:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الاثنين، يونيو 02، 2014

ساحرات غويا/2

هذه اللوحة واللوحة التي قبلها هما جزء من ما سُمّي باللوحات السوداء. وقد انتهى غويا من رسم هذه المجموعة عندما أكمل عامه الخامس والسبعين. كان آنذاك يعيش لوحده في محنته النفسية والجسدية. ويبدو انه أراد من خلالها استكشاف موضوعات العنف والرهبة والشيخوخة والموت.
وقد رسم غويا هذه اللوحات مباشرة على جدران منزله. وعلى ما يبدو، لم يكن ينوي في البداية عرض أيّ من الجداريات الأربع عشرة على الجمهور، كما لم يكتب عنها شيئا وربّما لم يتحدّث عنها أبدا. وفي عام 1874، أي بعد مرور حوالي 50 عاما على وفاته، أزيلت اللوحات من مكانها ونُقلت إلى القماش، ومن ثمّ إلى متحف البرادو حيث هي اليوم.
و"سبت الساحرات 1 و 2" يمكن ربطهما من حيث موضوعهما بلوحته التي أنجزها في وقت سابق بعنوان "نوم العقل يوقظ الوحوش" وكذلك بمجموعة لوحاته من سلسلة "كوارث الحرب" والتي لم تُعرض إلا بعد وفاته بـ 35 سنة.
وهذه اللوحات تُعيد إلى الأذهان ذكريات حيّة ومروّعة عن محاكم التفتيش في إسبانيا. كما أنها تتضمّن انتقادا للملكيين ورجال الدين الذين كانوا قد استعادوا السيطرة على أسبانيا بعد حرب شبه الجزيرة الأيبيرية من عام 1807 إلى 1814. وكان دعاة التنوير قد سعوا إلى إعادة توزيع الأراضي على الفلاحين وتعليم النساء واستبدال الخرافة بالعقل وبوضع نهاية لمحاكم التفتيش. ووجد الليبراليون المثاليون، من أمثال غويا، أنفسهم في مرمى نيران التقليديين الذين عملوا على إعاقة جهود الإصلاح.
"سبت الساحرات رقم 2" كثيرا ما أثارت إعجاب مؤرّخي الفنّ. فمن ناحية، هي تقدّم نموذجا واضحا على أسلوب غويا الفنّي. والأمر الثاني أنها كانت وما تزال توفّر موضوعا خصبا للنقاش.
وهذه اللوحة تصوّر أيضا جماعة من الساحرات المتحلّقات حول شيطان. والشيطان هنا أيضا يأخذ شكل تيس ويرتدي عباءة كاهن أو رجل دين. وعلى غرار بقيّة لوحات غويا السوداء الأخرى، فإن الحدث الذي تصوّره اللوحة يجري في وقت ما بعد الغسق، عندما لا يمكن رؤية سوى الظلام في الخلفية.
هذا الظلام يحجب مكان الأشخاص المجتمعين. لكن يمكن افتراض أنهم موجودون في مكان منعزل وناء. الوجوه الشوهاء والقبيحة للنساء الحاضرات مع أفواههنّ الفاغرة في رهبة أو خوف هي أيضا من سمات اللوحات السوداء. والملامح الشبحية والعيون الغائرة توحي بأن ما يجمع هؤلاء الأشخاص هنا هو أمر له علاقة بالحداد أو الموت.
النساء يتفاوتن في السنّ، لكنهنّ يشتركن في الملامح المشوّهة. كما أنهنّ يبدين مرعوبات ومنصاعات تماما لأوامر الشيطان.

وأنت تتأمّل هذه اللوحة بجوّها المقبض والكئيب، لا بدّ وأن يلفت انتباهك فيها تفصيلان: الأوّل هو المرأة الضخمة التي تجلس في المنتصف وترتدي فستانا اسود. تبدو المرأة متحفّزة، عيناها مفتوحتان على اتساعهما وتعبيرات وجهها توحي بالصدمة والفزع، وكأنها تنتظر دورها في طقوس الشعوذة هذه.
وعلى يمين الشيطان أو التيس يمكن رؤية شخص يرتدي الملابس البيضاء. هل ثمّة علاقة ما بين الاثنين؟ هل يكون هذا الشخص مساعد الشيطان مثلا؟ على الأرض، إلى يمين هذا الشخص، ثمّة قوارير يُفترض أنها تحتوي على أدوية وعقاقير لزوم المراسم الشيطانية ربّما.
ملامح الشيطان نفسه ليس من السهل رؤيتها أو تحديدها. فمه مفتوح كما لو انه يصرخ أو يتفوّه بلعنات أو شتائم. وهذه اللوحة واللوحة التي قبلها يمكن اعتبارهما مصداقا للقاعدة التي تقول أن لا شيء يقوّي ويرسّخ السلطة المطلقة كالخوف.
وما فعله غويا في هذين العملين وفي غيرهما كان وسيلته لإيصال ما كان يشعر به من كرب وشعور بالمأساة على الصعيدين الشخصي والمجتمعي. الطلاء القاتم والأماكن الليلية والشخوص المعذّبون جسديّا وعقليّا وعاطفيّا، كلّها عناصر سترتبط من الآن وإلى الأبد باللوحات السوداء.
الاهتمام بالخوارق والغيبيات كان سمة من سمات الحركة الرومانسية. وفي تلك الفترة كانت الحكايات عن تجمّعات السحرة وظهور الشيطان في منتصف الليل شائعة بين سكّان المجتمعات الريفية. واللوحتان تعكسان ازدراء الرسّام لإيمان بعض فئات المجتمع بالخرافات وتعمّد الكنيسة المدعومة باستبداد حكم الإقطاع زرع المخاوف الغيبية في عقول الناس.
لكن في سياق إسباني، يمكن اعتبار اللوحتين احتجاجا ضدّ أولئك الذين أيّدوا وفرضوا قيم محاكم التفتيش الإسبانية التي كانت نشطة في القرن السابع عشر.
انسحب غويا من الحياة العامّة وتوارى عن أعين الناس في السنوات الأخيرة من حياته. كان يخشى باستمرار من أن يصاب بالجنون. ومن المحتمل انه كان يشعر بالاشمئزاز حينها بسبب الظروف الاجتماعية والسياسية في اسبانيا بعد استعادة الحكم الملكي.
وفي أوائل عام 1790 أصبح أصمّ تماما. ومن المؤسف أن الصمم رافقه حتى نهاية حياته. والحقيقة انه لا يُعرف الكثير عن حياة غويا ولا عن أفكاره في تلك السنوات القليلة التي عاشها بهدوء خارج مدريد وتمتّع خلالها بحياة من العزلة شبه الكاملة.

Credits
museodelprado.es
franciscodegoya.net
totallyhistory.com