الأحد، نوفمبر 17، 2024

الأصول الأولى للرسم


لطالما انشغل البشر بالأصول الأولى للأشياء. وكانوا يعتمدون دائما على الأساطير لتفسير كثير من الأمور. ولم يكن الرسم استثناءً. فقد قدّمت ثقافات مختلفة من العالم قصصها الخاصّة عن نشأة الرسم. والشيء الوحيد المشترك بين تلك القصص هو أن الرسم بدأ عندما رسم شخص ما ظلّ شخص آخر.
وطبقا لقصّة كتبها بليني الاكبر، المؤرّخ الروماني من القرن الأوّل الميلادي وضمّنها كتابه "التاريخ الطبيعي"، فإن أوّل لوحة في التاريخ على الإطلاق رسمتها ابنة خزّاف من بلدة كورينث باليونان، والتي اشتهرت منذ القدم بصناعة الخزف. كانت الفتاة، واسمها ديبوتاديس، مخطوبة لشابّ وكان على وشك السفر بعيدا عن بلدتهم. وقبل رحيله ليلا، أحبّت الفتاة أن تتذكّره فرسمت محيط رأسه على الحائط باتباع الظلّ الناتج عن ضوء مصباح. ثم طلبت من والدها أن يصنع لذلك الشكل قطعة خزفية. وقد ملأ والدها تلك الصورة الظلّية بالطين، ثم أحرق الطين في الفرن وأصبحت تلك أوّل منحوتة عرفها الانسان.
وكانت تلك الصورة الشعرية مشهورة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وصُوّرت في العديد من الأعمال الفنّية، وأصبحت موضوعا شائعا بين الفنّانين الغربيين من سبعينات القرن الثامن عشر إلى عشرينات القرن التاسع عشر.
ولو سلّمنا جدلا بصحّة تلك القصّة، فإن هذا يعني ان الرسم لم يولد كوسيلة اتصال، بل كأداة للتذكّر. فابنة الخزّاف لم تحتفظ بصورة لخطيبها، بل احتفظت بمحيط رأسه، وهو تفصيل يكفي لأن يتمكّن أيّ شخص يعرفه من تذكّره.
الرسام الانغليزي جوزيف رايت (1734 - 1797) رسم شخصية خطيب الفتاة الكورينثية على غرار تمثال نائم رآه في روما. وكان قد قضى في إيطاليا حوالي عامين وسجّل في كرّاسه الخاص الآثار القديمة والمنحوتات التي رآها. واستند في رسمه للمفروشات والملابس وحتى في تسريحة شعر المرأة الظاهرة في لوحته إلى أدلّة أثرية. كما رَتّب الشخصيات بإيقاع محسوب بعناية.
وبصفته معلّما في الإضاءة الاصطناعية، أخفى رايت مصباحا معلّقا خلف الستارة ليشير إلى مصدر الضوء الذي يلقي بظلّه على الشابّ. ولم ينسَ أن يضمّن المنظر صورة لكلب نائم كرمز للإخلاص. كان رايت أستاذا في الرسم القديم. لذلك، كانت البيئات المظلمة مناسبة تماما لأسلوبه. وكان الانغليز في أواخر القرن الثامن عشر يستمتعون بتجسيد فكرة المرأة المخلصة التي تنتظر حبيبها الغائب.
وقد تداول الناس أسطورة ديبوتاديس على مرّ العصور. وأشار إليها ليوناردو دافنشي وجورجيو ڤاساري في كتاباتهم. ومنذ القرن السابع عشر، ازدادت شعبية القصّة بين الفنّانين الغربيين. ومن الغريب أنهم غيّروا في الرواية لتناسب الرسم فقط وتغافلوا عن نموذج الطين/النحت الذي ركّز عليه بليني الأكبر في كتابه.
وقصّة فتاة كورينث تشبه قصّتي بيغماليون وغالاتيا، حيث تُحوّل إحداهما شخصا إلى عمل فنّي، بينما تُحوّل الأخرى العمل الفنّي إلى إنسان حيّ. وهنا يمكننا أن نرى كيف يعمل الرسم كبديل للحبيب. فهو ليس مجرّد صورة، بل إن جوهره يعيش فيه.


