الاثنين، يوليو 22، 2024

أغاني طاغور


ذات ليلة، رأى أحد مُلّاك الأراضي الهنود في المنام ثلاث عشرة نخلة متساوية الطول، وقد نمت كلّها في مكان ظليل، بينما كانت الشمس تشرق على مكان آخر مليء بالأعشاب الخضراء. وبينما كان الرجل يتأمّل المنطقة المغمورة بضوء الشمس، رأى نخلة جديدة تنمو في الأرض وتتطاول ثم تطرح ثمرا مختلفا أنواعه، بينما أناس كثيرون يتحلّقون حول النخلة ويأخذون من ثمارها العجيبة.
ولما استيقظ الرجل من حلمه ذهب إلى أحد الكهنة كي يفسّر له الحلم. فقال له: النخلات الـ 13 هي مجموع بناتك وأبنائك، وأمّا النخلة الـ 14 التي نمت في بقعة مشرقة فمولود ستُرزق به قريبا وسيكون له شأن عظيم. ولكن إيّاك أن تضعه في البقعة البعيدة عن النور، أي في نفس مسار الحياة الذي تضع فيه أبناءك الآخرين. ولا تعلّم ابنك القادم الفلاحة وجني المحاصيل كبقيّة أولادك، بل إهتمّ بتعليمه وتثقيفه لأنه سيكون متميّزا كثيرا وسيستفيد من علمه وأدبه خلق كثير. ولا تحدّث أحدا بحلمك هذا مخافة الحسد، كما تعلم".
وبعد سنوات، أخبر الرجل ابنه رابندرانات طاغور بذلك الحلم بعد أن كبر. وظلّ طاغور يتفاءل بالرقم 14 طوال حياته. وألّف أوّل قصيدة له وهو في سنّ الـ 14. كما كان يحتفظ بقفص فيه 14 طائرا من طيور الزينة. وكان من عادته أن يفتح لها باب القفص كلّ صباح، فتطير وتحلّق في السماء بضع دقائق ثم تعود إليه طائعة.
كان تأثير رابندرانات طاغور (1861-1941) على عقل الهند وأجيالها الصاعدة المتعاقبة هائلاً. ولم تكن اللغة البنغالية فقط، أي اللغة التي كان يكتب بها، بل إن جميع اللغات الحديثة في الهند آنذاك قد تشكّلت جزئياً من خلال كتاباته.
ولم تقتصر مسيرته المهنية التي امتدّت لأكثر من 60 عاماً على توثيق نموّه الشخصي وتنوّعه فحسب، بل عكست أيضاً التقلّبات الفنّية والثقافية والسياسية التي شهدتها الهند في أواخر القرن التاسع عشر والنصف الأوّل من القرن العشرين.
كانت البيئة الفنّية التي عاش فيها طاغور وجمال الطبيعة والشخصية الوقورة لوالده من بين المؤثّرات الأولى التي شكّلت حساسيّته الشعرية. في كتابه "حياتي" يتذكّر الشاعر بداياته الأولى فيقول: كان أغلب أفراد عائلتي يتمتّعون بموهبة ما، بعضهم كانوا رسّامين وبعضهم شعراء وبعضهم موسيقيين. وكانت الأجواء في منزلنا مشبعة بروح الإبداع".
وفي نفس الكتاب يتحدّث طاغور عن الطبيعة، مَدرسته المفضّلة، فيقول: كان لديّ إحساس عميق منذ الطفولة بجمال الطبيعة وبالرفقة مع الأشجار والسحب وبالتناغم مع اللمسة الموسيقية لهواء الفصول. وكلّ هذه العناصر كانت تتوق إلى التعبير، وبطبيعة الحال كنت أرغب في منحها تعبيري الخاص".
