الاثنين، مايو 27، 2024

الفانتازيا وسيكولوجيا الهروب


في عالم مليء بالضغوط اليومية والمسؤوليات والشكوك، يلجأ الكثير من الناس إلى عالم الخيال كوسيلة للهروب من انشغالات الحياة. وسواءً كان ذلك من خلال الأدب أو الأفلام أو ألعاب الفيديو أو غيرها من أشكال الترفيه، فإن جاذبية الدخول إلى عالم مختلف، حتى لو كان ذلك مؤقّتا، لا يمكن إنكارها أو التقليل منها.
هذه الظاهرة المعروفة باسم الهروبية escapism، هي جزء متأصّل من علم النفس البشري. ولكن ماذا يحدث عندما نغوص في هذه العوالم الخيالية؟ كيف يؤثّر التعامل مع الخيال على إدراكنا للواقع وقدرتنا على مواجهة تحدّيات العالم الحقيقي؟
يوفّر الهروب ملاذاً آمناً من تجارب ومحن العالم الحقيقي. فهو يسمح للأفراد بالانفصال مؤقّتا عن مشاكلهم وهمومهم، ما يوفّر لهم فترة راحة هم في أمسّ الحاجة إليها. هذا الهروب المؤقت إلى عالم الخيال يمكن أن يكون بمثابة شكل من أشكال الرعاية الذاتية أو الإجازة الذهنية.
وعندما نغمر أنفسنا في هذه الحقائق البديلة، فإننا غالبا ما نكتسب شعورا بالدهشة والإثارة والفضول الذي يمكن أن يساعدنا على إعادة ضبط أنفسنا وتجديد حياتنا. وبهذا المعنى، فإن التعامل مع عوالم الخيال يمكن أن يكون له تأثير علاجيّ مفيد لصحّتنا النفسية والعقلية.
وأحد الجوانب الرائعة للهروب هو قدرته على إثارة استجابات عاطفية عميقة. فعندما نتابع رحلات الشخصيات المعقّدة في أماكن خيالية، نصبح منغمسين عاطفيّا في صراعاتهم وانتصاراتهم وعلاقاتهم. ويمكن أن يؤدّي هذا الارتباط العاطفي إلى التنفيس والتطهّر، ما يسمح لنا بمعالجة وتحرير المشاعر المكبوتة من حياتنا.
وعلاوة على ذلك، يمكن للهروب من الواقع أن يعزّز التعاطف من خلال غمرنا في حياة وتجارب شخصيات من خلفيات وظروف متنوّعة. ويمكن لهذا التعاطف أن يمتدّ إلى ما هو أبعد من عالم الخيال، ما يؤثّر على تفاعلاتنا ومواقفنا في العالم الحقيقي.
ومع ذلك، هناك خيط رفيع بين الهروب الصحّي والانفصال المفرط عن الواقع. فالإفراط في الانغماس في الخيال يمكن أن يؤدّي إلى سلوك التجنّب، حيث يهمل الأفراد مسؤولياتهم وعلاقاتهم في العالم الحقيقي. ومن الضروري تحقيق التوازن بين الهروب إلى الخيال ومواجهة تحدّيات الحياة بشكل مباشر.
علاوة على ذلك، لا يمكن الاستهانة بتأثير الخيال على تصوّراتنا للواقع. ويمكنه تشكيل معتقداتنا وقيمنا وتطلّعاتنا وإلهامنا الدروس المستفادة من هذه العوالم الخيالية على حياتنا. وهكذا فإن فهم سيكولوجية الهروب ليس أمرا محبّذا فحسب، بل إنه أمر بالغ الأهميّة أيضا للحفاظ على وجود متوازن ومُرضٍ.
إن سيكولوجية الهروب هي شهادة على قدرة الإنسان على الإبداع والتعاطف والمرونة. ومن خلال الخوض في عوالم الخيال، فإننا نتنقّل في العلاقة المعقّدة بين أنفسنا الداخلية والعالم الخارجي. وعندما يتمّ التعامل مع الهروب من الواقع بشكل مدروس وباعتدال، فإنه يمكن أن يوفّر العزاء الذي نحتاج إليه والتحرّر العاطفي والنموّ الشخصي.
إنه يذكّرنا أنه على الرغم من أن الواقع قد يكون مليئا بالتحدّيات، إلا أن الخيال يمكن أن يوفّر ملاذا قيّما يرشدنا إلى الخروج من مغامراتنا الخيالية بحكمة مكتشفة حديثا ومنظور متجدّد للعالم من حولنا.
إن الناس يحبّون روايات وأفلام الفانتازيا لعدّة أسباب. فهي أوّلا تقدّم عوالم غنيّة ومفصّلة وشخصيات مقنعة وقصصا ملحمية عن الخير والشرّ. كما ان لها صورها المذهلة وموسيقاها ومؤثّراتها الخاصّة والرائعة. وبالإضافة إلى ذلك، يقدّر العديد من المعجبين بها موضوعات الصداقة والشجاعة والتضحية التي تتضمّنها. كما أن الأفلام تبثّ الحياة في كتب الكتّاب المفضّلين بجلبها إلى الشاشة الكبيرة.


