:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الأربعاء، سبتمبر 11، 2013

روح الإنسان

هل ما نراه في هذه اللوحة بورتريه شخصيّ؟ دراسة سيكولوجيّة؟ تصوير لحالة ذهنية عن الوحدة والخواء؟ أم محاولة من الرسّام للامساك بجمال الطبيعة؟
لو كان الرسّام يريد حقّا تصوير جمال الطبيعة لما حجب جانبا من المنظر بتضمين اللوحة رجلا يقف في منتصفها. الطبيعة في هذا المشهد صعبة ووعرة: منحدرات عميقة وخطرة، ضباب كثيف وسماء بيضاء باردة في الأفق. وهناك أيضا انطباع عن طقس عاصف جدّا. أي أننا أمام مكان غير مريح بالمرّة، بل وخطير جدّا على سلامة الإنسان. وبالتأكيد لا احد يرغب بالمجيء إلى هنا. مثل هذا المكان المخيف والمملوء بالخطر يمكن للإنسان بالكاد أن يبقى فيه للحظات على أقصى تقدير. لكنّ الرجل يبدو صامدا كما لو انه يستطيع الوقوف حيث هو والتأمّل في هذا المكان إلى الأبد.
لأن صور كاسبار ديفيد فريدريش تركّز على الطبيعة أكثر من البشر، فإن لها ملمحا متساميا وصالحا لكلّ زمان ومكان. عالما صوره، الداخليّ والخارجيّ، يبدوان متوحّدين. وهذا كان إنجازا عظيما للعصر الرومانسي الذي كان فريدريش، بصوره التأمّلية والمثيرة للذكريات، أحد أعلامه الكبار.
والغريب أن هذا الفنّان شقّ طريقه في الرسم بقوّة رغم ما يقال من انه لم يكن مولعا كثيرا أو موهوبا في رسم البشر. وقد وجد حلا بسيطا لهذه المشكلة بأن صار يرسمهم من الخلف أو جانبيّا.
لكن كان هناك جانب أكثر عمقا في فنّه. فالطبيعة والكون كانا أهمّ موضوعين بالنسبة له. لذا ركّز على أن يقيم حوارا مع المتلقّي من خلال مناظر الطبيعة التي كان يرسمها.
اللوحة فوق هي أشهر أعمال فريدريش على الإطلاق واسمها مسافر "أو متجوّل" فوق بحر الضباب. وهي عند بعض مؤرّخي الفنّ المثال الأشهر والأكثر وضوحا عن رومانسية القرن التاسع عشر. وفيها يقف رجل على طبيعة صخرية ويطلّ على منظر من الغيوم والضباب الكثيف.
هذا المنظر، وغيره من مناظر فريدريش الطبيعية والمعروفة، تمثّل ذروة الرسم الألماني خلال الحقبة الرومانسية. والكثيرون يرون في هذه اللوحة صورة مجازية عن التوق الوجودي واللامبالاة أو عدم اليقين، وأحيانا عن حالات التشوّش والفوضى. وقد اختيرت غلافا لأحد كتب نيتشه ولكتب ومجلات ودواوين شعر لا حصر لها.
كما لم تغب اللوحة عن صنّاع الأفلام السينمائية التي تتحدّث عن الكوارث البيئية وعن الحروب بين الكواكب أو عن المستقبل المجهول الذي ينتظر البشر. بإمكانك، مثلا، أن تحصي ما لا يقلّ عن أربعة من أفلام الخيال العلمي صُمّمت ملصقاتها بوحي من هذه اللوحة.
كانت الطبيعة الألمانية دائما مصدر إلهام كبير لـ فريدريش. وكان يحرّك مشاعره الجمال الذي كان يجده في وطنه. كما كان يستهويه تصوير الجبال والأشجار والضباب الكثيف فوق سطح البحر.
وكان من عادته أن يقصد منطقة الجبال الممتدّة على طول الحدود بين ولايتي بوهيميا وساكسونيا في جنوب شرقي ألمانيا وجمهورية التشيك، للتأمّل والرسم. وقد رسم العديد من الاسكتشات التمهيدية لهذه اللوحة في عين هذا المكان. ثم عاد إلى البيت بكومة كبيرة من هذه الرسومات، وبدأ رسم اللوحة الأصلية في محترفه.
