الاثنين، يونيو 09، 2014

البحث عن الظلام

الليل المرصّع بالنجوم هو واحد من عجائب الطبيعة الأكثر سحرا. ولكن في عالمنا الذي تنيره الأضواء الاصطناعية، فإن ثلاثة أرباع الناس لا ينظرون إلى السماء ليلا ومعظمنا لم يعودوا يجرّبون الظلام الحقيقي.
والمفارقة هي انه صار لدينا الآن الكثير من الضوء بحيث لم نعد قادرين على أن نراه. وأصبحنا في بعض الأحيان عميانا "بالمعنى الحرفيّ للكلمة" بسبب سطوع ووهج الإضاءة. ولكن العبارة بمعناها المجازي صحيحة أيضا، وهذا يعني أنه عندما نضيء كلّ شيء، فليس هناك حقّا أيّ سبب لكي ننظر أكثر أو نلاحظ ما حولنا.
الإضاءة الاصطناعية قد تعني الكثير من الأشياء الجيّدة حقّا. فمن خلالها نستطيع وصل الليل بالنهار، ما يعني أننا يمكن أن نستمرّ في العمل وان نتابع هواياتنا ونذهب لتناول العشاء ونرفّه عن أنفسنا.
لكن لّليل الكثير من السمات التي تتجاوز الظلام أو عدمه، مثل الأصوات والروائح الليلية، أي تلك الأشياء الحسّية التي لها علاقة أكثر بالليل.
في الليل يتضاءل حجم وصخب العالم ونشعر بأن لا شيء يجتاحنا أو يعصف بنا. وفي الليل أيضا نتخلّص من تلك الأعباء التي حملناها طوال النهار. هذه الأمور تعني أن الليل هو أكثر بكثير من مجرّد الظلام. ومع ذلك فإن الظلام نفسه يتوفّر على الكثير من الأهميّة لوحده، سواءً بالنسبة لصحّة الإنسان أو صحّة البيئة.

❉ ❉ ❉

في هذا الكتاب بعنوان "نهاية الليل: البحث عن الظلام الطبيعي في عصر الضوء الاصطناعي"، يتناول الكاتب بول بوغارد فكرة الاختفاء السريع للظلام من عالمنا، أو بعبارة أدقّ الزحف المتزايد للضوء.
وقت الليل كما عرفه أسلافنا وحتى وقت قريب، أي إلى حوالي منتصف القرن العشرين، أصبح تحت التهديد. وإذا كانت أضواء العالم الآن لا تنطفئ أبدا، فإن السؤال الذي يطرح نفسه هو: كيف يؤثّر هذا علينا، نحن البشر، وعلى أشكال الحياة الأخرى التي تشترك معنا في بيئتنا؟
مؤلّف الكتاب يلفت انتباهنا إلى أن الليل المظلم هو منظر طبيعيّ في حدّ ذاته، أي حالة بيئية منفصلة وثمينة للغاية لدرجة أننا نغفل عنها وندمّرها دون أن نعي خطر ذلك.
وهو يبدأ كتابه بطاقة وحيوية. ومن اجل أن يجمع مادّة للكتاب، يذهب إلى مواقع في الولايات المتحدة، والى أماكن أخرى مثل باريس وفلورنسا وجزر الكناري وغيرها.
يقول بوغارد إن الانتشار السريع للإضاءة الاصطناعية في عصرنا هو سمة رئيسية للرأسمالية. ثم يذكّر بكلام لـ بيل ماك ايبن مؤلّف كتاب نهاية الطبيعة الذي يقول: إن أكثر الأشياء الثمينة في العالم الحديث هي الصمت والعزلة والظلام. ومن بين هذه الأشياء الثلاثة النادرة، فإن الظلام الحقيقيّ قد يكون أندرها جميعا".
ويورد المؤلّف أدلّة دامغة على التأثير الضارّ للحرمان من الظلام على البشر، مشيرا إلى أن الضوء الكهربائي، بديلا عن ضوء القمر أو النجوم أو حتى ضوء الشموع، له دور مهمّ في الإصابة بالسرطان. فإنتاج هرمون الميلاتونين، وهو عامل حيويّ في جهاز مناعة الجسم، ينخفض في بيئة الضوء. وقد تمّ ربط نقص الميلاتونين في الدم بزيادة مخاطر الإصابة بسرطان الثدي والبروستاتا.
يناقش الكتاب أيضا التكلفة المادّية والانفعالية لنوبات العمل الليلية. فإيقاعات الساعة البيولوجية تتعرّض للخلخلة بفعل التعرّض للضوء الكهربائي في الليل، ما يؤدّي إلى اضطرابات النوم التي تولّد بدورها الإرهاق وتوتّر الأعصاب وازدياد العلاقات الصراعية. ومؤخّرا اعتبرت منظّمة الصحّة العالمية أن نظام العمل بالنوبات الليلية يسهم في الإصابة بالسرطان ووضعته في نفس مستوى خطورة استنشاق أبخرة الديزل.

