ويُنظر إلى هذا العمل على نطاق واسع باعتباره انعكاسا لطبيعة الإيقاع والتكرار والتشابه كما يراها الفنّان. في ذلك الوقت، كان الموسيقيّ النمساوي أرنولد شوينبيرغ قد وضع نظاما ثوريا جديدا في الموسيقى يتألّف من 12 نغمة. والكثير من النقّاد يعتبرون "المعمار" انعكاسا لفكرة شوينبيرغ الكميّة والمنطقية للموسيقى باعتبارها كيانا هندسيّا ورياضيّا وليست فقط مشاعر وتأمّلات. وقد نُظر الى عمل الرجلين في ذلك الوقت على أنه مبتكر للغاية ومختلف تماما.
ويقال إنه لم يستكشف فنّان آخر مجال الأشكال الهندسية الأوّلية بمثل ما فعل كلي. فقد استخدم الهندسة، ليس فقط من أجل خلق حقائق تصويرية نقيّة، ولكن أيضا لشرح الحياة العضوية. وفي عام 1930، كتب ناقد يُدعى رينيه كريفيل قائلا: إن أبسط الموادّ والكلمات أو الألوان تعمل كوسيط بين العالم الخارجي والمتلقّي. والشعر هو اكتشاف العلاقات غير المتوقّعة بين عنصر وآخر. والرسّام الذي يجد الشعر في أكثر أشكال الهندسة جفافاً يستطيع أن يعرف كيف يصعد الى السطح بعد أن يغوص".
وهناك من رأى في سلسلة "المربّعات السحرية" انعكاسا للنهج الفلسفي الرومانسي الذي كان كلي يتبنّاه تجاه الحياة. فقد كان يعتقد أن الكون الذي نراه ما هو الا مظهر وانعكاس لشيء آخر. ويمكن أن تكون المربّعات في اللوحات رمزا للكون ككل، فهي كتل بِناء تبدو ذات قيمة وأهمية جوهرية.
ناقد آخر يُدعى وِل غرومان قارن سلسلة المربّعات السحرية بالبحث الموسيقي المعاصر، وخاصّة نظام النغمات الاثنتي عشرة الذي ابتكره شونبيرغ، فقال: وجدت بين أوراق كلي ورقة صغيرة عليها مخطّط لإحدى لوحاته. كانت الأرقام مكتوبة في المربّعات، وسلسلة من الأرقام تسير أوّلاً في اتجاه واحد ثم في الاتجاه الآخر متقاطعةً مع بعضها البعض. وعندما تُجمع الأرقام على طول الخطوط الأفقية والرأسية، يصبح المجموع متساويا، كما هو الحال في المربّع السحري الشهير".
في بحثه النفسي عن الأشكال الهندسية الأكثر بدائية والبنية الداخلية للمادّة ومصفوفاتها وأشكالها الإيقاعية، يجد كلي مبدأ فعّالاً للتنظيم يقوم على نفس الأساس الذي ينهض عليه الكائن الخلاق والكون المخلوق. إنه يعمل بجد على اكتشاف إيقاع "الطبيعة العظيمة" ثم يضعه كحركات غريزية أو مراكز حضرية.
وكان كلي قد قال مرّة ان الفنّ البصري لا يبدأ بمزاج أو فكرة شعرية، بل ببناء شكل أو أشكال متعدّدة أو بتناغم عدد قليل من الألوان أو الظلال، أو بحساب للعلاقات المكانية. وكانت لوحاته المربّعة قد بدأت بمربّعات من الألوان المتناثرة في أشعّة الشمس. ثم أصبح بعضها مصحوبة بمثلثّات توحي بالأسقف وبأنصاف دوائر تلمّح إلى قباب المنازل أو المساجد التي رآها أثناء زيارته للمغرب.
وقد أصبحت لوحاته هذه أكثر تعقيداً، حيث تكرّرت كأشكال هندسية صغيرة على القماش بما يشبه الهيروغليفية، مع تلاعب بدرجات الألوان. وبينما كان يبحث عمّا أسماه "الإيقاع البصري"، أصبحت رسوماته الخطّية أكثر تجريبية، أحياناً على خلفية بيضاء، وأحياناً أخرى على قماش ملوّن. وأصبحت الخطوط المعقّدة والمتكرّرة، مثل النوتات الموسيقية، تقترن بعناوين مثل "عمارة الغابات" و"منظر لمحمية جبلية" و"معبد منحوت في الصخر" أو "أسماك في سيل".
