:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الاثنين، يونيو 29، 2015

خواطر موسيقية


هذه القطعة "فوق" اسمها "آريا دا كابو"، وهي المعزوفة الأولى من تنويعات غولدبيرغ ليوهان سيباستيان باخ. "آريا" تعني نغم، و"دا كابو" تعني من الرأس أو من البداية.
ويُعتقد أن باخ لم يؤلّف النغم نفسه، ولكنّه قام بتكييفه من رقصة فرنسية انقرضت ولم يعد لها أثر اليوم.
علماء الموسيقى يذهبون إلى أن باخ كُلّف بتأليف التنويعات من قبل الكونت كايزرلينغ السفير الروسي في بلاط دريسدن لكي يعزفها يوهان غولدبيرغ رئيس موسيقى الغرفة في بلاط الكونت.
ويقال إن كايزرلينغ كان يعاني من الأرق المزمن. وقد أراد بعض الموسيقى التي من شأنها أن تكون ناعمة ومهدّئة كي تساعده على النوم. ويبدو أن موسيقى باخ المسكّنة هذه فعلت فعلها للكونت وأدّت إلى تحسّن حالته. وقد كافأ باخ على عمله بأن أهدى إليه إناءً مذهّبا يحتوي على مائة قطعة من الذهب.
النسخة الأكثر شهرة من تنويعات غولدبيرغ هي تلك التي وضعها عازف البيانو الكندي غلين غولد في عام 1955. وكان هذا أوّل تسجيل مهمّ لها.
وقد أبدت شركة التسجيل الراعية قلقها في ذلك الوقت من احتمال أن لا يكون هذا العمل ملائما لذوق الجمهور. ومع ذلك، عندما طُرح التسجيل في السوق لقي إقبالا ومديحا هائلا وكان من بين أفضل تسجيلات الموسيقى الكلاسيكية في تلك الفترة مبيعا ورواجا.
المشكلة أن هذه القطعة الأنيقة على البيانو، أي المعزوفة الأولى من تنويعات غولدبيرغ، أصبحت معروفة في العقل الشعبي على أنها الموسيقى المفضّلة لعالم النفس والمجرم آكل لحوم البشر هانيبال ليكتر، وهو سفّاح متخيّل سيّئ السمعة لعب دوره الممثّل أنتوني هوبكنز في فيلم صمت الحملان. وبطبيعة الحال، أصبح من الصعب أن تقنع الناس أن هذه المعزوفة الرقيقة والهادئة كُتبت، ولغاية أخرى مختلفة، قبل حوالي ثلاثة قرون من ظهور هذا الفيلم.
المجرم ليكتر كان مغرما بسماع موسيقى باخ هذه. وقد وظّف المخرج تسجيل غلين غولد لهذه القطعة في مستهلّ الفيلم. وأيضا في احد المشاهد يقوم المجرم بقتل حارسين على أنغام هذه الموسيقى.
كما ظهرت القطعة أيضا في الموسيقى التصويرية لفيلم المريض الانجليزي الذي أُنتج عام 1996.
بشكل عام يمكن القول أن الـ آريا دا كابو هو شكل من أشكال الموسيقى التي كانت سائدة خلال عصر الباروك. وكان يُغنّى من قبل عازف منفرد بمرافقة الآلات الموسيقية، وغالبا مع اوركسترا صغيرة.


وكان هذا النوع من الموسيقى شائعا جدّا في الأشكال الموسيقية مثل الأوبرا والاوراتوريو أو الموسيقى الدينية. ووفقا للمؤرّخ راندل، فإن عددا من موسيقيّي الباروك (وأشهرهم جورج فريدريك هاندل) ألّفوا أكثر من ألف نغم من هذا النوع أثناء حياتهم. وكان نصّ نغم دا كابو عادة عبارة عن قصيدة أو تسلسل من أبيات شعرية مكتوبة في مقطوعتين.
والواقع أن من بين العديد من المزايا الفريدة لموسيقى باخ الصوتية هي استخدام ما يُسمّى الـ دا كابو 'الحرّة' أو 'المعدّلة'. والسبب في تبنّي باخ لهذا الشكل المميّز من الموسيقى كان موضوعا لتكهنّات كثيرة من قبل خبراء الموسيقى الذين وجدوا سوابق في أعمال سكارلاتي وأمثلة موازية في موسيقى هاندل.
لكن، ومن خلال التحليل الدقيق للنصّ والموسيقى في أمثلة عديدة، اتّضح أن نسخة باخ من هذه الموسيقى تختلف عن أيّ شيء في موسيقى أسلافه ومعاصريه.
ولا يوجد تفسير واحد عن سرّ استخدامه لذلك الأسلوب. لكن معظم الأمثلة تثبت اهتمام باخ بالسمات الرسمية أو البلاغية للنصوص الشعرية.
وبما أن الحديث عن باخ وموسيقاه، قد يكون من المناسب أن اختم الموضوع بالقطعة الثانية إلى فوق، وهي كونشيرتو الكمان رقم 2. هذه القطعة سبق أن وضعتها في هذه المدوّنة مرارا لأنني أحببتها دونما سبب واضح، ربّما بسبب عزف الكمان الرائع أو التوزيع الموسيقي البديع فيها.
صديق عزيز لهذه المدوّنة وصف المعزوفة هكذا: رائعة ومليئة بالحياة، وأوّل صورة تنطبع في خيالي عندما اسمعها هي رقصة لـ "باروكيين" في قصر مُذهّب ومليء بالشموع، وفساتين ملوّنة ومنتفخة من الخصر".
بينما أنا استمع إلى هذا الكونشيرتو، للمرّة العشرين أو الثلاثين ربّما، تساءلت: موسيقى بمثل هذه الأناقة والفخامة، ترى كيف كانت تُعزف في زمن باخ الذي لم يكن فيه اوركسترات كبيرة وضخمة؟ وكيف كان تجاوب الناس مع العزف؟ وإلى أيّ حدّ تتشابه أو تختلف طريقتا العزف هذه الأيّام وفي عصر الباروك؟!

Credits
jsbach.org
baroquemusic.org