:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الجمعة، يناير 12، 2018

حمزاتوف: شاعر الشعب


  • الإنسان بحاجة إلى عامين ليتعلّم الكلام، وإلى ستّين عاما ليتعلّم الصمت".
    - رسول حمزاتوف

    عندما زار الشاعر رسول حمزاتوف مدينة هيروشيما اليابانية بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، اُعجب بالنصب التذكاريّ للسلام الذي يصوّر الفتاة اليابانية ساداكو ساساكي.
    وكانت تلك الفتاة قد أصيبت بسرطان الدم نتيجة التلوّث الإشعاعيّ الذي عمّ المدينة بعد إلقاء القنبلة الذرّية عليها. وحسب المعتقدات اليابانية، صنعت ساساكي ألف طائر غرنوق من الورق على أمل أن ينقذ ذلك حياتها. لكنها للأسف توفّيت في ما بعد وأصبحت رمزا لضحايا الحروب من الأبرياء.
    ذكرى الغرانيق الورقية التي كانت تحتفظ بها الفتاة أرّقت حمزاتوف لسنوات وألهمته كتابة قصيدته المشهورة "الغرانيق" والتي تحوّلت في ما بعد إلى واحدة من أشهر أغاني الحرب (الفيديو أسفل). وفي القصيدة، يتخيّل الشاعر أن قتلى الحروب لا يُدفنون تحت الأرض، وإنما يُرفعون إلى السماء ويتحوّلون إلى طيور بيضاء.
    ثم يراقب الشاعر أسراب الطيور وهي تحلّق في الفضاء ويُرهف السمع لأصواتها الآتية من بعيد، إلى أن تتلاشى أصداؤها في أعماق السماء. ويتمنّى عندما يموت أن يجد له مكانا بين تلك الطيور، فيحلّق معها إلى الأبد هاتفاً بأسماء أولئك الذين أحبّهم وتركهم وراءه على الأرض.
    لم يكن رسول حمزاتوف (1923-2003) شاعر داغستان فحسب، بل كان أيضا شاعرا لكلّ الشعوب المحبّة للسلام وللشعر والطبيعة والوطن واللغة والجمال.
    وقد قال ذات مرّة: إن كنت تحبّ بصدق المكان الذي أتيت منه، فسيتوفّر لك ما يكفي من القصص التي ستظلّ تحكيها طوال ما تبقى من عمرك".
    من القرى والجبال القصيّة لداغستان، كتب حمزاتوف قصائده وقصصه التي تشبه كلماتها الخبز الذي يُقدَّم للجياع. إيقاعات أشعاره تشبه قطرات المطر المتساقطة على صحراء شاسعة من الأرواح المحرومة. وعمق قصائده ونقاؤها أشبه ما يكون بمياه الينابيع الصافية التي تتشكّل من ذوبان الجليد فوق قمم جبال داغستان الشاهقة.
    وبعض تلك القصائد تُحوّل قارئها إلى زهرة حمراء نازفة، أو إلى نبتة برّية تنام على طرف صخرة في الجبال، أو إلى نجمة تومض من بعيد ذات ليلة شتوية باردة، أو إلى رياح تدمدم في ليلة طويلة، أو إلى رعد مدوٍّ يصرخ بوجه كافّة أشكال الاضطهاد والطغيان على هذا الكوكب.
    أتى رسول حمزاتوف إلى هذا العالم في قرية صغيرة في شمال شرق القوقاز تُدعى "تسادا". واسم القرية بلغة شعب الآفار يعني النار. وقد وهبت القرية الشاعر ناره الشعرية الخاصّة التي لم يكن بالإمكان ترويضها أو إطفاؤها طوال الثمانين عاما التي عاشها.
    فَهمَ حمزاتوف منذ سنّ مبكّرة طبيعة الوجود الإنسانيّ الهشّ الذي يمكن أن تسحقه الصخور القاسية للواقع. لكنه كان يراهن دائما على قدرة الروح الإنسانية على أن تطير عاليا وتحلّق بعيدا.
    وأظهر الشاعر منذ طفولته شغفا كبيرا بقصص شعب الآفار وأساطيره وتقاليده الشفهية، وبأغاني القرى وبكلّ شيء كان سكّان الجبال يقدّرونه ويقدّسونه منذ القدم. "إذا أطلقتَ رصاصة من مسدّسك على الماضي، أطلق عليك المستقبل رصاص مدافعه".

