الجمعة، مايو 17، 2024

الإنسان والأسد


يُحكى أن رجلا كان يسير في غابة. وتصادف أن التقى بأسد كان ذاهبا في نفس الاتّجاه، وقرّر الاثنان أن يتصاحبا. وعلى طول الطريق تحدّثا في أشياء كثيرة رأياها. لكن بعد مرور بعض الوقت، اتخذ الحديث منحى تنافسيّا.
كان كلّ من الرجل والأسد يعتقد أن نوعه متفوّق في العقل والقوّة على نوع الآخر. قال الرجل: نحن نستخدم الأدوات والأسلحة لجعل حياتنا أفضل، لذلك من الواضح أن البشر هم أذكى وأقوى المخلوقات". فأجاب الأسد: هذا هراء. أستطيع أن أشلّ حركة عشرة رجال في ثانية، فمخالبي وأسناني تثير الخوف في كلّ مكان."
واستمرّ جدال الاثنين على هذا النحو لبعض الوقت الى أن صادفا تمثالا ضخما. كان التمثال لرجل يشبه هرقل وهو يصارع أسدا. حدّقا في التمثال بصمت لفترة طويلة. ثم قال الرجل: لقد حُسم الأمر على ما يبدو. ألا ترى أن ملك الغاب يسيطر عليه الإنسان بالكامل؟ انظر جيّدا! إلى هذا الحدّ نحن أقوياء، ملك الوحوش يصبح طريّا هشّاً مثل الشمع في أيدينا!"
فردّ الأسد: هذا التمثال صنعه إنسان. ولو كان من صُنع أسد لحكى قصّة مختلفة."
تُساق هذه القصّة للتدليل على أن الحكم في أيّ أمر يعتمد كلّه على وجهة نظر من يروي القصّة، وأنه من المستحيل التوصّل إلى أيّ يقين من خلال قراءة الروايات المكتوبة من وجهة نظر أحادية.
البشر يصطادون الأسود ويصارعونها منذ القدم. وهم يفعلون هذا للتباهي، أي لإثارة إعجاب الآخرين بأهميّتهم وقوّتهم ورجولتهم. وأحيانا يصطادونها كرياضة وكجزء من التقاليد الثقافية، أو كوسيلة لحماية المستوطنات البشرية والماشية من خطرها.
وكان صيد الأسود رياضة الملوك والأباطرة من قديم الزمان. وأقدم سجلات عن هذه الرياضة تعود الى مملكة آشور، إذ كان الآشوريون يصطادون الأسود من داخل عربة أو سيرا على الأقدام باستخدام الأقواس أو الرماح. وكان الختم الملكيّ الآشوري يُظهر ملكا يذبح أسدا هائجا. وقد عُثر على أقدم تصوير لحاكم يصطاد الأسود محفورا على نصب تذكاري من البازلت في منطقة بلاد ما بين النهرين يعود تاريخه إلى ما قبل 3000 قبل الميلاد.
وكانت صور صيد الأسود الملكية تُرسم على الأشرطة البرونزية التي تزيّن البوّابات الأثرية وعلى المسلات الحجرية التي تسجّل إنجازات الملك وعلى ألواح الجدران المنحوتة التي تزيّن الغرف الداخلية للقصور الآشورية.
وقد وُجدت بعض أروع صور الصيد في قصر الملك آشور ناصربال الثاني (883-859 قبل الميلاد) في مدينة النمرود شمال العراق. وتُصوّر الملك وهو يصطاد الأسود والثيران البرّية من عربته، متبوعا بمشهد طقوسي حيث يسكب الملك قربانا من النبيذ على الحيوانات الميّتة ويوجّه خطابا إلى إله المدينة ليشكره، حتى لا تعود روح الأسد الشرّيرة وتطارده.
وبعد أكثر من 200 عام، أعاد آشور بانيبال إحياء عمليات صيد الأسود الملكية، وقام بتزيين قصره الشمالي في مدينة نينوى بنقوش منحوتة بشكل رائع تُظهر براعته كصيّاد شجاع. وقدّم بانيبال نفسه للعالم كحاكم بطل، مدعيّا أن الآلهة منحته قوّة ورجولة متميّزة. وكجزء من تدريبه العسكري، تعلّم قيادة العربات وركوب الخيول والرماية. وعلى عكس الحكّام الآشوريين السابقين، نادرا ما قاد آشور بانيبال قوّاته في حملات عسكرية.
وبدلاً من ذلك، أعلن عن براعته كمحارب، كما تعكسه سلسلة من ألواح المرمر المنحوتة في قصره والتي تُظهره وهو يصطاد الأسود. وهنا يصوّر كبطل بارع في الإثارة، حيث يذبح الأسود الشرسة على ظهور الخيل أو مشيا على الأقدام أو على ظهر عربة باستخدام مجموعة متنوّعة من الأسلحة.