في صغره ذهب طاغور مع عائلته الى دالهوزي، وهو منتجع جميل يقع في سفوح جبال الهيمالايا. كان يتجوّل هناك بحريّة من قمّة جبل إلى أخرى، وقد أذهله جمال وعظمة الجبال. وخلال فترة إقامته في تلك البقعة، تولّى والده تعليمه وقرأ معه مختارات من الأدب السنسكريتي والبنغالي والإنغليزي. ويقال إن ذكرى تلك الرحلة الساحرة ظلّت مرافقة لحياة رابندراناث وحافزاً لإعادة تمثيل تلك التجربة النموذجية.
في ديوانه "أغاني الصباح"، يحتفل طاغور بفرحه باكتشاف العالم من حوله. كان المزاج الجديد نتيجة تجربة صوفية مرّ بها أثناء نظره إلى شروق الشمس ذات يوم. يقول: بينما واصلت النظر، بدا فجأة أن حجابا سقط عن عينيّ ووجدت العالم غارقا في إشراق رائع، مع موجات من الجمال والفرح تتضخّم على كلّ جانب. اخترق هذا الإشراق في لحظة واحدة طيّاتِ الحزن واليأس التي تراكمت على قلبي وغمرته بفيض من النور الكوني".
كان نشر ديوان "جيتانجالي"، أو قرابين الأغاني، الحدث الأكثر أهميّة في مسيرة طاغور في الكتابة، لأنه بعد ظهوره، فاز بجائزة نوبل في الأدب عام 1913، وهو أوّل تقدير من هذا القبيل لكاتب شرقي. وقد كتب الديوان بعد فترة قصيرة من وفاة زوجته وابنتيه وابنه الأصغر ووالده.
يقول ابنه راثيندراناث واصفا ما حدث: ظلّ والدي هادئا ولم يزعج سلامه الداخلي أيّ كارثة مهما كانت مؤلمة. لقد منحه فقدُ أقاربه قوّةً خارقة لمقاومة المصائب الأكثر إيلاما والسموّ فوقها". كانت قصائد ذلك الديوان بمثابة بحث الشاعر عن السلام الداخلي وإعادة تأكيد إيمانه من خلال تنقية الذات وخدمة الإنسانية.


في مقدّمته لديوان جيتانجالي، كتب الشاعر الإنغليزي وليام بتلر ييتس: لقد حملتُ مخطوطة هذه الديوان معي لأيّام، قرأتها في قطارات السكك الحديدية وفي الحافلات وفي المطاعم، وكثيراً ما اضطررت إلى إغلاقها خشية أن يرى شخص غريب كيف أثّرت فيّ". أما الشاعر إيزرا باوند فقد وصف الكتاب بأنه "سلسلة من الأغاني الروحية" وقارنه بجنّة دانتي واعتبره عمل طاغور الأكثر تميّزا.
تقول إحدى قصائد الديوان:
أنت! مَن تعبُد في هذه الزاوية المظلمة المنعزلة من المعبد حيث الأبواب مغلقة؟ اترك هذا الهتاف والغناء وقراءة الودع. وافتح عينيك لترى أن إلهك ليس أمامك. إنه هناك حيث يزرع الفلاح الأرض الخشنة وحيث يكسر صانع الطريق الحجارة. إنه معهم في الشمس والمطر وثوبه مغطّى بالتراب. انزع رداءك المقدّس وانزل مثلهم على التربة المغبرّة. اخرجوا من تأمّلاتكم واتركوا أزهاركم وبخوركم جانبا. ما الضرر إذا أصبحت ملابسكم ممزّقة وملطّخة؟ عندما كان الخلق جديدا وأشرقت جميع النجوم في روعتها الأولى، عقدَ الآلهة اجتماعهم في السماء وغنّوا لصورة الكمال وللفرح الخالص".
ويضيف: مثل سحابة من شهر يوليو معلّقة بثقلها من الأمطار التي لم تهطل بعد، دع عقلي يا إلهي ينحني عند بابك تحيّة لك. دع كلّ أغانيّي تجمع نغماتها المتنوّعة في تيّار واحد وتتدفّق إلى بحر من الصمت تحيّة لك. ومثل قطيع من طيور الحنين التي تحلّق ليلا ونهارا عائدة إلى أعشاشها الجبلية، دع حياتي كلّها تأخذ رحلتها إلى موطنها الأبديّ تحيّة لك."
