الرحلة الحقيقية ليست في أن ترى طبيعة جديدة، بل في أن ترى بعينين جديدتين.
- مارسيل بروست
قبل أيّام، كنت أقود سيّارتي في نفس الطريق الذي غالبا ما اسلكه كلّ يوم في طريقي من وإلى البيت. وتفاجأت عندما اكتشفت عند احد المنعطفات وجود حديقة صغيرة شُيّدت هناك على ما يبدو كخلفية لسوق أو مجمّع محلات تجارية. والغريب أنني لم انتبه لتلك الحديقة قبل ذلك على الرغم من أنني استخدم ذلك الطريق يوميّا تقريبا.
والصورة التي كانت في ذهني عن ذلك المكان هو انه عبارة عن ساحة فارغة. وأكيد أن تلك الحديقة لم تظهر بين يوم وليلة، بل لا بدّ وأن الأمر استغرق أسابيع وربّما أشهرا لإنشائها. ومع ذلك فاتني أن ألاحظ هذا على الرغم من مروري من هذا المكان يوميّا.
وخطر ببالي سؤال: هل أنا ممّن يمكن وصفهم بالسائرين وهم نيام، أي تلك الفئة من الناس الذين يشغلهم التفكير والاستغراق في المشاغل والاهتمامات الآنيّة عن ملاحظة العديد من المناظر والأصوات التي نصادفها يوميّا، ولكن تفوتنا ملاحظتها؟
في كثير من الأحيان، نمرّ من أمام أشياء أو تفاصيل ولكننا لا نراها لأننا مشغولون، أو أننا ننظر إليها ولكن لا نراها بطريقة واعية ومدركة.
أنت أيضا قد تكون مررت بمثل هذه التجربة. ربّما كنت في طريقك للعمل أو البيت وتستمع إلى أغنية في الراديو أو تتحدّث إلى صديق في التليفون. وبينما أنت منهمك في ذلك، قد يفوتك رؤية شيء أو أشياء كثيرة تدور من حولك، مثل منظر شجرة أو بناية أو جسر أو حتى منظر حادث .. إلى آخره.
❉ ❉ ❉
في القرن الثامن عشر، عاش في ألمانيا فيلسوف وشاعر يُدعى
فريدريش نوفاليس . كان هذا الرجل يميل لإضفاء مسحة رومانسية وغامضة على العالم. وكان يرى، مثلا، ضرورة أن نعوّد أحاسيسنا على أن ترى في العاديّ شيئا طارئا واستثنائيّا وأن تنظر إلى البسيط أو المألوف باعتباره شيئا غريبا ومثيرا للاهتمام.
وكان يعتقد بأن هناك مناظر وأصواتا كثيرة وغريبة في هذا العالم، وأننا لا ندركها ولا نتبيّنها لأن أحاسيسنا محدودة وإدراكنا قاصر.
والروائية البريطانية
جورج إليوت قالت ذات مرّة: لو أنّنا نمتلك رؤية فاحصة وإحساسا حقيقيّا بكلّ تفاصيل الحياة الإنسانية العاديّة، لأمكننا سماع العشب وهو ينمو وقلب العصفور وهو ينبض ولأرعبنا ذلك الزئير الذي يقع على الطرف الآخر من الصمت.
وكلام نوفاليس وإليوت صحيح تماما. فهذا العالم يموج فعلا بمختلف الألوان والأصوات ويضجّ بالنشاط وبالحياة. ونحن لا نرى الكثير منها بسبب محدودية حواسّنا وإدراكنا.
ترى هل راقبت، مثلا، تشكيلات الغيوم في السماء ذات يوم ممطر؟ كثيرون هم من تجتذبهم هذه الهواية. وأعرف شخصا يقطع بسيّارته عشرات، وأحيانا مئات الأميال لتعقّب ومراقبة الغيوم وتصويرها ويعرف مسبقا أين ومتى تمطر. من الأرض تبدو الغيوم هادئة وقطنية الملمس. لكنها في الواقع هائجة وتضطرم بعنف.
وثمّة شاهد آخر يدلّل على قصور حواسّنا، وأيضا على النظام المعقّد للكون وعظمة من أوجده، هو طريقة عمل النجوم. فالنجوم لها أصوات، أو بالأحرى همهمات إيقاعية، وهي تشبه إلى حدّ كبير الأجراس. وهذا ينطبق على الشمس التي تُصدر تردّدات تشبه رنين الأجراس، وكلّ جرس يعطي نغمة مختلفة، لكنّها متناغمة مع بقيّة النغمات.
