاهد فيلما بعنوان رحلة إلى مركز الأرض ، مقتبس عن رواية للكاتب الفرنسيّ المشهور جول فيرن بنفس الاسم.
الفيلم يروي تفاصيل رحلة علمية متخيّلة يقوم بها مجموعة من الباحثين إلى آيسلندا لدراسة احد البراكين هناك. وأثناء الرحلة، يجد أفراد الفريق أنفسهم داخل متاهة من الكهوف الضخمة ويكتشفون أنهم قطعوا أميالا عديدة في أعماق الأرض. وهناك، يفاجَئون بوجود عالم آخر مختلف تماما عن العالم الذي خبروه على سطح الأرض: حيوانات من عصور ما قبل التاريخ، طيور تتوهّج في الظلام، اسماك تطير في الهواء وتهاجم البشر بشراسة ونباتات متوحّشة تخنق كلّ من يقترب منها.
الفرضية التي يستند إليها الفيلم معروفة منذ القدم وقال بها كثيرون، وملخّصها أن الأرض مجوّفة من الداخل، وأن مركزها يمكن بلوغه من خلال فتحتين عظيمتين موجودتين في القطبين الشمالي والجنوبي قطر كلّ منهما 1400 ميل، تسمحان بالسفر بين العالمين الداخليّ والخارجيّ للأرض. وتستنتج الفرضية أن باطن الأرض يشبه سطحها الخارجيّ حيث نعيش، وبالتالي فإن هناك أرضا أخرى تحت أقدامنا وداخل مركز الأرض تحتوي على جبال ومحيطات وغيوم، بل وحتى شمس صغيرة.
لكن، هل يمكن أن تكون هذه الفرضية صحيحة؟ وما نسبة الحقيقة والخيال في ما أورده فيرن في روايته التي اعتمد عليها الفيلم؟ أثناء بحثي على الانترنت، لاحظت أن هناك مواقع عديدة مكرّسة بالكامل لمحاولة إثبات هذه النظرية ولتأكيد أن هناك ما يدعمها في العلم. وأصحاب تلك المواقع يشكّكون في طبيعة بُنية الأرض كما يفهمها بعض العلماء، ويستعينون بنظريات من علوم الجيولوجيا والأحياء والفلك لإثبات وجهة نظرهم التي تحاول بناء صورة جديدة ومدهشة عن الأرض.
أنصار فكرة الأرض المجوّفة يقولون بأن هناك ثلاثة عوالم على كوكبنا، السطح الخارجي حيث نعيش، ثمّ الأرض الوسطى التي تحتوي على عدد من الكهوف والقنوات الضخمة، وأخيرا مركز الأرض الذي يقع على بعد 2900 ميل من السطح ويؤوي مدنا وبشرا ومخلوقات.
المفارقة أن الذين يدعمون هذه النظرية ليسوا فقط من الناس العاديّين، بل إن بينهم عددا لا يُستهان به من علماء الفلك والجيولوجيا وحتى الكتّاب والشعراء. الفلكيّ المشهور ادموند هالي هو أوّل من قال بأن الأرض تتألّف من قشرة مجوّفة مليئة بالحياة. وأدباء مثل ادغار الان بو وجورج صاند، بالإضافة إلى روائيين كثر، أشاروا إلى هذه الفكرة في أعمالهم.
فكرة الأرض المجوّفة تعتمد على أساطير قديمة من حضارات شتّى تزعم بأن هناك أقواما من البشر بنوا حضارات مزدهرة في مدن تحت الأرض. والفكرة لها ارتباط قويّ بالأمكنة القديمة، مثل عالم الإغريق السفلي، والجحيم المسيحيّ الكائن في مكان ما تحت الأرض، ومملكة أغارثا الأسطورية بعاصمتها المسمّاة شامبالا، والتي تشير النصوص البوذية القديمة إلى أنها موجودة في مكان ما في أعماق أراضي التبت.