القصّة الفانتازية ليست مجرّد بحث او كشف، فلها بعد روحيّ أيضا. قصّة غلادريل في "سيّد الخواتم"، مثلا، هي إشارة إلى القصّة الدينية عن الابن الضّال. والابنة الضالّة ستعود أخيرا إلى المنزل وتلتقي بأبيها فينارفين بعد سبعة آلاف عام من المنفى. وماذا يكون سورون غير الشيطان مجسّدا؟
قصّة "سيّد الخواتم" تقدّم للجمهور هروبا من كلّ ما قد يحدث لهم في حياتهم. وهذا هو السبب الأوّل لشعبية القصّة. والسبب الثاني هو الاحتمالات التي يقترحها. وسواءً كان أراغورن الذي يصبح ملكا ويتزوّج من حبيبته أروين، أو سام الذي يجد الثقة والسعادة أخيرا، فإن هذه القصّة تشير إلى أن هناك طريقة أفضل ليعيش المرء حياته.
والأمر لا يتعلّق فقط بخوض مغامرات خيالية، على الرغم من أنها محبّبة، بل بمن تذهب معه في تلك المغامرات وما الذي يمكن أن تتعلّمه منهم.
هناك فكرة مؤدّاها أن البشر لا يشعرون أبدا بالرضا عمّا يمكنهم الحصول عليه. فنحن نريد المزيد. وعالم الخيال، كونه بلا حدود، يمنحنا ما هو أبعد من الواقع وأحيانا يتجاوز خيالنا. إننا ننبهر وتثير فضولنا الأشياء الجديدة ونعيش للحظة في الوهم الذي يجعلنا سعداء.
إننا كبشر نستطيع أن نفعل الكثير، لكننا لا ندرك ذلك، لأنه في العالم الحقيقي لدينا حدودنا الجسدية والعقلية. لكن عالم الفانتازيا يحرضنا على دفع تلك الحدود وتوسيعها.
لكن هناك من ينفر من الروايات الخيالية باعتبارها هروبا غير أخلاقيّ أو تراجعا كسولا أو إلهاءً ضارّا، بدلا من مواجهة تحدّيات العالم الحقيقي. لكن الحقيقة هي عكس هذا، فالناس يحتاجون إلى الهروب إلى أحلام اليقظة بين الحين والآخر. ومن الصحّي أن نأخذ استراحة قصيرة من الواقع لاستكشاف شيء آخر.
إن الروايات الخيالية هي رحلة قصيرة بعيدا عن سجن النماذج الضريبية والتسوّق من البقالة وإصلاح السيّارة وآلاف الأمور التافهة المملّة الأخرى. إنها تنعش القارئ لبضع ساعات وتعزّزه حتى يتمكّن بعد ذلك من الاستمرار في العالم المملّ.
ويمكن لأدب وأفلام الفانتازيا أن تقدّم إحساسا بالدهشة وأن تُلهم الإبداع وتثير الخيال، وأيضا أن تستكشف موضوعات عالمية، مثل الخير مقابل الشرّ ورحلة البطل وقوّة الخيال، والتي يمكن أن يتردّد صداها لدى الجمهور على مستوى عاطفي عميق. كما يمكن أن تكون مشاهدة أفلام الفانتازيا وسيلة للناس لتجربة الرهبة والإثارة والشعور بإمكانية تجاوز قيود الحياة اليومية.
ومن المآخذ الأخرى لمنتقدي هذا النوع من الأدب والأفلام أن الانغماس في قصصه يمكن أن يحوّل تركيز الشخص إلى أمور أقلّ إنتاجية. كما أنه يُغري المتلقّين بتجنّب حقائق الحياة من خلال تأجيل مسؤوليات العالم الحقيقي والتهرّب من القضايا الشخصية المهمّة. وبالنسبة لهؤلاء المنتقدين، فإن الخيال يعادل أحلام اليقظة والحنين عديمة الفائدة.
وبينما يقرّ آخرون بأن الخيال قد يشجّع على التهرّب من مشاكل الحياة الحقيقية، فإنهم يرون أن الهروب أو الانفصال عن متطلّبات الواقع يمكن أن يسهم في بناء مهارات لحلّ المشكلات، ويشجّع القراء على تخيّل أنفسهم في أدوار وسيناريوهات مختلفة ومتابعة قرارات وإجراءات بديلة. كما يرى هؤلاء أن القدرة على التخيّل هي آلية للبقاء، وأن التخيّل نفسه هو نشاط إنساني ضروري لخلق التوازن في حياة الفرد.
ويقول بعض العلماء إن التناقض والقطبية متأصّلان في بنية الدماغ الإنساني، فأحد نصفي الدماغ عقلاني معرفي تحليلي، بينما الآخر غير عقلاني وغير لفظي وحدسي. ونحن بحاجة إلى كلا الجزأين للحفاظ على التوازن داخل رؤوسنا. وقراءة ومشاهدة قصص الفانتازيا يمكن أن تُنتج هذا التوازن العقليّ المطلوب.
إن الحلم، واستطرادا الخيال، هو آلية أخرى لبقاء الإنسان على قيد الحياة. وقد أثبتت الدراسات العلمية أهميّته للصحّة العقلية. والدخول في حالة الحلم بشكل منتظم ينعش العقل ليتمكّن من التكيّف مع متطلّبات يوم جديد.
وفي تجارب الحرمان من الأحلام، حيث يتمّ حرمان الأشخاص من نوم مرحلة الأحلام، يحدث التدهور العقليّ بسرعة. ولذلك فإن الخيال مهمّ للصحّة العقلية، وخاصّة بالنسبة للقارئ الشاب. إنه يوفّر له هروبا مؤقتا وإطلاق سراح. كما يساعد على زيادة القدرة على حلّ مشاكل الحياة والصراعات العاطفية.
ونختم بكلام منسوب الى الكاتب جون توكين. يقول: الخيال مزيج مثالي من الإلهام المستمدّ من الواقع الممزوج بالخيال. إن فكرة تشغيل عقلي في كلّ اتجاه تعجبني، فهي تتيح لي معرفة حدودي ورغباتي. وحتى لو تحقّقت تلك الرغبات في الخيال، فإن ذلك يجعلني أشعر بالسعادة والرضا."

Credits
tolkiensociety.org
sparknotes.com