:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الأحد، مارس 23، 2014

لقاء بين امرأة وطائر 1 من 2

عندما تتأمّل بعض الحكايات التي كان الأوّلون يتداولونها في ما بينهم لتفسير كيف يعمل العالم، فستحصل على كثير من الأشياء الغريبة: كلاب بثلاثة رؤوس، بشر على هيئة تيوس، رجال ونساء برؤوس بشر وأجساد خيول وبغال، ومخلوقات لها وجوه مشوّهة وبعين واحدة. وهذا فقط ليس سوى غيض من فيض، كما يقال.
الإغريق، بشكل خاصّ، كان عندهم الكثير من هذه القصص الجامحة، وأكثرها يحكي عن آلهة تتصرّف بطريقة رديئة ومتهوّرة.
من أشهر هذه القصص قصّة "ليدا والبجعة" التي ذكرها هوميروس في ملحمة الإلياذة. وليدا في الأسطورة هي امرأة حقيقية من لحم ودم. أمّا البجعة فليست من نوع البجع الذي اعتدت أن تراه وأن تداعبه في الحدائق والبحيرات، كما أن لا علاقة لها بتلك البجعات البريئة التي صوّرها تشايكوفسكي وسان سونس في موسيقاهما. هذه البجعة هبطت إلى الأرض من جبل الأوليمب ولديها مهمّة تريد انجازها. والبجعة ليست في حقيقة الأمر سوى زيوس كبير آلهة الإغريق وهو في حالة تنكّر. أمّا لماذا يتنكّر، فهذا ما سنعرفه بعد قليل.
أسطورة ليدا والبجعة صُوّرت بكيفيّات أدبية وفنّية وفلسفية متعدّدة. وإحدى أشهر المعالجات الفنّية المعروفة لهذه القصّة هي قصيدة الشاعر الانجليزي وليام بتلر ييتس بنفس العنوان.
ولكن قبل أن ندخل إلى أجواء قصيدة ييتس، لا بدّ أوّلا من الحديث قليلا عن هذه الأسطورة. ودونما حاجة للدخول في التفاصيل، يكفي أن نعرف أن ليدا كانت فتاة من اليونان القديمة اغتصبها زيوس زعيم الآلهة بعد أن تخفّى بهيئة بجعة جميلة. ونتيجة لذلك، وضعت ليدا طفلة هي هيلين، وابنة أخرى هي كلايتمنيسترا. كما وضعت توأما من المحاربين الأشدّاء هما كاستور وبولوكس.
هيلين أصبحت في زمن تالٍ أجمل امرأة في اليونان القديمة. وقد طلب يدها العديد من الأمراء للزواج. وفي النهاية تزوّجت من مينيلوس، ملك سبارتا، الذي كان أكثر الخاطبين وجاهة وثراءً. وقد أنجبا في ما بعد طفلة. غير أن زواجهما تعرّض للضرر عندما وقع باريس، وهو أمير من طروادة، في هوى هيلين.
ولأن مينيلوس كان غائبا عن القصر حينها، فقد اختطف باريس هيلين "تشير رواية أخرى إلى أنها ذهبت معه بإرادتها" وهربا معا إلى طروادة، الأمر الذي أدّى إلى اشتعال حرب طروادة التي دامت عشر سنوات. وكما هو معروف، كانت تلك الحرب هي الحدث الأساسيّ والكبير في إلياذة هوميروس.
عندما كتب الشاعر وليام ييتس هذه القصيدة عام 1928، كان معظم القرّاء وقتها على علم بقصّة ليدا والبجعة. وكان من المفيد أن ييتس أعطى قصيدته هذا العنوان، أي ليدا والبجعة. وربّما لولا العنوان لما عرفنا عن ماذا يتحدّث الشاعر، ولكنّا ظننّا انه كتب قصيدة ايروتيكية تجري أحداثها في حديقة للطيور مثلا.
العنوان أيضا، أي ليدا والبجعة، يثير مجموعة من الارتباطات من تاريخ الفنّ الغربيّ. فقصّة ليدا مثيرة بحيث لم يستطع الفنّانون مقاومة إغراء تصويرها، سواءً كان ذلك رسما أو نحتا. وكان التحدّي الذي واجههم هو التعامل مع القصّة من منظور جديد. وهذا هو نفس التحدّي الذي واجه الشاعر ييتس أيضا.
في القصيدة، لا نرى سوى لمحات سريعة من هذا الطائر الذي يشبه البجعة. ومن الواضح انه يتحرّك بسرعة كبيرة، وعقله مركّز على شيء واحد.
المكان الذي تجري فيه القصّة/القصيدة مقتطع ومشوّه. ونحن نرى العالم كما لو انه اصطدم للتوّ بجسم ضخم. ويُفترض أن نتخيّل أن ليدا قبل الحادثة كانت تتجوّل في منظر من الطبيعة الخلابة، حديقة أو غابة مثلا. لكنّنا لا نرى مثل هذا المنظر الهادئ، بل سلسلة من الصور التي تذكّرنا بفيلم الطيور لألفريد هيتشكوك.