ولو كان هناك هواء في الفضاء بحيث يمكننا سماع غمغمة الشمس، فستكون صاخبة بشكل لا يُصدقّ لدرجة انه يستحيل سماع شيء آخر. فالشمس تُصدر طاقة صوتية تُقدّر بـ 383 يوتاوات في الثانية الواحدة، أو ما يعادل عشرة ملايين مفتاح أو نغمة بيانو.
لكن لأننا نبعد عن الشمس مسافة 150 مليون كيلومتر، فإن تلك الأصوات الرهيبة المنبعثة منها تتلاشى في الفضاء ولا يصل منها إلى سطح كوكبنا سوى اقلّ من 125 ديسيبل.
في حياتنا اليومية "نرى" أشياء كثيرة، لكنّنا لا نراها حقّا لأنها لا "تتسجّل" أو تنطبع في وعينا. قد تنظر إلى شيء فتومض صورته بطريقة سريعة جدّا بحيث يتعذّر إدراكها في الوعي. وهناك أناس "يرون"، لكنهم لا يعلمون أنهم يرون.
والإنسان بطبيعته مخلوق يصنع الصور، يخربش، يرسم ويلوّن. وعندما ترسم ما تراه فأنت تلمس بعقلك ذلك الشيء الذي تنظر إليه.
أحيانا قد تلقي نظرة خاطفة على شيء ما في الشارع لثانية أو اثنتين. لكن لا يمكنك أن تقول ماذا رأيت إلا بعد جزء من الثانية، أي عندما تتموضع الصورة في مكانها وتكتمل أجزاؤها وتفاصيلها.
في إحدى التجارب العلمية المشهورة، طُلب من مجموعة من الناس أن يتفرّجوا على فيلم يظهر فيه مجموعة من لاعبي كرة السلّة وأن يحسبوا عدد المرّات التي تلامس فيها الأيدي الكرة. طبعا كان الجميع مركّزين على حركة الكرة. لكن في منتصف اللعب، دخل إلى الملعب رجل وظهر أمام الكاميرا وهو يضرب على صدره قبل أن يغادر.
نصف عدد المجموعة لم يروا ذلك الرجل، بل ولم يتصوّروا انه هناك حتى شاهدوا الفيلم مرّة أخرى. وبالتأكيد لو لم تُكلّف المجموعة بتلك المهمّة بالذات، أي متابعة الكرة، لرأوا الرجل بوضوح.
عقل الإنسان يشبه مياه بحيرة أو بِركة. كلّما كانت المياه هادئة، كلّما انعكست عليها الأشياء بوضوح. والعقل الهادئ يستطيع رؤية وإدراك الأشياء بأفضل ممّا يستطيعه العقل المشوّش أو المنشغل. وقلّة التركيز، أو تشتّت الذهن، يعني بالنتيجة عدم القدرة على رؤية، وبالتالي تقدير الأشياء في العالم من حولنا.
أنت عندما تكتب نصّا على الكمبيوتر، ستكتشف انه غاب عن اهتمامك أو فاتك ملاحظة وجود أشياء كثيرة حول الجهاز وفوق طاولتك. وفي غمرة انشغالك بالكتابة، فإن رؤيتك محدودة باهتمامك. لكن عندما تترك لعينيك الحرّية في أن تتجوّلا في الفراغ، فإنك تكتشف غنى الألوان والأضواء وتشعر بالدهشة ممّا تراه.
والعلماء والفلاسفة والكتّاب كثيرا ما تساءلوا عن مدى غنى أو فقر عالمنا الصوريّ البصريّ. وهناك كتب ومحاضرات عديدة تطرح هذا السؤال: كيف يمكن لنا أن نرى المزيد من هذا العالم؟
البشر لا يستخدمون سوى نسبة بسيطة من حواسّهم. وهم لا يرون سوى جزء يسير من الواقع المنظور ولا يسمعون سوى أعلى الأصوات وأكثرها إزعاجا. والعين عادة لا ترى سوى ما العقل مستعدّ لاستيعابه.
والآن هل تعتبر نفسك من فئة السائرين نياما؟ إن كان الأمر كذلك فحاول أن تطوّر مستوى رؤيتك وملاحظتك للتفاصيل الصغيرة. واحرص على أن تنظر للأشياء بعينين طازجتين. وستندهش عندما ترى الكثير من الأشياء الفاتنة والجميلة التي لم تكن تراها قبل ذلك من العالم المألوف.