الأربعاء، أغسطس 30، 2023

التوق الى البعيد


ربّما كنتَ قد عشت طفولة مريحة وآمنة إلى حدّ معقول، ونشأتَ في قالب اجتماعيّ محدود، وتشكّلت حياتك بعد ذلك، ومثل بقيّة الناس، وفقاً لظروفك ولمعطيات وجودك الخاص. ومع اقترابك من سنّ الثلاثين، قد يكون ساورك شوق لا تدري كنهه للتحرّر من كلّ ما عرفته أو اعتقدت أنك كنت تعرفه في ما مضى من عمرك.
ثم بعد ذلك، وأنت جالس في بيتك، إذ بأحلام يقظةٍ تراودك بالعيش خارج بيئتك كغريب في أرض بعيدة. وربّما يستهلكك هذا التوق الذي لا يمكن تفسيره، لأنك لم تكن تعرف ما الذي كنت تبحث عنه أو إلى أين تتوق للذهاب، لكنّك تعرف أنك يجب أن تذهب في طريقك. ثم تجد نفسك مسافرا عبر الأرض بمفردك، حاملاً القليل من متعلّقاتك في حقيبتك وتاركا ورائك حدود واقعك الضيّق والمحدود بحثاً عن شيء ما في مكان آخر.
التطلّع أو الشوق الى مكان بعيد (far-sickness) هو شعور ينطوي على معاناة وألم. إنه شوق طويل لأن تكون في مكان لم تذهب إليه من قبل؛ في أرض بعيدة وغير معروفة، توق غامض لشيء ما خارج المكان. ولكن كيف نبدأ في البحث عن مكان لم نزره من قبل؟ وكيف نخفّف من شوق لا نعرف مصدره؟ والسؤال الأكثر صلةً: لماذا نتألّم إذ نشتاق الى أماكن لم نعرفها من قبل؟
هذا الشعور الغامض والمؤلم للتوق الى ارض بعيدة يختلف عن الحنين الى البيت/الوطن. فعندما نشعر بالحنين إلى البيت فإننا نتوق إلى مكان نعرفه، مكان للأمان والراحة والاستقرار. في البعد عن البيت نفتقد مكانا جغرافيّا له جدران وباب. وهو مكان مليء بالأشياء والذكريات والأشخاص الذين تكون وجوههم مألوفة مثل وجوهنا.
البيت/الوطن مكان يمكننا أن نلمسه ونشمّه ونراه ونشعر به. أما التطلّع الى البعيد فهو ألم لتجارب وأحاسيس لم نشعر بها من قبل. وإذا كان الحنين إلى البيت هو توق إلى المألوف، فإن التطلّع الى مكان غريب هو توق إلى المجهول الكامل، الى مكان خالٍ من الحدود المقيّدة لبيتنا ومجتمعنا المألوف. إنه رغبة هادفة في التعرّف على لا شيء وعلى لا أحد، الرغبة في اكتشاف بيت تحت سماء مفتوحة وواسعة في أرض بعيدة، حيث الباب الأمامي هو البحر الواسع والشواطئ الرملية، مع مكان مناسب للنوم.
لكن يبقى السؤال: لماذا نتوق إلى تجارب مجهولة في بلاد مجهولة؟ قد يكون السبب هو أن المجهول مكان للتجديد ومساحة من الاحتمالات اللامحدودة وفرصة لمسح ألواحنا والبدء من جديد. كما أنه فرصة للتخلّي عن البُنى العقلية المكبّلة للذات، من قبيل كيف ننظر إلى أنفسنا وكيف ينظر إلينا الآخرون.
والشعور بالتطلّع الى الأماكن البعيدة يتغذّى أيضا من الرغبة في أن تكون في مكان ما تنتمي إليه ويسمح لك بأن تكون التعبير الحقيقي عن نفسك. وهناك أيضا الرغبة بالعثور على بيت بداخلنا، في أي مكان من العالم، على قمّة جبل أو في طريق متعرّج وسط الأرض، مع عدم إدراكك لأيّ شيء عدا عن كونك جزءا من كلّ شيء.
البيت يمكن أن نعود إليه في أيّ وقت، ولكن كيف نتخفّف من التوق الى البعيد؟ ربّما لا يمكن التخلّص من هذا الشعور نهائيا لأنه عندما يضرب مرّة، فإنه سيضرب مرّة أخرى، وقد يكون أقوى في المرّة الثانية. التوق الى الاماكن البعيدة هو شعور الحالمين الذين يتخيّلون الاحتمالات اللانهائية ويدركون مدى محدودية ظروف الوجود.
قبل فترة، طلبت احدى مجلات السفر والسياحة من قرّائها وصف الأماكن التي لم يسبق لهم الذهاب إليها من قبل ويساورهم توق للسفر اليها. وأجاب عدد كبير منهم أن آيرلندا واسكتلندا وإنغلترا وآيسلندا تثير الإحساس بالتوق والتطلّع. ولا غرابة في ان الكثير من الناس يشعرون بالتوق إلى زيارة هذه الأماكن حيث البحيرات الضبابية والمرتفعات البرّية والتاريخ الضارب في القدم. وقال أحدهم: عندما أرى صورا لبلد بعينه أو أفلاما عنه فإن ذلك يناديني، وأشعر به في عظامي تقريبا، رائحة الهواء وأصوات الرياح والطيور المغرّدة في الجبال وأمواج البحر المتدافعة كالخيول. إن ما أشعر به لأمر مدهش".
وتحدّث آخرون عن توقهم لرؤية الأماكن التي جاء منه أسلافهم، متخيّلين أنهم يسكنون في نفس البيوت التي عاش فيها أجدادهم ويسيرون في نفس الشوارع التي ساروا فيها. وكثير من هذا الشعور يرتبط بالرغبة في التواصل مع الماضي الذي لا يمكن التواصل معه على أرض الواقع. لكن المكان نفسه، حتى لو لم تتمكّن من زيارته، فإنك لمجرّد أن تحلم به أو ترغب في زيارته وتعرف أنه موجود، فهذا يعني أنه اتصال حقيقي وملموس. غير أن هناك من يعتقد أن من الأفضل للناس أن لا يزوروا هذه الأماكن، لأن النسخة التي في أذهانهم عنها ستكون دائما أفضل من الواقع الذي سيختبرونه. والنتيجة أنهم سيصابون بالإحباط وخيبة الأمل.
وفي نفس الاستبيان الذي أجرته المجلّة احتلّت الأماكن الخيالية مكانة عالية في القائمة. حيث حلم كثيرون بزيارة عوالم فانتازية شهيرة مثل نارنيا التي ذكرها سي إس لويس في روايته، والأرض الوسطى المذكورة في رواية "سيّد الخواتم" لتوكين، وشانغريلا التي ذكرها جيمس هيلتون في روايته "الأفق المفقود". كما عبّر الكثيرون عن توقهم لأن يكونوا في رحاب الطبيعة، أولا لأنها مفيدة لصحّتنا الجسدية والعقلية، وثانيا لأن المساحات الخضراء وحقول الربيع والشواطئ التي تغمرها أشعّة الشمس تجعلنا نتوق للعودة إلى جذورنا على الأرض.

Credits
npr.org