في أوائل عام 1921، انضمّ كلي إلى مدرسة باوهاوس، وهي المدرسة الحكومية الجديدة للفنون والتصميم في فايمر بألمانيا والتي سرعان ما ضمّت كاندنسكي إلى هيئة تدريسها. وغطّت دورات كلي جميع الفنون والحرف اليدوية، من الرسم والتلوين إلى تجليد الكتب والزجاج الملوّن وتصميم المنسوجات. وكانت تلك فترة خصوبة غير عادية في حياته حيث تمكّن من اختبار نظرياته من خلال فنّه وتدريسه.
ومع تنامي شهرة بول كلي على المستوى العالمي، بدأ صعود النازيّة بانتخاب هتلر مستشارا لألمانيا في مارس 1933، فعُطّلت مدرسة باوهاوس وطُرد كلي من عمله في أبريل 1933. ثم عُرض 17 من أعماله في معرض "الفنّ المنحطّ" النازيّ في ميونيخ. وفي ديسمبر من ذلك العام، فرّ هو وعائلته من ألمانيا إلى مسقط رأسه في بيرن بسويسرا. وكانت السنوات التي تلت ذلك صعبة. ففي عام 1935، أصيب الرسّام بمرض جلدي مميت يُسمّى تصلّب الجلد.
وفي عام 1940، وهو عام وفاة كلي، رسم شخصا مركّبا من عيدان ثقاب على خلفية حمراء وداخل إطار أسود. ثم كتب خطاب وداعه للعالم وهو عبارة عن بضع كلمات نُقشت على شاهد قبره يقول فيها: لم أعد مقيّدا الآن، لأنني أعيش أيضا مع الموتى، كما هو حال الجنين، أقرب إلى قلب الخلق من المعتاد".
❉ ❉ ❉
❉ ❉ ❉
ويمكن تقسيم الرحلة التي صاغها كامبل في كتابه "البطل ذو الألف وجه" الصادر عام 1949، إلى مراحل: يتلقّى البطل دعوة للمغامرة، يلتقي مرشدا ملهِما، يترك وطنه ويواجه العقبات والأعداء والحلفاء، يفشل في تحقيق الهدف، يحاول مرّة أخرى وينجح، وأخيرا يعود إلى أرض الوطن بالمكافأة.
في رواية الهوبيت لـ توكين (1937)، تنقلب حياة بيلبو باغينز الهادئة الخالية من الأحداث رأسا على عقب بسبب وصول الساحر غندالف المفاجئ، الذي يسأله ما إذا كان يرغب في الذهاب في مغامرة. ولأنه غير راغب في استبدال محيطه المريح بالمجهول العظيم، يرفض بيلبو عرض غندالف.
ولا يقرّر الهوبيت المتكبّر مرافقتهم ومساعدتهم في استعادة وطنهم المهجور إلا بعد أن يشكّك الأقزام في فائدته. ورغم عدم تأكّده في البداية من قدراته، يثبت بيلبو أنه أهمّ أفراد المجموعة، حيث ينقذهم من الخطر مرارا. وبعد المساعدة في هزيمة التنّين سموغ، يعود بيلبو إلى شاير وهو أكثر حكمةً وسعادةً وثقة.
لم يغيّر كامبل الطريقة التي ينظر بها الناس إلى القصص القديمة فحسب، بل غيّر أيضا كيفية سرد القصص الجديدة. لكن انتشار اسمه في كلّ مكان كان سبباً في حجب الانتقادات المهمّة التي وُجّهت إلى رحلة البطل. فقد نُشر كتاب "البطل ذو الألف وجه" قبل أكثر من 75 عاماً، في وقت كانت فيه المواقف والظروف الثقافية مختلفة.
فهل الأسطورة الأحادية حقّاً متجانسة وعالمية كما ادّعى كامبل؟ تشير قائمة من رواة القصص القدامى والمعاصرين الذين انحرفوا عن رحلة البطل إلى أن الأمر ليس كذلك.
لا شكّ أن جزءاً من جاذبية الأسطورة الواحدة ينبع من التأثيرات المتنوّعة التي تأثّر بها كامبل. فأثناء دراسته في باريس وميونيخ، رأى بعض لوحات بابلو بيكاسو وهنري ماتيس، الفنّانين اللذين نظرا إلى ما هو أبعد من موضوعاتهما لفهم كيفية إدراك الناس للعالم. كما أهتمّ بالمحلّلين النفسيين سيغموند فرويد وكارل يونغ، اللذين كتبا عن العمليات العقلية التي تقع غالبا خارج نطاق فهمنا وسيطرتنا كأفراد.
