:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


السبت، فبراير 16، 2013

وجوه

هذه اللوحة رسمها بيكاسو لـ دورا مار، وهي المرأة التي ارتبط اسمه بها ورسمها مرارا في العديد من أعماله. الوجه في اللوحة ربّما يعني لك شيئا، وقد يثير في نفسك إحساسا أو ردّ فعل ما. غير أن بيكاسو رسم لوحات أخرى، لهذه المرأة ولغيرها، يغلب عليها الأسلوب التجريدي أو التكعيبي. وعندما تنظر إلى وجوه الأشخاص فيها قد يتشكّل لديك انطباع بأن الوجه في بعض تلك اللوحات لا يشبه وجه إنسان حقيقي.
وجه الإنسان منذ القدم ظلّ يُعتبر ملمحا مميّزا وعلامة اجتماعية. ومنذ عصور ما قبل التاريخ، ومرورا بعصر النهضة، وانتهاءً بالعصر الحديث، كانت الوجوه، وما تزال، ركنا أساسيّاً في الفنّ.
الفنّانون الذين يرسمون الوجوه إمّا يرسمونها في سياق سرديّ، وإما يستخدمونها على سبيل المجاز والاستعارة. وفي كلّ الأحوال، فإن الوجه المرسوم يتواصل مباشرة مع المتلقّي من خلال التعبيرات التي قد تكشف عن قصّة درامية أو عن حالة أو موقف انفعالي. وخلال عصر النهضة بالذات، ساد اعتقاد بأن المظهر الخارجي للإنسان، خاصّة تعبيرات وجهه، يعكس إلى حدّ كبير طبيعته الداخلية.
الوجه هو أوّل ما نلاحظه في الأشخاص الذين نقابلهم كلّ يوم. وهو يقول لنا الكثير عن هذا الشخص أو ذاك. وكثيرا ما نكوّن انطباعاتنا الأوّلية عن الشخص من خلال تعبيرات وجهه.
قد ننظر إلى شخص ما فننجذب إلى ملامح وجهه ويصبح جديرا بثقتنا ومن ثمّ نرتبط به. وقد ننفر من شخص ما لأن تعبيرات وجهه تشي بالخداع أو المكر فنتجنّبه.
لكنْ وراء هذا الفعل السلوكي يكمن عامل أكثر عمقاً. فطوال فترة وجود الإنسان على الأرض، كان تقييم البشر لبعضهم البعض من خلال قراءة ملامح الوجه سببا مهمّا في البقاء. فبهذه الطريقة، أي الاعتماد على تعبيرات الجسد والوجه لفهم النوايا والعواطف، تَعلّم أسلافنا الأوّلون كيف يتجنّبون الصراع ويتفرّغون للتناسل وجمع الغذاء وبناء المأوى.
اليوم تتوفّر أدلّة جديدة ومدهشة من علم الأعصاب تؤكّد أن للوجوه مكانا خاصّا في الدماغ يقوم بتحليل الوجوه وتمييزها. وعندما تنظر إلى وجوه الناس الذين حولك، فأنت إنّما تُشرك في هذه العملية ذلك الجزء من دماغك المخصّص لتصوّر وإدراك الوجوه. وما يحدث هو انك عندما تنظر إلى وجه شخص ما، فإن الدم يتدفّق تلقائيا باتجاه منطقة في الفصّ الأيمن من الدماغ تُسمّى منطقة التلفيف المِغزلي. ومهمّة هذا الجزء من الدماغ هي التفاعل مع الوجوه وتحليل ملامحها وتمييزها.
والحقيقة أن جميع الكائنات الحيّة تقريبا، بما في ذلك الكلاب والقطط وحتى العناكب، وبالتأكيد الإنسان، تشترك معا في طبيعة تركيبة الوجه وتموضع الأعضاء فيه، كالجبين والعينين والذقن والأنف.. إلى آخره.
هذا الترتيب أو التناسق في تشكيل الوجوه بهذه الطريقة المنظّمة من شأنه أن يحسّن فرص الكائن لأن يبقى على قيد الحياة لأطول فترة ممكنة. فالعينان، من مكانهما العالي في الوجه، تتوفّران على أفضل الفرص لرؤية العالم من زوايا متعدّدة. ووضع الأنف المتّجه إلى أسفل يمكّن الكائن من تجنّب المطر. وموضع الفم تحت العينين والأنف مباشرة يضمن ألا يدخله طعام إلا بعد أن تتفحّصه الأنف والعينان التي فوقه.
الوجوه كانت دائما مصدرا للفتنة والإثارة. وهناك الكثير من الناس مفتونون بشكل استثنائي بقراءة الوجوه. ربّما كانت تلك طبيعة متجذّرة في البشر. وقد يكون دافع البعض إلى ذلك الرغبة في التواصل مع الآخرين وبناء جسور الصداقة معهم.