وعلى الرغم من أن اللوحة مركّبة من عدّة مناظر طبيعية مختلفة من تلك المنطقة، إلا أن المنظر كلّه يبدو متناسقا ومقنعا. وبعض قمم الجبال التي تظهر غارقة في الضباب يمكن تحديد أماكنها اليوم على الطبيعة. لكنّها في حقيقة الأمر تقع في أماكن مختلفة من سلسلة الجبال تلك. وبالتالي فإن المنظر الرائع الذي تراه في هذه اللوحة لا وجود له في الواقع.
البشر هم جزء من الطبيعة. وهم بنفس الوقت منفصلون عنها. ومن خلال جلبهم إلى الصور، فإن فريدريش يخلق مستوى آخر من الوعي. والتائه المجهول في هذه اللوحة يجعل الصورة تتكلّم بينما يقف في وسط المشهد تماما مديرا ظهره للناظر.
لاحظ التباين الحادّ بين مقدّمة الصورة وخلفيّتها. هنا رجل، أو بالأصحّ صورة ظلّية داكنة لرجل، يقف وحيدا أمام طبيعة ضبابية. يمكنك الإحساس بوجود الأرض إلى أسفل رغم انك لا تراها بوضوح.
اللوحة بأكملها هي عن هذا الرجل. وأنت مدعوّ لتحديد من يكون. طبعا يمكن أن يكون أيّ شخص، مع أننا نعرف من لوحات أخرى أن فريدريش له نفس هيئة هذا الرجل. لكنّه هنا يحصر نفسه ورؤيته إلى الداخل، في حين أن الملابس الداكنة تدعم بقاءه مجهولا.
انه يقف في تأمّل، مفتونا بضباب البحر ومفكّرا في المستقبل الغامض، كما لو أننا إزاء تجربة دينية وروحية مثل تلك التي تحدّث عنها "إيمانويل كانت" في فلسفته المستنيرة. وفريدريش يضفي غموضا على الشخص برسمه من الخلف. والمتلقّي غير متأكّد فيمَ يفكّر الرجل وما هي طبيعة استجابته للطبيعة التي ينظر إليها. وبفصل الشخص عن الناظر، فإن الأخير يركّز أكثر على جمال البيئة المحيطة بدلا من التفكير في دور الرجل في الطبيعة.


هذه اللوحة تحتفظ بحضور قويّ جدّا من خلال حجمها الكبير. ولأنها رُسمت بمثل هذه العناية الكبيرة، فإنها تفتح نافذة على عالم آخر. عندما تتأمّلها قليلا، ستشعر بأنك تسقط فيها أو ترتفع إليها. وبإمكانك أيضا أن تترك العنان لعينيك لتتجوّلا فيها وأن تتنفس الهواء وتشعر بوخز الرياح الباردة التي بداخلها.
السماء تبدو بلا نهاية، على الرغم من أنها محجوبة بغيوم متناثرة هنا وهناك. الفنّان رسم غيوما بطبقات متعدّدة باستخدام طلاء غير شفّاف. كما استخدم طبقات شفّافة من الورنيش ليحصل على هذه الإنارة العظيمة والضوء الطبيعي.
عندما تقف أمام اللوحة الأصلية، ستشعر بتغيّرات اللون المثير للدهشة وبلمعان الغيوم والسماء الناتج عن مزج العديد من الأصباغ كالأزرق والأبيض ودرجات الرمادي والزهريّ والبنفسجيّ وحتى الأصفر.
من الواضح أن فريدريش كان يفكّر في تفاصيل صوره لفترات طويلة. أحيانا كانت عملية الخلق تستمرّ عدّة سنوات، ولهذا السبب لم تكن حياته ميسورة من الناحية المالية.
التوليف في اللوحة يبدو بسيطا. لكن هناك منطقا رياضيا وراءه. الصخرة التي في المقدّمة تشكّل مثلّثا يقف المسافر على قمّته، وهذا هو السبب في أن الشخص يقع في مركز الاهتمام. وبسبب الصورة الظلّية لمعطفه الذي يبدو داكنا مثل الأرض التي يقف عليها، فإن الرجل يصبح، من الناحية البصرية، امتدادا للأرض.
البعض فسّر هذه الصخرة كرمز للإيمان بالله أو بقوّة علوية متسامية. وهو معنى معقول ووارد. وأنت تتملّى في هذا المنظر، يمكنك أن تدرك عظمة وبهاء الطبيعة والخلق كما تتجلّى في روح إنسان. عقل الرجل ومشاعره ربّما تبلغ عنان السماء التي فوقه، ومع ذلك هو ما يزال مرتبطا بالصخرة حيث يقف. وبهذه الطريقة يصبح رمزا للإنسان في الكون. انه مشدود إلى الأرض ومنفصل عن نفسه. وهو لا يستطيع رؤية المظهر الكامل والحقيقيّ للعالم المحيط لأنه مغطّى بالضباب. كما انه يواجه المحن والأخطار، مثل المكان العاصف والشديد الانحدار الذي يقف في وسطه.