النصوص الآشورية تسجّل كيف كانت الأسود تسدّ الطرقات وتضايق الرعاة من خلال مهاجمة الماشية في السهول. وكان من واجب الملك أو الحاكم تخليص أرضه من الحيوانات البرّية الخطرة. وقد انطلق آشور بانيبال إلى السهول في عربته الملكية لمواجهة سلالة جبلية شرسة من الأسود، لكنها حاصرته وهاجمته.
ومن خلال أداء دوره كصيّاد بطوليّ، يتفاخر آشور بانيبال كيف أنه بدّد كبرياء الأسود وقتل كلّا منها بسهم واحد لإعادة السلام إلى السهول. وبصفته الحاكم الذي اختارته العناية الإلهية لحماية آشور، كان من واجب الملك الحفاظ على النظام في العالم من خلال هزيمة "قوى الفوضى"، التي كانت تشمل الأعداء الأجانب والحيوانات البرّية الخطرة كالأسود وسواها.
ولطالما اعتقد الآشوريون أن عالمهم يجسّد قلب الحضارة وأن أعداءهم المتربّصين يكمنون في أطراف المملكة وعلى حدودها. وكانوا يظنّون أنه أينما حكَمَ الملك ساد السلام والرخاء، بينما تعاني الأراضي الخارجية من الفوضى.
ومن خلال صيد الأسود، وهي مخلوقات تعيش في المناطق النائية، أظهر آشور بانيبال كيف يمكنه بسط سيطرته على البرّية. وكانت عملية الصيد تلك، المليئة بالرمزية الطقوسية والدراما البطولية، وسيلة فعّالة للترويج لقدرة الملك باعتباره راعي الشعب وحامي الرعيّة.
الأعمال الفنّية التي تناولت صيد الأسود كثيرة، لكن أشهرها سلسلة من اللوحات الزيتية رسمها الفنّان الفرنسي اوجين ديلاكروا في منتصف القرن التاسع عشر.
وكثيرا ما كان هذا الفنّان يصوّر مشاهد الصيد وقتال الحيوانات فيما بينها في لوحاته. ومثل معظم الفنّانين الآخرين من العصر الرومانسي، كان ديلاكروا مفتونا بثقافات بلدان الشرق. وفي عام 1832، قام برحلة طويلة إلى المغرب كانت مصدر إلهام دائم له.
ورسم أثناء رحلته تلك لوحات يتقاتل فيها الأسود والنمور والصيّادون على ظهور الخيل حتى الموت. لكن من المرجّح أن ديلاكروا لم يسبق له أن رأى مثل هذه المشاهد عيانا، ولم يرَ حتى الحيوانات البرّية في بيئتها الطبيعية. وبدلاً من ذلك، استخدم دراسات تفصيلية للحيوانات التي رآها في حدائق الحيوان.
والرسّام الهولندي بيتر بول روبنز كلّف من قبل العديد من معارفه الأثرياء بتصوير بعض الكائنات البرّية والغريبة التي اصطادوها وامتلكوها أثناء غزوهم للأراضي والمستعمرات في أفريقيا والشرق.
المعروف أن صيد الحيوانات كان ما يزال غير قانوني بالنسبة لمعظم الناس في القرن السابع عشر، وكان مقتصرا على الحكّام والأثرياء. وكان لدى الأرستقراطيين، مثل أرشيدوق بروكسل، حديقة مليئة بالحيوانات، وكثيرا ما كان روبنز يذهب إليها لمراقبة الوحوش البرّية ورسمها.
وكانت أوروبّا آنذاك لا تزال تكتشف الأراضي والجزر البعيدة، لذا لم يكن الكثير من الناس قد شاهدوا مثل هذه المخلوقات عيانا من قبل، وكان روبنز يثير خيال الناظر بلوحاته الجامحة والمثيرة.
كانت صوره شائعة بين الرعاة الأثرياء وعامّة الناس، حيث صوّر هذه الحيوانات بكلّ مجدها الطبيعي في مقابل عقل الإنسان وبراعته. وكانت مثل هذه الصور أيضا علامة على المكانة، حيث يمكن للرعاة الموسرين إظهار أن لديهم المال والقوّة لاصطياد هذه الحيوانات وامتلاكها.
اليوم أصبح صيد الأسود موضوعا للجدل بعد أن أُدرج الأسد ضمن الأنواع المعرّضة للخطر من قبل الاتحاد الدولي للحفاظ على الطبيعة. وبعض الأنواع المنحدرة منه مصنّفة أيضا على أنها مهدّدة بالانقراض. ويعيش أقلّ من 20 ألفا من الأسود في براري العالم، أي أن عددها انخفض بنسبة 60% خلال العقدين الماضيين. ويرجع هذا الانخفاض بشكل أساسي إلى الصيد الجائر لها ولفرائسها وتدمير موائلها الطبيعية.


Credits
lionrecoveryfund.org