  • شخصية حمزاتوف المثقفة يلخّصها كأفضل ما يكون قول قديم يؤمن به ساكنو الجبال، ومفاده أن الإنسان لا يجب أن يحني رأسه إلا في حالتين: كي يشرب ماءً صافيا من ينبوع، أو يشمّ عبير زهرة برّية". وهذا التعبير العميق يذكّرنا بدور المثقّف في عالم يُعرض فيه كلّ شيء للبيع. "إذا انحنى الإنسان ولو مرّة واحدة، فستحلّ عليه اللعنة وستُسلب منه حرّيته إلى الأبد، وربّما لن يستطيع أن يقف على قدميه مرّة أخرى".
    وحمزاتوف يخبرنا انه التقط بذور الشعر الأولى من أغاني أبيه عندما كان طفلا في المهد. كان والده يعشق قراءة وكتابة الشعر، بالإضافة إلى عمله الشاقّ والطويل في الحقول. وقد قرّر الشاعر منذ صغره أن يمزج قصائده بقصص شعبه كي يثبت للعالم أن الشعر يسمو فوق اللغات والاختلافات بين البشر وفوق كلّ الحدود المصطنعة.
    في مقدّمة ديوانه الأشهر "داغستان بلدي" الذي تُرجم إلى لغات عديدة، يعامل حمزاتوف قارئه كضيف ويتمنّى ألا يغادر "البيت" إلا وقد أصبح صديقا دائما. ومنذ الصفحات الأولى، يخلق الشاعر نوعا من التناغم بين كتابه وحبّه الكبير لوطنه.
    ثم يشير إلى أن الأفكار والمشاعر تشبه الأشخاص الذين يحلّون ضيوفا على سكّان الجبال. فالأفكار تأتي بلا دعوة ولا إشعار مسبق، وليس هناك من طريقة لنختبئ أو نهرب منها عندما تصل.
    "في الجبال، ليس هناك ضيوف مهمّون وآخرون غير مهمّين. فأصغر الضيوف يساوي من حيث الأهميّة اكبر الأشخاص سنّا في البيت، لأنهم ببساطة ضيوف. ونحن نستقبل الضيوف عند عتبة الباب دون أن نسألهم من هم ومن أين أتوا، ثم نأخذهم إلى وسط البيت ونُجلِسهم على الأرائك بالقرب من المدفأة. إن الضيوف في الجبال يظهرون فجأة وبلا توقّع، لكنهم لا يفاجئوننا أبدا لأننا بانتظارهم دائما. إننا ننتظرهم كلّ يوم وكلّ ساعة وكلّ دقيقة".
    ثم يتحدّث الشاعر عن زيارته لبيت رابندرانات طاغور في كلكتّا بالهند، وكيف انه رأى في بيت الشاعر الهنديّ الكبير رسما لعصفور لا وجود له في الواقع، بل رسمه الشاعر من مخيّلته. ويقول: لو لم يكن طاغور قد رأى أنواعا مختلفة من الطيور، لمّا تسنّى له أن يرسم طائره الخاصّ. وحمزاتوف يشير هنا إلى أهميّة التفكير الأصيل في الإبداع. ولعلّ هذا هو ما دعاه لأن يصرّ على تسمية ديوانه بهذا الاسم بعد أن رأى طائر طاغور.
    ثم يتحدّث عن داغستان التي يراها ويتخيّلها ويدركها كما لا يراها ولا يدركها أيّ شخص آخر. وهو يذكّرنا بأن أوطاننا ولغاتنا وجبالنا وكلّ شيء نحبّه يحتاج عمرا بأكمله كي يُعرف وحياة بأسرها كي يُنسى".
    ثم يشير الشاعر إلى أن كلّ شيء حولنا يمكن أن يكون قطعة من الذهب أو الفضّة. لكن الذهب والفضّة لا يعنيان شيئا في ذاتهما. وما يهمّ هو الصائغ الماهر والقادر على أن يحوّلهما إلى أشياء ملموسة وجميلة. وهذه هي بالضبط الكيفية التي نحوّل بها القصص التي نسمعها ونراها ونعيشها إلى كتابات ذات معنى. وفي نفس الوقت يقتبس الشاعر عبارة رآها ذات يوم محفورة على آنيّة قديمة تقول: أجمل القصائد ما كُتبت بكلمات بسيطة".
    ثم ينصح حمزاتوف الكتّاب الجدد بألا ينظروا إلى أنفسهم "كسَحَرة" قادرين على تغيير العالم، بل أن يتصرّفوا "كفلاحين" يضعون بذورهم في الأرض ثم ينتظرون أن تثمر حياة جديدة. "الممتطي جواد غيره سينزل عنه طال الزمن أم قصُر وسيسلّمه لصاحبه. فلا تُسرِجوا أفكار الآخرين، بل ابتكروا لأنفسكم أفكارا خاصّة".