ولكن عندما يكون قلبه عامرا بالسلام والطمأنينة، فإنه يصبح قادرا على الاتصال بالخالق. وإذا كان هذا الرجل ينظر ويراقب بهدوء واهتمام، فإنه يستشعر وجود المقدّس في كلّ شيء يراه من حوله. وهذا هو ما كان يفعله كاسبار ديفيد فريدريش عندما يراقب عن كثب العالم الخارجيّ ويصوّر تفاصيله بدقّة.
البعض يرى أن المسافر في الصورة هو فريدريش نفسه. الرجل الذي يقف متأمّلا هذه الصخور الضبابية لديه نفس شعر فريدريش الأحمر. لكنّ هناك نظرية أخرى تقول إن الرجل هو حارس غابات من هذه المنطقة يُدعى فريدريش فون غوتهارد. وهو هنا يرتدي بزّة خضراء من تلك التي يرتديها عادة الحرّاس المتطوّعون في الغابات. ويُرجّح أن يكون هذا الرجل قد قُتل في حادث عام 1813م. وعليه قد تكون اللوحة بمثابة تحيّة له أو إحياء لذكراه.
في هذا التوليف، يستخدم فريدريش ألوانا أكثر إشراقا من المعتاد. وهو يرسم السماء بمزيج من الأزرق والورديّ، بينما تتردّد أصداء هذين اللونين أيضا في الجبل والصخور التي تتراءى عن بعد. كما انه يرسم الشخص في معطف أخضر داكن، وهو زيّ ألمانيّ بامتياز.
الضوء في اللوحة يبدو أنه آت من تحت الصخور ليضيء الضباب بطريقة أو بأخرى. والصخرة التي يقف عليها المسافر تحتفظ بصورتها الظلّية، مع أن تفاصيلها الأخرى، خاصّة عند القدمين، تبدو ملاحظة ومرئيّة.
ثمّة رأي يقول إن الرسّام تزوّج حوالي الوقت الذي رسم فيه اللوحة، وهو عامل ربّما ولّد في نفسه تقديرا متجدّدا للحياة البشرية وللعلاقات الإنسانية.
ومثل غالبية أعمال فريدريش، فإن اللوحة لم تنل التقدير الذي تستحقّه في زمانه. لكن بعد موته، اكتسبت اهتماما كبيرا. والسبب هو انه كثيرا ما أسيئ فهم الرسّام في عصره. كان فريدريش يناضل لكي يفهم النقّاد والجمهور فنّه. لكنه استمرّ يرسم وفقا لقناعاته الفنّية الخاصّة وليس لكي يحصل على استحسان أو ثناء من احد. وقد نال قدرا كبيرا من النجاح في أخريات حياته، بل لقد وجد زبائن جددا من أفراد العائلة الملكية في روسيا.
وعلى الرغم من أن العديد من النقّاد ما زالوا غير قادرين على فهم الاستعارات الرمزية التي كان فريدريش يودعها مناظره الطبيعية، إلا أن أعماله اليوم تحظى باحترام كبير. وخلافا لمعظم الفنّانين، لم يجد فريدريش الكثير من الإلهام في أعمال الفنّانين الكبار الذين سبقوه، واهتمّ أكثر بما علّمه إيّاه أساتذته في مراحل تعليمه النظامي.
وهذا هو السبب في أن فريدريش أصبح يتمتّع بأسلوب فريد من نوعه. صار بمقدوره أن يحوّل المناظر الطبيعية من مجرّد غابات إلى أرض للعجائب، حيث يرمز كلّ فرع من شجرة إلى شيء أكبر وأكثر عمقا. الأشجار لم تعد أشجارا فقط، وإنّما مخلوقات خشبية جميلة تمثّل الإيمان الذي لا يتزعزع بالله. وأشعّة الشمس لا تلقي ضوءها على الأرض فحسب، وإنّما تُظهر نور الخالق وهو يضيء على الخليقة.
كانت الرومانسية تتعامل مع مواضيع محدّدة من قبيل تمجيد الإنسان لنفسه ودوره في الطبيعة والألوهية الموجودة في الطبيعة وكذلك العاطفة. وهذه السمات كانت تناسب كثيرا أفكار فريدريش المثالية.