لكن بعض المؤرّخين يشيرون الى أن أوّل لوحة في التاريخ رسمها بشر بدائيون يُعتقد أنهم من سلالة إنسان النياندرتال في عصور ما قبل التاريخ. وتكشف الحفريات الأثرية التي أُجريت في أوروبّا وأفريقيا وآسيا أن بشرا بدائيين كانوا أوّل الرسّامين والنحّاتين وقد أظهروا من خلال تلك الفنون بعض أنشطة حياتهم اليومية.
واللوحات الأولى التي اكتشفها علماء الآثار على جدران وأسقف بعض الكهوف هي عبارة عن رسوم تنبض بالحياة وتستخدم أكثر من ثلاثة ألوان وتتضمّن محاكاة للطبيعة بأقصى قدر من الواقعية. ففي كهوف ألتاميرا في إسبانيا، مثلا، توجد لوحة صخرية مثيرة للإعجاب رُسمت لحيوان البايسون أو الجاموس أثناء صيده وباستخدام تقنية الضوء والظلّ.
وجزء كبير من رسومات الكهوف تصوّر حيوانات ونباتات وأشياءَ أخرى بدرجات متفاوتة من الواقعية. وهناك أيضا تمثيلات رسومية وتجريدية ومشاهد معقّدة. والعديد من علماء الآثار يعتقدون أن تلك الرسوم قد تكون مرتبطة بطقوس الصيد والخصوبة ودرء الخطر وبمحاولات الانسان القديم إيجاد لغة رمزية للأفكار أو المشاعر أو الحياة اليومية.
ومهما كان الدافع وراء تلك الرسومات، سواءً الرغبة في صنع الفنّ أو في تسجيل الحياة اليومية في ذلك الوقت، فإن الفنّ الصخري المحفوظ منذ آلاف السنين حوّل تلك الكهوف إلى أوّل متاحف للإنسانية.
وهناك مؤرّخون يعتقدون أن أصل الرسم كما نعرفه اليوم يعود إلى العصر الحجري الحديث، أي الى الألفية العاشرة قبل الميلاد، عندما بدأ الرسم على الصخور يشهد تراجعا بسبب تطوّر الزراعة والمجتمع. وقد ظهر في اليونان القديمة وأتقنه الرومان فيما بعد. ففي حوالي عام 3000 قبل الميلاد، بدأت القرى الصغيرة في الظهور في البرّ الرئيسي لليونان وبدأ هناك تقليد الرسم على التحف الخزفية مثل المزهريات والأواني.
ومنذ الألفية الثانية قبل الميلاد، نشأ في مدينة كريت مجتمع ملكيّ متحضّر. وفي القصور والمباني الكبيرة، ظهرت أولى علامات اللوحات الجدارية بأسلوب تصويري مختلَط وبتصاميم هندسية، مع أشخاص يمارسون أنشطة مختلفة كالعبادة والألعاب واحتفالات القصور وما الى ذلك.
وكانت الموادّ المستخدمة في ذلك الوقت عبارة عن مستخلَص من البيض وطلاء يعتمد على الشمع وأصباغ معدنية ونباتية في وسط مائي. اما الألوان المفضّلة فكانت الأبيض والأسود والأصفر والأحمر. وكان الأخضر والبنفسجي أقلّ درجات اللون ثباتا ومن ثمَّ أقلّها استخداما. أما الأزرق فكان باهظ الثمن للغاية ويُستخلص من طحن حجر شبه كريم هو اللازورد.
منذ عشرينات القرن التاسع عشر، قلّ الحديث كثيرا عن قصّة الخزّاف اليوناني وابنته وخطيبها، ولكنها لم تختفِ تماما. وما تزال القصّة تتردّد حتى اليوم، خاصّة عندما يأتي الحديث عن الفنّانات الإناث اللاتي عانين من التجاهل ولم يلاحظهن أحد أو مُحيت أسماؤهنّ من التاريخ، بسبب السلطة الأبوية والمجتمع الذكوري.

Credits
tate.org.uk