:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الأحد، مارس 10، 2013

الجَمال في الثقافة العربية

في كتابها بعنوان الجمال في الثقافة العربية، تقدّم دوريس بيرنز أبو سيف أستاذة الدراسات الشرقية والأفريقية والعمارة الإسلامية دراسة بانورامية عن مفاهيم الجمال في الثقافة العربية الكلاسيكية وما بعد الكلاسيكية في القرن الخامس عشر. وتستند المؤلّفة في دراستها عن الموضوع إلى نصوص عربية شتّى من الفلسفة واللاهوت والتصوّف والشعر والنقد الأدبي، فضلا عن مصادر تاريخية مختلفة وحكايات من ألف ليلة وليلة.
تشير المؤلّفة في مقدّمة الكتاب إلى أن الفكر العربي الإسلاميّ اهتمّ بوضع قواعد للجمال مستقلّة عن المعايير الأخلاقية أو الدينية. وكان يُنظر إلى العمل الفنّي، من شعر وخطّ وموسيقى ومعمار وفنون زخرفية، بمعزل عن الارتباطات الدينية والغيبية. ومع ذلك كان للجمال مكان بارز في الفكر الدينيّ. كما أن التقاليد العربية الإسلامية تنظر إلى جمال الكون، كما يؤكّد على ذلك القرآن الكريم، وإلى الإعجاز الأدبيّ للنصّ القرآني نفسه، كدليل دامغ على القدرة الإلهية.
وتحت تأثير الفكر اليوناني، تعامل الفلاسفة والمتصوّفة وعلماء الدين المسلمون مع العلاقة بين الجمال والحبّ بوصفها العامل الأساس في حركة الكون، كما أن التراث الصوفي ظلّ يركّز على الشغف بجمال الإله كما يتجلّى في صورة الإنسان.
وتؤكّد المؤلّفة انه على الرغم من أن الجمال، في العالم العربي في فترة ما قبل الحداثة، كان مادّة للاستمتاع والتذوّق في كلّ مكان تقريبا، إلا أن الإسلام يخلو من نظرية عامّة عن علم الجمال أو نظرية منهجية للفنون. لكنّ غياب نظرية متكاملة عن الجمال في الثقافة العربية لم يمنع تشكّل الوعي بالصلة ما بين الجمال والفنّ، وما بين الجمال من أجل المتعة والجمال المعنوي.
الكاتبة استعانت في دراستها بمجموعة واسعة من المصادر، مثل القرآن والنصوص القانونية والدينية والصوفية والسير الذاتية والنقد الأدبي والمؤلّفات العلمية والجغرافية والفلسفية. وقد ساقت لهذا الغرض مجموعة متنوّعة من الأمثلة على مفاهيم الجمال في الثقافة العربية والإسلامية الكلاسيكية، مثل استخدام الاستعارات والرموز الحسّية المثيرة في أعمال الشعراء الصوفيين، لإظهار أن العمل الفنّي لم يكن دائما مرتبطا بالغيبيّ والإلهيّ.
تقول الكاتبة بأن دافعها من وراء تأليف الكتاب هو إدراكها بأن هناك فرقا أساسيّا بين الفكر الأوروبّي القروسطي والمنهج الإسلامي الفلسفي حول موضوع الجمال. ففي الثقافة الإسلامية، لم يكن الموقف من الجمال مرتبطا بالمعايير الدينية، وهذا أمر يتناقض بحدّة مع وجهة النظر العامّة عن الجمال في أوروبّا العصور الوسطى.
وتضيف انه خلافا لما حدث في الغرب المسيحيّ، فإن المسلمين لم ينظروا نظرة نوستالجية للثقافة اليونانية باعتبارها العصر الذهبي والامتداد الطبيعي للحاضر، وإنما سعوا إلى أن يتعلّموا منها ويمزجوها بمعارفهم الخاصّة. وتستشهد بالحديث المشهور "إن الله جميل يحبّ الجمال" باعتباره دليلا على أن المسلمين كانوا ينظرون إلى المعرفة باعتبارها أمرا أساسيا لإدراك كنه الخالق.
كما تستشهد بكلام للإمام الغزاليّ عن الجانب الجماليّ للأشياء عندما قال: مثلما أن الحصان الجميل يجمع بين كلّ ما هو مميّز من جمال المظهر وتناسق الألوان والحركة الجميلة وأصالة المنشأ، فإن جمال كلّ كائن يكمن في كمال سماته الخاصّة".