لكنّ المؤسف أن استقبال الجمهور لأعماله أصبح فاترا عندما تقدّمت به السنّ. حتى رعاته فقدوا الاهتمام بعمله في الوقت الذي كان يجري فيه استبدال الرومانسية بأفكار جديدة وأكثر حداثة.
وعندما توفّي لم يكن هناك احد يطلب أو يهتمّ بلوحاته. كان النقّاد يعتقدون أن رسوماته شخصيّة أكثر ممّا ينبغي، ومن هنا صعوبة فهمها. غير أنهم كانوا يتجاهلون حقيقة مهمّة، وهي أن هذا العامل بالذات هو ما يجعل من فريدريش فنّانا أصيلا ومتفرّدا.
ومع ذلك، لم تغب المعاني المجازية التي كان فريدريش يضمّنها لوحاته عن الفنّانين الرمزيين والسورياليين الذين أتوا في ما بعد، وأصبح هؤلاء يشيرون إليه كمصدر إلهام مهمّ لأعمالهم.

السبت، سبتمبر 07، 2013

الثديان: تاريخ

على مدى قرون، تحدّث العلماء والكتّاب من الرجال، من سيغموند فرويد إلى ديف باري وروبيرت بول سميث وآخرين، عن ثديي الأنثى فامتدحوهما وقدّسوهما كموضع للحنان وللإثارة الجنسية.
الكاتبة والفيلسوفة النسوية ايريس يونغ أشارت ذات مرّة إلى هذه الثنائية في وظيفة الثديين عندما كتبت تقول: الثديان فضيحة، لأنهما يحطّمان الحدود بين الأمومة والجنسانية''.
والحقيقة أن لا شيء يذكّرنا بالثديين وروعتهما وتألّقهما التطوّري وتأثيرهما على تفكيرنا الجمعي أفضل من التحديق في الجبال.
فلورانس وليامز، وهي كاتبة علمية جسورة تعيش بالقرب من جبال روكي في كولورادو، صرفت من وقتها وجهدها الشيء الكثير لتخرج لنا بهذا الكتاب المثير للاهتمام بعنوان "الثديان: تاريخ طبيعيّ وغير طبيعيّ".
في بداية الكتاب، تؤكّد المؤلّفة أن ثديي المرأة تطوّرا في الأساس استجابة لمتطلّبات بقاء الإنسان على قيد الحياة. أما هاجس الرجال بهما فلم ينشأ إلا في مرحلة متأخّرة. وتشير إلى أن أجيالا عديدة من الباحثين الذكور ركّزوا دراساتهم العلمية على افتراض خاطئ مؤدّاه أن وظيفة الثديين في المقام الأوّل هي زيادة الجاذبية الجنسية للمرأة. لكن في ما بعد ظهرت دراسات أخرى تعترف أن الوظيفة المركزية والأكثر أهميّة للثديين هي الرضاعة.
وتورد الكاتبة قصّة عن هنري دي موندفيل، الجرّاح الفرنسي الشهير، الذي سُئل مرّة عن السبب في أن موضع ثديي المرأة هو صدرها بخلاف ما عليه الحال في المخلوقات والحيوانات الأخرى. وقد أورد دي موندفيل سببين رئيسيين: الأوّل لأن الصدر مصدر للنبل والعفاف، وبالتالي يمكن إظهار الثديين هناك بشكل لائق. والثاني لأنهما يستمدّان الدفء من اقرب عضو منهما، أي القلب، ثم يبثّان ذلك الدفء ثانية في جسم الرضيع.
فكرة هذا الكتاب ظهرت عندما شعرت فلورانس وليامز بالانزعاج بعد أن قرأت مقالا يتحدّث فيه كاتبه عن السموم والموادّ الكيماوية التي وُجدت في حليب الثدي. ولأنها ترضع طفلا فقد قرّرت أن تُخضع ثدييها لفحص طبّي. وحدثت المفاجأة عندما اكتشفت أن ثدييها محشوّان بالسموم التي كانت ترضعها مباشرة لطفلها، مثل مثبّطات اللهب ومخفّفات الدهان والسوائل المنظّفة والموادّ الحافظة ومزيلات العرق والموادّ المضافة إلى مستحضرات التجميل ومشتقّات البنزين ووقود الصواريخ والسموم الحشرية، بالإضافة إلى موادّ أخرى مماثلة للقنّب الذي يدخل في تركيب الماريوانا.