وبعد أن تعرّف كامبل على الفلسفة والأساطير الهندوسية، لاحظ بسرعة أوجه التشابه السردية والموضوعية بين التقاليد الأوروبية والآسيوية. وكان الأمر اللافت للنظر بنفس القدر هو الصلة الدائمة التي اكتسبتها هذه الحكايات القديمة بالنسبة لرواة القصص المعاصرين مثل جيمس جويس، الذي تُعتبر روايته المشهورة "يوليسيس" إعادة تصوّر حديثة لرواية هوميروس التي نالت استحسانا مماثلاً.
هذه التأثيرات المتنوّعة وذات الصلة أقنعت الباحث الشابّ كامبل وبطريقة ما أن "جميع الأساطير والملاحم مرتبطة في النفس البشرية، وأنها مظاهر ثقافية للحاجة إلى تفسير الحقائق الاجتماعية والكونية والروحية".
شعبية الأسطورة الأحادية في الغرب يمكن تفسيرها أيضاً من خلال تأكيدها على الفردية، أو فكرة أن الناس قادرون على تحويل أنفسهم وإعادة تشكيل العالم على صورتهم نتيجة للتطوّر الشخصي.
وكان كامبل - والكلام لبرينكوف - يعتقد أن عناصر الأسطورة الأحادية تتحدّث مباشرة إلى اللاوعي الجماعي، أي إلى الصور والقيم التطوّرية المدفونة في أعماق النفس البشرية، وبالتالي فهي مشتركة بين البشر كلّهم، بغضّ النظر عن الفترة التاريخية التي يولدون فيها أو الثقافة التي ينتمون إليها. ولهذا السبب، أشار كامبل إلى الأحلام باعتبارها "أساطير شخصية" والأساطير باعتبارها "أحلاماً شخصية". وكان يعتقد أن الأسطورة الأحادية تجسيد تجريدي للنموّ، فالبطل الذي يقتل التنّين هو استعارة لمواجهة انعدام الأمن والعيوب التي نعاني منها والتغلّب عليها.
وفي حين يمكن تلخيص سرديات مثل قصّة موسى في سفر الخروج والمعركة بين موردوك وتيامات في أساطير الرافدين على أنها رحلات أبطال، فإن العديد من الحكايات القديمة الأخرى، مثل أوديب والحكايات الشعبية، بل ومعظم أساطير الخلق لا يمكن اعتبارها كذلك.
لم تكن ثقافات العالم القديم تمتلك آلهة ووحوشاً فريدة فحسب، بل كانت تمتلك أيضاً تقاليد سردية متميّزة. فأشكال السرد الهندية مثلا تختلف كليّا عن الأشكال الغربية. ولو شاهدتَ فيلماً من إنتاج بوليوود، فستلاحظ أنه في لحظة ما قد يتحوّل الفيلم إلى قصّة رومانسية، ثم يتحوّل إلى فيلم إثارة، ثم إلى فيلم موسيقي، ثم يتحوّل إلى فيلم فنون قتالية، وهو ما قد يربك الجمهور الغربي، ولكنه طبيعي تماماً بالنسبة للجمهور الهندي.
وتزعم بعض الباحثات النسويات أن العديد من الشخصيات البطولية في الأساطير والأدب ليست مثيرة للإعجاب كما كانت في السابق، وأن الاهتمام الذي يُبديه باحثون مثل كامبل لهذه الشخصيات يعادل تمجيد العنف والعدوان والهياكل الاجتماعية الأبوية. وهذا انتقاد قاسٍ، رغم أن له ما يبرّره. فكتاب "البطل ذو الألف وجه" يركّز على الأبطال الذكور الذين يسعى العديد منهم إلى إنقاذ أميرة.
وبصرف النظر عمّا تعتقده بشأن كامبل وعمله، لا يمكن إنكار أن رواة القصص المعاصرين يبتعدون تدريجيّا عن الأسطورة الأحادية. فبدلاً من قبول رحلة البطل بشكل أعمى، يفضّل العديد من صنّاع الأفلام الآن تفكيكها وإنشاء قصص عن شخصيات تبدو وكأنها أبطال، لكنها تتحوّل إلى أشرار أو تنانين وما الى ذلك.
Credits
paulklee.net
bigthink.com
paulklee.net
bigthink.com