:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الخميس، مايو 19، 2016

الأخضر في الفنّ والحياة


الألوان تشبه الممالك والامبراطوريات القديمة: لها عمر محدّد، وأوقات صعود وهبوط، تتألّق حظوظها لبعض الوقت ثم لا تلبث أن تأفل وتنحسر.
وإذا كان هناك اليوم لون يسمو فوق الحدود والعولمة فهو اللون الأخضر. الأخضر يبدو انه لون الحياة والحظّ والأمل. لكنه أيضا لون انعدام النظام، والجشع، والسمّ والشيطان.
انه لون غير مستقرّ ومن الصعب تثبيته. لذا ليس من المدهش انه أصبح مرتبطا بكلّ الأشياء المتغيّرة والعابرة والمؤقّتة كالطفولة والحبّ والمال.
والأخضر، وكما هو الحال مع جميع الألوان الأخرى، له تدرّجاته وظلاله الكثيرة والمتعدّدة. أتذكّر مؤخّرا، وكنّا في رحلة بالسيارة، أننا رأينا ظلالا لا تُعدّ ولا تُحصى من هذا اللون في بعض جبال ومرتفعات المنطقة الجنوبية بعد الأمطار الأخيرة. ولفت انتباهنا أن مستوى ونوعية الاخضرار يختلف من بقعة لأخرى، مع انه قد لا يفصل بينهما سوى كيلومتر أو اثنين.
كما كان لافتا أن الأشجار والنباتات في بعض تلك النواحي اكتسبت لونا اخضر غامقا قد لا يثير سوى الانقباض، بينما لا ترى ذلك الأخضر الليمونيّ الفاتح واليانع والمريح للعين والنفس إلا في الأراضي المنبسطة والمفتوحة.
ميشيل باستورو، خبير الألوان ومؤلّف كتاب عن اللون الأخضر، يقول إن هذا اللون كان ملك الألوان طوال العشر سنوات الأولى من هذه الألفية. والأخضر برأيه ليس مجرّد لون، بل إيديولوجيا. ويضيف إن هذا اللون لم يكن يظهر إلا نادرا في قائمة الألوان المفضّلة لدى صنّاع الموادّ الاستهلاكية.
حتى فنّاني الحداثة الأوائل كانوا يتجنّبون استخدام الأخضر. موندريان، مثلا، كان يسمّيه اللون غير المفيد. وكاندينسكي اعتبره لونا مُتعبا وقارنه ببقرة سمينة تتمتّع بصحّة جيّدة وتكتفي بتأمّل العالم من حولها بعينين غبيّتين.
لكن، وكما يعلم أيّ دارس لتاريخ الألوان، فإن الموضة عابرة ومؤقّتة. والقيم الثقافية الهامدة زمنا طويلا يمكن أن تنشط فجأة بعد عقود، وأحيانا بعد قرون من النسيان والكمون.
قبل تجارب نيوتن عن الطيف الضوئيّ وفي الفكر الأرسطي، احتلّ الأخضر مكانة مركزية بعيدا عن الأطراف. وهي نظرة طبّقها البابا اينوسنت الثالث في القرن الثالث عشر عندما فرض اللون الأخضر على الكهنة في احتفالاتهم بالمناسبات الدينية، لأنه لون وسيط بين الأبيض والأحمر والأسود.
لكن الأخضر ليس خيرا دائما ولا دليلا على الحبّ، بل إن جزءا منه "شيطانيّ". فهناك مثلا "الصيّاد الأخضر" و"الفارس الأخضر"، وكلاهما مخلوقان شرّيران ينفثان الهلاك والخراب على كلّ من يقابلهما.
باستورو يؤكّد أيضا أن الأخضر لون غير مستقرّ، سواءً في نظرية الألوان أو في الصناعات التي نراها في الحياة الواقعية. كما يشير إلى انه كان اللون المفضّل عند نابليون، وفقط في العصر الرومانسيّ أصبح لون الطبيعة.
كما يشرح المؤلّف ارتباط هذا اللون بالإمبراطور الرومانيّ نيرون، وكيف أصبح لون الإسلام، ولماذا كان الفيلسوف الألمانيّ غوته يعتبره لون الطبقة المتوسّطة، وكيف أصبح الأخضر هذه الأيّام رمزا للقضايا البيئية ومهمّة إنقاذ الأرض.
كتاب "الأخضر" لميشيل باستورو نصّ جميل وخفيف ومثير لاهتمام أيّ إنسان مولع بالتاريخ والثقافة والفنّ والموضة والإعلام.

Credits
printmag.com