وتعلّق الكاتبة على ما حدث باقتباس عبارة منسوبة لأحد الممثّلين الفكاهيين الذي قال ذات مرّة: إن الوظيفة الأساسيّة للثديين هي جعل الرجال أغبياء". وتصف كيف أن تلك الملاحظة التي قيلت أصلا على سبيل الدعابة تبدو حقيقية من الناحية العلمية وعلى ضوء الأبحاث التي أجريت على الثديين. فالسموم والمخلّفات القاتلة في حليب الثدي مرتبطة، ليس فقط بنقص المناعة والمشاكل السلوكية والسرطان، وإنّما أيضا بانخفاض معدّلات الذكاء.
وتؤكّد وليامز انه على الرغم من دور الثديين المركزي في بقاء الجنس البشري وحقيقة أنهما يتعلّقان بنصف سكّان العالم البالغين، إلا أننا لا نعرف في الواقع سوى القليل جدّا عن البيولوجيا الأساسية لهما.
التجربة الشخصية للمؤلّفة دفعتها إلى تتبّع تاريخ الثديين ودورة حياتهما، من سنّ البلوغ إلى مرحلة الحمل والرضاعة الطبيعية ثمّ انقطاع الطمث أو ما يُسمّى بسنّ اليأس، في محاولة للإجابة على بعض الأسئلة مثل: من أين جاء الثديان، وإلامَ انتهى بهما المطاف، وما الذي يمكننا فعله لإنقاذهما.
تقول وليامز في معرض حديثها عن تشريح الثدي وكيف انه يربطنا بأطفالنا وماضينا ومحيطنا: البشر هم تقريبا الثدييات الوحيدة التي لديها أعضاء متدليّة ومكوّرة تُسمّى الثديين. ومعظم الثدييات ليس لديها، أو ليست بحاجة إلى ثديين لإرضاع صغارها.
وتضيف: الثدي البشريّ فريد من نوعه في الطبيعة لحجمه وشكله. وقد تطوّر في مرحلة مبكّرة من تطوّر فصيلتنا. ومن اجل فهم أعمق لتشريح الثديين، درست المؤلّفة التاريخ التطورّي للثدييات وذهبت إلى أماكن شتّى لمقابلة المزيد من خبراء الثدي. وهي تصف الثديين بأنهما بيئة مجهولة إلى حدّ كبير تؤوي أنظمة معقّدة وقابلة للتكيّف، مع قدرة فريدة على الاستجابة والتفاعل مع العالم المحيط. لكن هذه القدرة تتضاءل الآن مع كلّ هذه الاعتداءات على البيئة والتي يكمن فيها دمار الإنسان.
في احد فصول الكتاب، تذكر المؤلّفة أن الدراسات التطوّرية والأنثروبولوجية الأكثر حداثة تؤكّد وبشكل مقنع أن الثديين أخذا شكلهما الخارجي ومكانهما في الجسم كي يكون لدينا أطفال اصغر بأدمغة اكبر، ولتسهيل مهمّة الإرضاع في مختلف الأوضاع ومساعدة الرضّع في تطوير الحركات وبناء الفكّين وتعزيز مهارات الفم الحركية والضرورية للكلام.
ووفقا للأبحاث التي تستشهد بها الكاتبة، فإن الثديين الكبيرين ليسا بأفضل من الصغيرين في صنع الحليب ولا ينتجان حليبا أكثر. وبصرف النظر عن حجم الثديين، فإن الأمّ الجديدة تنتج في المتوسط ستّ عشرة أوقية من الحليب يوميّا من كلّ ثدي.
وفي فصل آخر تشير وليامز إلى أن الثديين مصنوعان من أنسجة دهنية تمتصّ الملوّثات مثل زوج من الإسفنج الليّن. كما أنهما العضوان الأكثر حساسية للموادّ الكيميائية، خاصّة تلك التي تؤثّر سلبا على الغدد، والموجودة في كلّ مكان تقريبا، في الهواء الذي نتنفّسه وفي الماء الذي نشربه وفي السيّارات التي نقودها. ونتيجة لذلك، أصبح سرطان الثدي هو السرطان القاتل رقم واحد للنساء في جميع أنحاء العالم. كما أصبح على نحو متزايد مشكلة للرجال أيضا. وقد تضاعفت حالات الإصابة بسرطان الثدي في العالم منذ عام 1940، وهي مستمرّة في الارتفاع.
وبسبب عوامل مختلفة من بينها السمنة والملوّثات الصناعية، فإن الثديين يصبحان أكبر حجما، وفي كثير من الأحيان يمكن أن يصلا إلى درجة لا تُحتمل من البشاعة.