كتاب "نهاية الليل" مبنيّ في الواقع على سلسلة من اللقاءات مع أناس لديهم ما يقولونه حول الضوء والظلام. ومن هؤلاء شخص يُدعى كين، وهو سجين سابق، نعلم منه أن احد أساليب إضعاف الروح المعنوية للسجين هو تعريضه المستمرّ للضوء الثابت الذي يُوظّف كجزء من الذراع الطويلة للأمن. ومن غير المدهش أن كين أصبح الآن معلّما لا يُشقّ له غبار في شئون الظلام.
ويشير الكاتب إلى انه إذا كانت مدننا الشديدة الإضاءة تُعرّض صحّة الإنسان للخطر، فإن لتلك الإضاءة انعكاسات أكبر على عالم الحيوان. فـ 30 في المائة من الفقاريات وأكثر من 60 في المائة من اللافقاريات هي كائنات ليلية. والإضاءة الاصطناعية تؤثّر بشدّة على أنماط التزاوج والتربية والتغذية والهجرة عند تلك الحيوانات. وهناك قصص عن مئات الحيوانات التي تُقتل سنويا بسبب ارتطامها بالأسوار الاسمنتية نتيجة الارتباك والتشوّش الذي تسبّبه لها أضواء المدن.
ومن الحقائق العلمية المعروفة أن الكثير من أنواع الحيوانات الليلية تنشط عادة عند الفجر أو الغسق. وقد تطوّرت هذه الأنواع لتعتمد على الظلام. وعندما تغزو أضواؤنا الاصطناعية بيئتها، فيمكن أن تكون تلك الأضواء مدمّرة مثل جرّافة في وضح النهار.
ويقول المؤلّف إن ألمع شعاع على وجه الأرض يمكن العثور عليه في لاس فيغاس، وهو ينبعث من مزيج من تسعة أضواء ضخمة في كازينو الأقصر. وهذه الأضواء تمثّل شرَك موت حقيقيّ للفراشات وللحشرات الأخرى التي تنجذب إلى الأضواء المبهرة.
لكن تلك الأضواء هي أيضا مصدر دمار اكبر للخفافيش والطيور التي تتغذّى من هذا البوفيه الكبير والمضاء جيّدا. وما يحدث هو أن الأضواء تجذب هذه الكائنات من بيئتها الطبيعية البعيدة جدّا، لدرجة أن الطاقة التي تبذلها في الطيران من وإلى الكازينو لا تترك لها شيئا لإطعام ورعاية صغارها.
وما يحزن المؤلّف هو أن الكثير من الضوء يُفقد بعض الحيوانات صوابها ويحرف دورات الطبيعة ويدمّر صحّة الإنسان.

❉ ❉ ❉

تاريخيّا، كانت الحكومات تشجّع الضوء، لأن السيطرة على مدينة مضاءة جيّدا يصبح مهمّة سهلة. كان الضوء يعادل سلطة الدولة. وفي عصر لويس الرابع عشر ملك فرنسا، صدر مرسوم يقضي بأن تُعلّق الشموع في الشوارع. وكانت تلك وسيلة لإثبات قوّته ومقدرته على إبعاد الظلام. وفي السنوات التي سبقت الثورة الفرنسية، كان العديد من الباريسيين يرون في إنارة الشوارع العامّة رمزا للطغيان. وكان تحطيم مصابيح الزيت عملا مألوفا ومتكرّرا آنذاك.
لكن اليوم أصبحت العديد من الدول تبذل جهودا حثيثة للسيطرة على التلوّث الضوئي. فرنسا، مثلا، والتي تُسمّى عاصمتها "مدينة النور"، أصدرت حكومتها مرسوما يُلزم المباني العامّة والمحلات التجارية بإطفاء أنوارها ما بين الساعة الواحدة والسابعة صباحا في محاولة للحفاظ على الطاقة وخفض التكاليف والحدّ من آثار الإضاءة الاصطناعية على البيئة الليلية.
كما كانت جمهورية التشيك من أوائل الدول التي سنّت قوانين لمكافحة التلوث الضوئي في البلاد. وفي المكسيك أعلن تحالف يضمّ عددا من المنظمّات الشعبية أن السماء الليلية المظلمة هي جزء من التراث الثقافي للبلاد وألزم البرلمان بسنّ قانون يقضي بتنظيم الإضاءة خارج البيوت ليلا.
للحديث بقيّة غداً..