لقد ورث العرب عن الإغريق الفكرة التي تقول إن التناسب هو أساس الجمال. وكان هذا صحيحا لاسيّما في الفنون، مثل فنّ الخطّ والموسيقى. ولكنه كان أيضا منطبقا على كلّ ما له علاقة بجمال الجسم البشري.
علم النفس أيضا لعب دورا هامّا في التنظير للجمال، وهو ما لاحظه بوضوح الجرجاني، الناقد المشهور، عندما قال: عندما يظهر شيء ما من حيث لا يُتوقّع ظهوره أو من مصدر غير مصدره الطبيعيّ، فإن روح الإنسان تهفو إليه وتحسّ تجاهه بولع أعمق".
وتقدّم الكاتبة أمثلة من كتاب الأغاني عن ما تسمّيه بالعامل العاطفيّ في تصوّرات الجمال، من قبيل قصّة الرحّالة العربي الذي سمع صوتا يشدو بأغنية عربية في القسطنطينية. وقد سأل الرحّالة نفسه ما إذا كانت متعته في سماع تلك الأغنية نابعة من الغناء نفسه أم من حقيقة أنه كان يسمع الأغنية خارج سياقها الطبيعيّ.
في الكتاب أيضا فصل مخصّص للحديث عن الحيوانات في الأدب العربيّ. وتسرد المؤلّفة ما لا يقلّ عن 80 نوعا من الحيوانات التي وردت في قصائد الشعراء من زمن الجاهلية. كما تشير إلى كتاب الحيوان للجاحظ الذي يتضمّن سبعة مجلّدات مخصّصة لوصف كلّ نوع من الحيوانات التي يرى فيها الكاتب جوانب من شخصية الإنسان. كما تتوقّف عند قول أبي حيّان التوحيدي: كلّ ما هو جيّد جميل، لكن ليس كلّ ما هو جميل جيّدا".
في الفصل المخصّص للحديث عن الحبّ، تذكّرنا المؤلّفة بالفارق الأساسيّ بين المسيحية والإسلام حول هذا الموضوع. ففي حين أن المسيحية توصي بالعزوبة أو الامتناع عن الزواج، فإن الإسلام فضّل الزواج والعلاقة الجنسية في إطار قانوني. وقبول الجنس كجانب صحّي من الحياة هو فرق حاسم بين الفكر الدينيّ عند العرب والمسيحيين. وربّما لهذا السبب انعكست هذه الرؤية في اختلاف تصوّرات كلّ من الجانبين عن طبيعة الجنّة.
وفي سياق حديثها عن الموسيقى، تقتبس الكاتبة كلاما لمؤلّفين عرب مثل المسعودي والفارابي، ولإخوان الصفا، مشيرة إلى أنه في العالم العربي المعاصر يُعتبر المؤدّي أكثر أهمّية من الملحّن، وتورد أم كلثوم كحالة نموذجية لهذه القاعدة.
وفي فصل آخر من الكتاب، تشير المؤلّفة إلى أن عمالقة الشعر العربي كالمتنبّي وأبي نواس والمعرّي لم يكونوا بأيّ حال متمرّدين على قيم المجتمع كما يظنّ البعض، لأن الشعراء في ذروة صعود الحضارة العربية كانوا يعملون في إطار القواعد الليبرالية لمجتمع كان يحترم الفنون الدنيوية ويعطي المبدعين مطلق الحرّية في التعبير عن مشاعرهم. ولم يكن باستطاعة الأصوليين أن يمنعوا ممارسة هذه الفنون، بل كان لموقفهم المعادي للإبداع اثر معاكس. وتذكّر المؤلّفة بمقامات الحريري التي كانت في زمانها أفضل الكتب مبيعا، على الرغم من أن بطلها كان شخصا مشكوكا في أخلاقه.
ثم تسوق الكاتبة ملاحظة مهمّة، وهي انه باستثناء الشعر الجاهلي الذي كان يتمحور حول الحياة في الصحراء، فإن فنّ العرب كان في المقام الأوّل فنّا حضريا، كما أن الإسلام نفسه يرى أن الإنسان لا يمكن أن يعيش وينمو إلا داخل مجتمع منظّم. ولهذا السبب، كان ابن خلدون، الذي يوصف بأنه آخر المفكّرين العرب العظماء في عصور ما قبل الحداثة، يؤكّد على الارتباط الوثيق بين الأنشطة الثقافية ومحيطها السياسيّ والاجتماعي.
كتاب الجمال في الثقافة العربية وُضع أساسا باللغة الألمانية. وأهميّته تكمن في انه يتناول جانبا مهمّا من ثقافة ما تزال مجهولة إلى حدّ كبير لدى شريحة واسعة من القرّاء الغربيين.