القصيدة تبدأ بداية قويّة: ضربة مفاجئة وجناحان عظيمان". الضربة المفاجئة ليست شاهدا فقط على العنف، وإنّما أيضا على الارتجال وانعدام التخطيط من قبل زيوس الذي ارتكب تصرّفا مرعبا وظالما عندما حوّل نفسه إلى مخلوق جميل، ولكن غير سويّ، في محاولته الظفر بامرأة جميلة.
والقصيدة تبدأ بصورة للبجعة وهي تهبط على ليدا. جناحاها الكبيران هما أوّل شيء يصفه الشاعر. وهي تمسك ليدا بمنقارها وتضغط على صدرها. والأسطر الثمانية الأولى تتناول الانطباعات الحسّية التي تشعر بها ليدا، مثل صوت اندفاع أجنحة البجعة وساقيها المتعثّرين وشعورها بأن البجعة تمسك بها من مؤخّرة رقبتها، ثم إحساسها بقدمي البجعة وهما يتقدّمان باتجاه فخذيها.
ثم ينتقل مكان القصيدة إلى المستقبل. ومن مسافة بعيدة، نرى الأسوار المهدّمة لمدينة طروادة بعد أن نُهبت وأحرقت، بينما يتصاعد من المدينة عمود من الدخان الكثيف يتوسّطه وهج برتقاليّ اللون.
بعد ذلك تتحرّك القصيدة إلى بقعة أخرى من المدينة، فنرى البطل اغاممنون وهو ملقى صريعا على أرضية منزله بعد أن قتلته زوجته كلايتمنيسترا بالتعاون مع الرجل الذي اتخذته عشيقا لها خلال سنوات الحرب. "للتذكير: كلايتمنيسترا هي الابنة الثانية التي أنجبتها ليدا بعد اغتصابها".
الأسطر الأخيرة من القصيدة تعيدنا إلى المكان الحالي لليدا، وبالتحديد في الوقت الذي تنفث فيها البجعة قطرات من منقارها.
المتكلّم في قصيدة "ليدا والبجعة" يشبه احد أولئك المراسلين الذين يغطّون أخبار الكوارث الطبيعية على التلفزيون. لكنّه لا يتدخّل للمساعدة. وهو يقدّم شرحا مفصّلا لمحنة ليدا، في حين يبدو كما لو انه يحوم حولها من جميع الزوايا.
ومن الواضح أن المتكلّم يروي قصّة كان يعرف مسبقا نهايتها. وهو أشبه ما يكون بشخص قفز إلى داخل آلة للزمن كي يشاهد نقطة تحوّل بالغة الأهميّة في التاريخ، أي الحمل بهيلين أميرة طروادة. وحتى عندما تكمل البجعة الفعل الجنسي، فإن عقل المتكلّم يذهب سريعا إلى المستقبل كي يتأمّل معناه.
قصيدة ليدا والبجعة هي في جوهرها تصوير للقاء جنسيّ عنيف بين امرأة وطائر. وإذا كنت تجد نفسك متعاطفا مع وجهة نظر اليونانيين القدماء، فقد تعتقد أن اللقاء عبارة عن تجربة إلهية وغامضة. أما إن قاربت القصيدة من منظور أكثر حداثة، فقد تشعر بالرعب. والقصيدة تتجاوب مع وجهتي النظر هاتين معا.
القارئ الحديث قد يجد لغة القصيدة مزعجة لصراحتها وجرأتها. هذا على الرغم من أن القصص التي تحكي عن الجنس مع الحيوانات كانت شائعة في المجتمعات الكلاسيكية مثل اليونان القديمة. وقصّة ليدا والبجعة كانت معروفة جيّدا وقتها.
لغة ييتس تصوّر البجعة على أنها عنيفة وغير مكترثة، ولكنها أيضا غامضة ومغرية. والشاعر يقدّم صورة للحظة الجنس، مشيرا إلى مشهد لا يخلو من الرقّة. وهو يلمّح إلى أن ليدا قد تكون تصرّفت بإرادتها وليس بسبب قوّة قاهرة، وكأنه يوحي بأنها ربّما كانت راضية عمّا جرى. كما انه يصف ثدييها المرتعشين بأنهما عاجزان أو بلا حول ولا قوّة، ما يعني انه لم يكن لها خيار في ما حدث لها، أو أن هذا حدث بسبب غلبة شهوتها.
النقطة التي يثيرها ييتس هنا هي انه لو كانت ليدا تعلم مسبقا عن الدمار الذي ينتظر شعب طروادة بسبب إغواء زيوس لها، فإنها عندئذ تصبح ضالعة مع زيوس في ذلك الإثم.