بالمناسبة، هذا الكتاب لا يهمّ النساء فقط. الرجال أيضا مدعوّون لقراءته، ليس لأنه سيجعلهم أقلّ ميلا لمشاهدة الأعضاء الغريبة والمحسّنة صناعيا لنجمات الأفلام المثيرة، ولكن بسبب الأخطار التي تفصّلها وليامز والتي لا تقتصر على النساء بل تشمل الرجال أيضا. تسرد، مثلا، قصّة رجل شخّص الأطبّاء حالته وتوصّلوا إلى انه مصاب بسرطان الثدي. وقد واجه الرجل الخبر الصادم بقوله: ليس لديّ ثديان، فكيف يمكن أن أصاب بورم؟! إنني أعمل دائما وآكل جيّدا وأمارس الرياضة ولم أدخّن يوما كما لم أتعاط أيّة مخدّرات". لكن الأطباّء عزوا سبب الورم الخبيث إلى تسرّب نفطي من خزّان وقود امتزج بالمياه الجوفية وجلب معه ثلاثي كلور الايثيلين ومذيبات الشحوم وغيرها من المواد الكيميائية الخطرة.
وليامز تتتبّع أيضا تاريخ حبوب منع الحمل والعلاج الهرموني على امتداد أكثر من نصف قرن وتخلص إلى أن الهرمونات التي نمتصّها طوال دورة حياتنا هي الجاني المرجّح والسبب الأوّل في الارتفاع الكبير في نسبة الإصابة بسرطانات الثدي.
ثم تتحدّث عن ظاهرة إقبال النساء على عمليات تكبير الثديين، وهي جراحة ذات تاريخ قبيح وخطير، لأن دافعها الأوّل كان وما يزال الجشع. وطوال القرن الماضي، أدخل الجرّاحون إلى ثدي المرأة كلّ شيء، من البارافين إلى رقائق الخشب، وذلك لجعلهما اكبر. لكن النتائج كانت في الغالب إمّا مميتة أو مشوّهة.
وفي أواخر الخمسينات حدثت أوّل زراعة لثدي. وفي العمليات المبكّرة استُخدم الإسفنج والبولي فينيل والبولي إيثيلين. ثم وُظّف السيليكون الذي كان يُستخدم في الأساس لعزل أجزاء الطائرات وتليين الآلات. ثم استُخدمت لحشو الثديين موادّ أخرى كالدهانات والموادّ اللاصقة والأنابيب الطبّية. ومع بداية الستّينات، تعزّزت شعبية زراعة ثدي السيليكون من قبل جرّاحي التجميل. وعلى الرغم من أن السيليكون يوصف عادة بأنه المادّة الأكثر أمانا، إلا أن استخدامه ما يزال يؤدّي إلى مشاكل صحّية مثل انكماش وضمور الثدي، مع ما يستتبع ذلك من دعاوى ومنازعات قضائية وجدل طبّي كبير.
وتقول المؤلّفة أن زراعة الثديين تتضمّن موادّ مثل كرات الزجاج والعاج ورقائق الخشب وزيت الفول السوداني والعسل وحليب الماعز وغضاريف الثور. وتضيف إن ذهاب المرأة إلى أقصى حدود الخطر من اجل الجمال ليس بالأمر الجديد. فلآلاف السنين، تُشوّه النساء الصينيات أنفسهنّ وبناتهنّ كي يكتسبن أقداما صغيرة ومشوّهة، في حين تختنق النساء الغربيات بارتدائهنّ الكورسيهات التي تتسبّب أحيانا في ثقب أعضائهن الداخلية. كما أن النساء يلطّخن وجوههنّ بالرصاص والزرنيخ ويمزّقن شعورهنّ بالشمع الساخن، وما زلن يفعلن ذلك".
حديث المؤلّفة عن زراعة الثدي قد يتركك تتساءل في استغراب: ترى هل يمكن أن يُخضع الرجال أنفسهم لحقن صدورهم برقائق الخشب وبالكرات الزجاجية أو غضروف الثور وذلك لأسباب تجميلية أو لأيّة أسباب أخرى؟!
هذا الكتاب لن تندم على قراءته أبدا. فهو يجمع إلى جانب المعلومة الجادّة.. الحكمة والطرافة. هل تعلم، مثلا، أن أكثر جراحات التجميل رواجا اليوم هي عمليات تكبير الثديين؟! وأن حليب الثدي يباع عبر الإنترنت بسعر يفوق سعر النفط بمائتين وستّين ضعفا؟!
