:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الثلاثاء، فبراير 28، 2017

اوكيف: كاهنة الصحراء


جورجيا اوكيف هي احد رموز الحداثة الكبار في الرسم الأمريكيّ في القرن العشرين. وما تزال إلى اليوم احد أكثر الفنّانين احتفاءً في العالم.
في عام 2014، أصبحت لوحتها أزهار الداتورا أغلى لوحة تباع في المزاد لرسّامة امرأة بعد أن حقّقت مبلغ خمسة وأربعين مليون دولار أمريكي.
كان من عادة اوكيف أن تخرج يوميّا عند الفجر لتمشي في رحاب الطبيعة. كانت مفتونة بالسماء الواسعة فوقها وترسم كلّ ما تقع عليها عيناها من أزهار وعظام وتلال.
الفجر يصبح وهجا لامعا تحت التقوّسات الزرقاء لألوانها المائيّة العجيبة. ولوحاتها، على الرغم من أنها صغيرة الحجم نسبيّا، إلا أن كلا منها يمسك بالأبدية.
في أواخر السبعينات، عندما كنت ادرس تاريخ الفنّ، قال لي معلّمي إنّني إذا كنتُ مصرّا على الكتابة عن رسّامة أنثى من القرن العشرين، فعليّ أن اختار بين جورجيا اوكيف وباربرا هيبوورث.
كانت هيبوورث قد توفّيت قبل ذلك بفترة قصيرة، وكنت مقتنعا أن عليّ أن أقابل شخص الرسّامة إذا أردت أن تكون لأطروحتي للدكتوراة أية أهميّة.
لذا كتبت إلى جورجيا اوكيف مرّتين. لكنها لم تردّ. وبعد أن استنفذت كافّة محاولاتي لتوسيط من يعرفونها في انجلترا، قرّرت أن أسافر بنفسي إلى ولاية نيومكسيكو الأمريكية حيث تقيم.
وعندما وصلت إلى هناك، لمست مدى أريحية الناس الذين منحوني كثيرا من وقتهم، رغم أن أيّا منهم لم يستطع أن يقدّمني إلى "الآنسة اوكيف" كما كانوا يسمّونها.
ولهذا طرت إلى آلبيوكيركي، وبعد وصولي إلى هناك استأجرت سيّارة.
في بريطانيا، يبدو الأفق دائما ضبابيّا وناعما، لكن في نيومكسيكو اكتشفت أن الخطّ الذي يفصل تلال الصحراء الحمراء عن السماء كان صافيا وشفّافا، تماما كما هو الحال في لوحات اوكيف.
تحدّثت إلى السكّان المحليّين في الحانات، وأخيرا اخبرني احدهم عن المكان الذي يمكن أن أجد فيه اوكيف، وهو بلدة صغيرة تُدعى ابيكيو.
وكان قد قيل لي من قبل أن من الصعب الالتقاء بالرسّامة بسبب الحماية المشدّدة التي يوفّرها لها مساعدها ورفيقها جوان هاميلتون. وعندما اقتربت من منزلها الواقع على طريق منحدر ويطلّ على منظر طبيعيّ، واجهني جوان وهو شابّ طويل وجميل الملامح.
قلت له: أنا طالب دكتوراة ومتخصّص في أعمال جورجيا اوكيف، وقد كتبتُ لها على أمل أن تمنحني مقابلة". لكن هاميلتون صدّني. فقلت له متوسّلا: لقد قطعت مسافة طويلة من انجلترا إلى هنا لكي أراها". لكنه تجاهل كلامي.
وقلت في نفسي: قد لا يكون هذا هو التكتيك الأفضل. فالأمريكيون يحبّون اوكيف لأنها "أمريكية جدّا" ولم تتلوّث بالفنّ الأوربّي.
في اليوم التالي، حاولت أن أعثر على مزرعة غوست رانش، حيث يقوم منزل اوكيف الصيفيّ. كان المنزل منعزلا ومقفلا. لكن من خلال فتحات الأبواب الخشبية، رأيت جزءا من الباحة الزهرية التي كانت الفنّانة ترسم فيها بعض لوحاتها أيّام الخمسينات.
كنت ما أزال امنّي النفس بمقابلة الرسّامة، لذا عدت إلى بيتها مرّة أخرى. وقد ردّ جوان على قرعي الباب بقوله إنها مريضة اليوم. عدت أدراجي وجلست على صندوق في الخارج وانشغلت بإزالة الغبار عن حذائي.
وأخيرا رأيت اوكيف فوق التلال وهي في طريق عودتها إلى البيت برفقة كلبيها.
انتظرت ساعة أخرى ثم قرعت الباب ثانية. وكنت قد أحضرت معي زهرة سوسن سوداء تعبيرا منّي عن إعجابي بلوحتها المشهورة.
لكن جوان لم ينتبه حتى إلى هذه المجاملة اللطيفة. غير انه تركني أمرّ إلى الداخل عبر قوس محفور في باب خشبيّ قديم.
وبينما كنت أتلمّس ورقتي التي دوّنت عليها قائمة الأسئلة، ُاخذت إلى غرفة بشبّاك واسع يطلّ على منظر طبيعيّ. وأمامه جلست اوكيف.
لم استطع رؤية وجهها جيّدا. فالضوء الساطع أمسك فقط بياقتها البيضاء وبـ "بروش" فضّي كانت ترتديه وبشعرها الأشيب الذي كان منتفشا بعد مشوار مشيها اليوميّ.
قدّمت لها نفسي وشرحت لها غايتي من القدوم وذكرت لها زهرة السوسن التي أحضرتها. ثم رأيت وميض دهشة يشعّ من عينيها. بعد ذلك تحدّثت عن إعجابي بأعمالها وسألت بضعة أسئلة ثم توقّفت كي أفسح لها المجال للكلام.
لكنها لم تقل شيئا أبدا. كانت تكتفي بالاستماع إليّ في صمت وتداعب بعض حبّات الحصى في يدها.
وأخيرا قادني جوان إلى طريق الخروج مكرّرا أن الآنسة لا تشعر أنها على ما يرام اليوم.
ثم قدت سيّارتي مغادرا وفي النفس غصّة وإحباط.
لكن في النهاية كان للرحلة نتيجة واحدة ايجابية، وهي أن أطروحتي الجامعية تم قبولها .. ونجحت.

Credits
theguardian.com