احد العلماء قال إن هناك 12 شعبا قدموا من مجرّات بعيدة وأتوا إلى الأرض منذ زمن طويل وأنشئوا أوّل مدينة لهم تحت الأرض. وعالم آخر زعم بأن ظاهرة الشفق القطبيّ التي لا تظهر إلا في سماء أعلى المناطق ارتفاعا في القطبين ما هي إلا انعكاسات لشمس مركز الأرض التي تظهر على هيئة غيوم فوق فتحتي القطبين. وهناك أيضا من قال بأن مصدر الأطباق الطائرة ليس الفضاء، وإنّما مخلوقات غريبة تسكن باطن الأرض وتنتظر منّا أن نكتشفها.
وهناك من يشير إلى أن الكوارث الطبيعية والحروب التي شهدتها الأرض في بعض الأوقات دفعت بعض الشعوب القديمة إلى الاحتماء بباطن الأرض طلبا للأمان، مثل شعب قارّة أتلانتيس المفقودة والقبائل اليهودية العشر الضائعة، ومثل شعب المايا الذي اختفى نهائيا من الأرض في ظروف ما تزال إلى اليوم غامضة. والذين يوردون مثل هذه السيناريوهات يزعمون أن المدن السفلية إنما خُلقت في الأساس كي تكون ملاذات آمنة تُحفظ فيها السجلات المقدّسة والتعاليم الخاصّة بالحضارات القديمة.
وقد قرأت أن الجيولوجيين الروس باشروا الحفر في أوائل سبعينات القرن الماضي، وعلى مدى أكثر من عشرين عاما، في إحدى الجزر قرب فنلندا على أمل أن يعرفوا المزيد عن أسرار باطن الأرض. وقد أجبرتهم الحرارة الشديدة على التوقّف عن عمليات الحفر. وكانت محصّلة ذلك الجهد نفقاً يمتدّ نحو ثمانية أميال في أعماق الأرض، وهي أعمق مسافة وصل إليها الإنسان حتى الآن، أي ما معدّله 2 في العشرة بالمائة فقط من المسافة التي تفصلنا عن النواة الداخلية للأرض.
الحقيقة أن لا احد يعرف على وجه اليقين ما الذي يحويه مركز الأرض. لكن قبل ثلاثين عاما، قال بعض العلماء إنهم اجروا اختبارا لنواة الأرض الداخلية باستخدام نموذج كمبيوتري متطوّر واكتشفوا وجود كرة عملاقة من الكريستال مدفونة داخل مركز الأرض تماما وعلى بعد أكثر من 3950 ميل. ويقال إن الوصول إلى ذلك المكان أصعب بكثير من الوصول إلى حافّة الكون التي تبعد عنّا بحوالي أربعة عشر بليون سنة ضوئية.
يقول احد الكتّاب: لا تصدّقوا ما يقوله جول فيرن وأنصار نظرية الأرض المجوّفة. فمركز الأرض ليس مكانا مضيافا على الإطلاق، إلا إن كنت تحبّ أن تجلس داخل فرن متفجّر. فالضغط في النواة الداخلية للأرض رهيب جدّا، ضعف الضغط على السطح بحوالي أربعة ملايين مرّة. ودرجة الحرارة في النواة يمكن أن تتجاوز 11000 درجة فهرنهايت، أي أكثر سخونة من حرارة سطح الشمس.
الشيء المؤكّد هو أن الناس يميلون بطبيعتهم إلى تكييف المعتقدات الدينية والحكايات الفلكلورية كي تتفق مع رؤيتهم للعالم. وفرضية الأرض المجوّفة، على الرغم من جاذبيّتها وفانتازيّتها، يدحضها العلم الحديث. فبُنية الأرض، كما توضّحها دراسة الموجات الزلزالية، مختلفة عن ما تقول به هذه الفرضية. وجوف الأرض يتألّف من طبقات من الصخور المنصهرة ومن موادّ أخرى. كما أن سُمك قشرة الأرض يمنع تشكّل كتلة مجوّفة بسبب تأثير قوّة الجاذبية.
الجانب الايجابي في فكرة الأرض المجوّفة هو أنها أثْرت خيال الإنسان وأنتجت عددا من الأساطير وقصص التصوّف الديني ونظريات المؤامرة على مدى قرون. كما أنها وفّرت، وما تزال، مادّة خصبة لكتّاب روايات المغامرات والخيال العلمي.