الثديان - تكتب وليامز في نهاية الكتاب - يحتاجان عالما أكثر أمانا وأكثر اهتماما بمواطن الضعف فيهما. كما أنهما بحاجة إلى من يستمع إليهما جيّدا وليس فقط لمن يحدّق فيهما باهتمام.

Credits
textpublishing.com.au
wsj.com

الأحد، سبتمبر 01، 2013

الرجل الذي ابتكر التاريخ

اعتاد المؤرّخون على أن يتعاملوا مع هيرودوت بشيء من التعالي، لأنه كان ميّالا لأن يسلّي قرّاءه بحكايات عن بشر لهم رؤوس كالكلاب وعن نمل يحفر بحثا عن الذهب وعن ثعابين تطير في الهواء. شيشرون، المؤرّخ الروماني، أطلق عليه لقب "أبو التاريخ"، لكن بلوتارك وصفه في وقت لاحق بـ "أبو الأكاذيب".
في هذا الكتاب بعنوان "طريق هيرودوت: رحلات مع الرجل الذي ابتكر التاريخ"، يتتبّع الكاتب والرحّالة البريطاني جستين ماروتزي خطى هيرودوت عبر الشرق الأوسط والبحر المتوسّط، ويدرس ملاحظاته التي كتبها قبل ألفين وخمسمائة عام عن الثقافات والأماكن التي زارها.
قبل أكثر من ألفي عام، كانت المدن اليونانية تتناثر على سواحل تخوم آسيا. ولم يكن اختيار أيّ من تلك المدن كنقطة انطلاق أمرا صعبا بالنسبة لرجل مثل هيرودوت كان يعشق السفر والترحال. كانت مصر تبعد أقلّ من أربعمائة ميل إلى الجنوب. وكانت جزر بحر إيجه ومدنها تقع على بعد أمتار من عتبة منزله. وعبر الماء، كانت أثينا العظيمة تتلألأ مثل منارة. وإلى الشرق، يقع مركز الإمبراطورية الفارسية وبابل وما وراءها.
ومثل مستكشف من القرن التاسع عشر ينفض الغبار الأفريقيّ عن حذائه بينما يحاضر في قاعات الجمعية الجغرافية الملكية عن قبيلة غامضة، فإن هيرودوت يأخذنا إلى العالم الغامض لليبيين والفرس والمصريين والإثيوبيين والبابليين والهنود. وهو يتساءل: من هم هؤلاء الناس، ومن أين جاءوا، وما هي عاداتهم وبماذا يختلفون عنّا من حيث أحوالهم السياسية والاجتماعية والمعمارية والدينية والتجارية، وماذا يمكننا أن نتعلّم منهم؟
يقول ماروتزي في مقدّمة الكتاب: قد يكون هيرودوت عاش قبل أربعة وعشرين قرنا، لكنه ينتمي إلى عالمنا المعاصر، عالم القرن الحادي والعشرين. انه ليس أبا للتاريخ فحسب، بل كان أيضا أوّل كاتب رحلات في العالم، وكان عالم جغرافيا وعالم أنثروبولوجيا ومستكشفا وفيلسوفا وأخلاقيا ومحقّقا صحفيا دءوبا وداعية متنوّرا لتعدّد الثقافات حتى قبل أن توجد الكلمة. وبالإضافة إلى ذلك، كان هيرودوت حكواتيا رائعا ورحّالة لا يعرف الكلل ومراقبا بارعا لأحوال البشر".
ماروتزي نفسه رحّالة مخضرم وصحفيّ مقدام وعابر للحدود الثقافية. وهو يعامل بطله بكثير من الإنصاف في هذا الكتاب المسلّي والمثير للفكر.
وهو يرى أن هيرودوت أكثر انتماءً إلى عصرنا من كثير من الكتّاب. فقد كان يكتب نثرا سهلا ورائعا، كما كان يحبّ السرد الجيّد الذي تتخلّله تعليقات جانبية محبّبة وطريفة. في كتابه "التواريخ" قصص مسهبة عن رجال برؤوس كلاب وثعابين تطير كما لو أنها تبحث عن فضاء داخل سرد هيرودوت الفتّان عن الحروب الفارسية التي خرجت منها اليونان منتصرة في العام الخامس قبل الميلاد مفسحة المجال أمام ولادة الحضارة الغربية.
وماروتزي ينسب الفضل لهيرودوت في اختراع مصطلح "الغرب" كمفهوم سياسيّ ويأسف لأنه لا بوش ولا بلير رأيا انه من المناسب أن يقرءا كتاب "التواريخ" قبل غزوهما للعراق.