في أعقاب الجدل العام الذي بدأ بين المهاتما غاندي وطاغور في عام 1921 بسبب معارضة الشاعر لحركة اللاعنف التي قادها غاندي، عانت شعبية طاغور من انحدار حادّ ووجد نفسه معزولاً علناً بشكل متزايد. لكنه فيما بعد استعاد جزءا مهمّا من شعبيته بعد تأليفه لكلمات النشيد الوطني الهندي، والذي يُعدّ إحدى مساهماته العديدة البارزة.
ورغم أن طاغور كان شخصية مهمّة في الحركة القومية الهندية وغالبا ما كان ينتقد الحكم الاستعماري البريطاني، إلا أن أيديولوجيته السياسية كانت معقّدة وذات تفاصيل دقيقة ومتفرّعة. لكنه مثل غاندي، كان يقف ضدّ نظام الطبقات الهندي الذي كرّس مفهوم طبقة المنبوذين.
وفي قصائده وأغانيه ومسرحياته ورواياته وأغانيه، كان دائما يقف في صفّ الفقراء والعاجزين والمضطهدين. كما أراد تحرير العقل البشري من كلّ أنواع الأفكار الشرّيرة والمعتقدات الخاطئة.
أملى طاغور قصيدته الأخيرة قبل ساعات قليلة من وفاته في السابع من أغسطس عام 1941. ونشرت الصحف الرئيسية في العالم بيانات نعي أشادت به ووصفته بأنه "روح البنغال" و"أعظم أديب في الهند" و"سفير الصداقة بين الشرق والغرب".
بالإضافة الى الشعر، كان طاغور رسّاما. لكنّه لم يمارس الرسم الا بعد أن تجاوز الستّين من عمره. وقد أدهش الكثيرين بتحوّله المتأخّر إلى الرسم. في ذلك الوقت بدأ يُرفق بعض أشعاره برسومات، بعضها له هو شخصيّا، والبعض الآخر رسم فيها رجالا ونساءً كان يعرفهم.
وكان هو أوّل رسّام هندي يعرض أعماله في أوروبّا وروسيا وأمريكا. كان أسلوبه في الرسم يتميّز بأشكال حرّة بسيطة ونوعية إيقاعية. وقد رسم الوجه الإنساني بطريقة تذكّر بالقناع أو الشخصية. كانت رسوماته غير مخطّط لها، بل تشكّلت من خلال الصُدف والقرارات الحدسية.
وبعضها كانت عبارة عن صور لحيوانات وطيور وصفها طاغور بأنها "أضاعت فرصة وجودها دون سبب وجيه" أو "لم تتمكّن من التحليق إلا في أحلامنا". وكان كثيرا ما يستمتع بإسقاط إيماءة بشرية على جسد حيوان أو العكس.
وفي لوحاته للطبيعة، غالبا ما كان يصورّها مغمورةً بأنوار المساء مع سماء لامعة وأشكال تتوارى في ظلال مشؤومة، ما يثير هالة من الغموض والصمت المزعج. ومن الملاحظ أن طاغور لم يطلق أسماءً على لوحاته، على الأرجح كي يحرّرها من أيّ ارتباط أدبي ويشجّع المتلقّي على استنباط فهمه الخاص لمعانيها.
من أشهر اقتباسات طاغور وصفُه لتاج محل بأنه "مثل دمعة على وجه الأبدية"، و"عندما أرحل من هنا دعني أقل لك كلمة وداع: إن ما رأيتُه لا يُضاهى"، و"الإيمان هو الطائر الذي يشعر بالضوء عندما يكون الفجر ما يزال مظلماً".
وأفضل ختام للموضوع قصيدة أخرى لطاغور يقول فيها:
أنفقتُ الكثير من المال لأرى العالم
فتجوّلت في العديد من البلدان
وقطعتُ البحار والمحيطات
لكن لم أفطن ابداً
لقطرة الندى المتألّقة
فوق سنبلة القمح
أمام عتبة داري."

Credits
scotstagore.org