    ويتذكّر قول والده ذات مرّة وهو يعلّق على إحدى قصائده المبكّرة: إذا فتّشت بين الرماد فقد تعثر على الأقلّ على كهرمانة متّقدة". ويضيف واصفا والده: لقد رأيت وجوها كثيرة كوجه والدي، لكنّي لم أرَ أبدا في أيّ منها عبقريّة تشبه عبقريّته".
    ثم يشير إلى أسطورة آفارية قديمة تقول إن الشعراء خُلقوا قبل أن يُخلق هذا العالم بآلاف السنين. وبدون الشعراء ما كانت هذه الأرض لتبدو بمثل هذا البهاء.
    وفي مكان آخر من الديوان، يتحدّث حمزاتوف عن حبّه للغته الأمّ وارتباطه الشديد بها. وشغفه الكبير بلغته هو ما يدفعه لاحترام جميع اللغات في العالم. والشاعر الحقيقيّ بنظره هو الذي يعرف كيف يخاطب جميع الناس على اختلاف ألسنتهم.
    كما انه يرى أن مصائر وأحلام وآلام كافّة الشعوب يمكن أن تجتمع في قلب شاعر. لكن هذا رهن بتدمير الحدود بين ذات الشاعر والآخرين حتى يستطيع الكتابة لـ "لا احد" وفي نفس الوقت لجميع الناس.
    ويُفرد حمزاتوف فصلا من الديوان للحديث عن الأمّهات، فيشرح كيف أن الأغاني الأولى لأمّهاتنا هي التي تشكّلنا وتقدّم لنا من الحبّ والإلهام ما يكفي لنواجه قسوة هذا الوجود. وبنظره فإن الجبناء والخونة هم أولئك الذين لم تغنِّ لهم أمّهاتهم وهم صغار.
    "إن أغنية الأمّ هي مبتدأ جميع الأغاني. إنها الابتسامة الأولى والدمعة الأخيرة". ثم يشير إلى أن هناك أغاني تنشدها الأمّ عندما يولد لها طفل، وأغاني أخرى عندما يموت طفل، بالإضافة إلى نوع ثالث من الأغاني التي تستمرّ الأمّهات في أدائها بعد أن يموت أطفالهنّ بزمن طويل.
    والشعر بالنسبة لحمزاتوف ليس هو الكلمات ولا الموسيقى ولا الأحاسيس الإنسانية التي تستقبلها. الشعر بنظره هو امتزاج بين اللغة والموسيقى والحواسّ.
    وبرأيه أن قدرة الحكايات والأغاني أقوى من السيوف والأسلحة. "الأغاني يمكن أن تغيّر العالم وتنقذ حيوات كثيرة". ثم يذكّرنا بالقول العربيّ المشهور: احذر من الأشخاص الذين لا يحبّون الموسيقى والذين لا يعرفون كيف يغنّون". ثم يتساءل: أتظنّ أن الألحان من صنع الأوتار؟ كلا، إنها رجع الكلمات التي وُلدت في القلب".
    ثم يسرد حكاية عن ساكني الجبال الذين سُئلوا يوما عن السبب في أنهم شيّدوا بيوتهم في أماكن نائية ومنعزلة ووعرة، ما يجعل الوصول إليهم مستحيلا بسبب أخطار الطريق. فأجابوا: الأصدقاء الطيّبون سيصلون إلينا دون أن يكترثوا بالأخطار، أما الأشرار فلسنا بحاجة لهم على أيّ حال".
    كان حمزاتوف حريصا على تدوين النقوش التي كان يراها محفورة على الأبواب القديمة وشواهد القبور وصخور الجبال في قرى وبلدات داغستان. ومن أجمل تلك العبارات المضمّنة في الديوان اثنتان تتحدّثان عن الضيوف.
    تقول الأولى: تعالوا يا رفاق الجبال واستريحوا هنا بأمان. إننا بخير، وإن لم نكن كذلك فإن مجيئكم سيشفينا". وتقول الثانية: أيّها العابر من هنا، لا تقرع الباب ولا تزعج الساكنين. إن كنت تحمل خيرا فادخل، وإن كنت تحمل غير ذلك فاذهب بسلام".
    عندما تنتهي من قراءة ديوان رسول حمزاتوف، ستحسّ بأن الشاعر أنجز وعده الذي قطعه على نفسه في مستهلّ الكتاب، وأنك دخلت كتابه كضيف وغادرته وقد أصبح صديقا دائما لك. وهو يختم ديوانه بهذه العبارة الحزينة: لقد انتهينا، وحان وقت الرحيل. وكما يقولون: سنلتقي مرّة ثانية إن شاء الله".

    Credits
    gamzatov.ru
    counterpunch.org