ويتوقّف المؤلّف عند كتاب بلوتارك بعنوان عن خبث هيرودوت والذي تحوّل فيه هيرودوت إلى أبي الأكاذيب. وماروتزي يرفض هذا الوصف ويرى بأنه وصف خياليّ ومؤسف ولا يختلف كثيرا عن الذين سخروا من هيرودوت في وقت لاحق باعتباره ناشرا ومروّجا للخرافات. "أيّا ما كانت عيوب هيرودوت كمؤرّخ، وهو عادة ما يُتّهم وبطريقة غير منصفة أحيانا باختلاق بعض القصص، إلا انه يظلّ أكثر قابلية للقراءة من معظم من أتوا بعده من الرحّالة".
أحد مصادر المتعة في هذا الكتاب هو أن المؤلّف يسافر بصحبة القارئ إلى الأماكن والبلدان التي ذهب إليها هيرودوت أو عاش فيها، ويقرن ذلك بالأوصاف الجميلة والملاحظات الذكيّة والممتعة. ويبدأ رحلة الاكتشاف تلك بزيارة لبلدة بودروم مسقط رأس هيرودوت؛ تلك المدينة القديمة الواقعة على ساحل بحر إيجه والتي كانت تُسمّى في زمن هيرودوت بـ هاليكارناسوس.
ثمّ يذهب المؤلّف إلى بغداد التي لم تكن موجودة على أيّام هيرودوت، وإلى بابل وهي مكان لحضارات سبقت هيرودوت بأكثر من ألف وثلاثمائة عام. ثمّ يحلّ في مصر قبل أن يعود إدراجه إلى سالونيك وأثينا والأرخبيل اليونانيّ. وبين كلّ مكان وآخر، يورد ماروتزي تلميحات ثمينة ذكرها هيرودوت في "التواريخ" عن أسفاره وتنقّلاته.
في مصر، كان هيرودوت أكثر اهتماما بنهر النيل وتقنيات التحنيط من اهتمامه بالأهرام مثلا. ولا ينسى المؤلّف أن يزور أعجوبة العالم الثامنة، أي نفق يوبيلينوس في جزيرة ساموس. ويقول معلّقا: من الصعب أن يتحمّس الناس من اجل نفق. لكنّه يتحدّى الخفافيش والفئران". وبمساعدة مجموعة من خرائط الرسم، يحاول الكاتب بناء قضيّة لإدراج هذا النفق الأسطوري ضمن عجائب الدنيا القديمة.
وماروتزي ملاحظ دقيق للتفاصيل وهو يستخدم كتاب "التواريخ"، ليس كمصدر للمعلومات فحسب، وإنما كأداة للمقارنة والقياس والترفيه أيضا. وبالنسبة له، فإن الأرض والناس هما جزء لا يتجزّأ من بحثه عن هيرودوت، تماما كما كان هذا العنصران مهمّين بالنسبة للمؤرّخ.
أحد الأشياء التي يعلّمنا إيّاها هذا الكتاب هو أن التاريخ القديم ليس بالضرورة منقطع الصلة بعالم اليوم. فالعداء العرقي والجغرافي ما يزالان موجودين في هذا العالم ويتدثّران بحجج وأغراض وذرائع كثيرة ومختلفة.
وعلى الرغم من أن نظرة هيرودوت للعالم مضى عليها أكثر من ألفين وخمسمائة عام، إلا أنها ما تزال حديثة بشكل مدهش: احترموا العادات والثقافات الغريبة، وابقوا ضمن الحدود الطبيعية الخاصّة بكم، واحترسوا من التوسّع الإمبراطوري المفرط، وحذار من الغطرسة التي قد تقودكم إلى الانتقام، ولا تركنوا إلى أمجادكم القديمة وتذكّروا نصيحة الحكيم سولون إلى ملك ليديا الثريّ كرويسوس: أحيانا يمنح الله إنسانا لمحة من السعادة ثم لا يلبث أن يدمّره بعد ذلك".
كتاب "الرجل الذي ابتكر التاريخ" هو مزيج فاتن من الرحلات والتاريخ والقصص المسلّية التي وضعها كاتب موهوب وذو أسلوب مرهف، خاصّة عندما يصف الأماكن التي تشرّبت على مدى قرون طويلة بالكثير من الدم والشمس والعرق والبؤس البشري. وإذا أعجبك موضوع هذا الكتاب فاحرص على أن تقرأ كتابا آخر لا يقلّ أهمية وشهرة هو رحلات مع هيرودوت للصحفيّ البولندي ريشارد كابوشتنسكي.

Credits
atravelerslibrary.com
popmatters.com