الأحد، أكتوبر 20، 2024

خواطر في الأدب والفن


  • تحتار في معرفة هل هذه اللوحة حياة ساكنة أم صورة مجزّأة. هل تتحوّل القدم إلى حذاء أم العكس، أم يتحوّل جسم الإنسان إلى مجرّد شيء، أو أن الحذاء يتحوّل في نهاية المطاف إلى إنسان بسبب كثرة ارتدائه؟!
    الرسّام لا يضع صورتي القدم والحذاء منفصلتين وجنبا إلى جنب، بل يدمجهما بطريقة هجينة، أي بتحويل واقع لآخر. وأحد التفسيرات الأكثر شيوعا للوحة هو أن أكثر الأشياء وحشيةً يمكن أن تصبح مقبولة بقوّة العادة. تشعر وانت تتأمّل اللوحة بأن التحام قدم الانسان بالحذاء الجلدي ينشأ في الواقع من عادة وحشية.
    وبحسب بعض النقّاد، تثير مشكلة الحذاء مسألة القدم وطبيعة الإنسان والقوّة المنفّرة للأعراف الاجتماعية. قد يبدو الحذاء للوهلة الأولى أكثر المنتجات تعرّضا للضرر، لكن وحشيته تتّضح من حقيقة أن قوّة العادة حوّلته إلى شيء طبيعي ولم يعد من الممكن إدراك خطورته. فالحذاء ليس مجرّد وسيلة حماية، بل هو أيضاً سجن لاإنساني، فهو يفرض توحيد حركة أصابع القدم الخمسة في حركة اجبارية واحدة ويضع فاصلاً أبدياً بيننا وبين الأرض التي نسير عليها.
    ومثل كلّ مبدعي الفنّ الخيالي، يعرف الرسّام رينيه ماغريت أن تمثيل غير الواقعي يكون أقوى عندما يبدو رمزيّا أكثر. وقد رسم سلسلة لوحات "العارضة الحمراء" ابتداءً من عام 1935. وربّما يتوافق اللون الأحمر في عنوان اللوحات مع محاولة ماغريت الثورية خلق لغز حقيقي من شيئين تقليديين واعتياديين، هما في هذه الحالة القدمان والأحذية.
    لكن ماغريت يقدّم لنا أيضا في هذه اللوحة تعريفاً جديداً للإزعاج، حيث تتضمّن الصورة أفكاراً متعدّدة حول معنى أن تكون غريباً ومزعجاً في نفس الوقت. فعود الثقاب والعملات المعدنية المتناثرة على الأرض تمنحنا إحساساً بأن شخصاً ما كان هنا، ولم يعد موجوداً لأسباب ربّما تكون مزعجة. كما أن قصاصة الصحيفة الممزّقة والمهترئة تأخذ شكل امرأة واقفة في وضع غريب، وليس من الواضح مدى ارتباطها بالمشهد.
    الأحذية هي أحد الأشياء التي تميّزنا عن الحيوانات، وبالنسبة للعديد من الناس، فإنها تساعد في تحديد هويّتنا. والحذاء والقدم في الصورة لا يقدّمان تلميحا يساعد على فهم ما يجري. فهل اختفى الشخص ولم يبق منه سوى حذاؤه؟ وهل حلّ الحذاء محلّ الشخص، وكلّ ما تبقّى الآن هو القدم؟ وهل استُبدل الحذاء بالشخص؟
    ربّما حدث أمر خطير، ولا يقتصر الأمر على الأحذية، بل ترَك الشخص وراءه أشياء. وهناك شعور قويّ بأنه لم يعد موجودا هنا، وقد غادر بسرعة كافية لإسقاط الأشياء التي كان يحملها. ولكن أكثر من ذلك فقد ترك وراءه جزءا من نفسه. والآن كلّ ما تبقّى هو أحذيته وبقايا إنسانيته. والأمر لا يتعلّق فقط بأننا تركنا أحذيتنا خلفنا، بل يبدو أن ماغريت يقول إن أحذيتنا هي نحن وأننا تُركنا خلفنا!
    كان ماغريت يفضّل الارتباطات المدروسة بشكل صحيح باللقاءات غير المتوقّعة التي ينادي بها السرياليون. ولتحقيق هذه الغاية، كان يحبّ أن يبتكر "مشكلات" للأشياء اليومية، من خلال زوج من الأحذية. وبدا التحوّل التدريجي للقدم إلى حذاء واضحا جدّا لماغريت، لدرجة أنه صنع سبع نسخ متقاربة من هذه اللوحة. والتصوير الدقيق للأشياء واللحم البشري يضيفان إلى غرابة هذا العمل الذي يبدو طريفا ومخيفا في آن.
    في تلك الفترة من حياته الفنّية، أصبح اكتشاف وتصوير هذا "التقارب الاختياري" الخفيّ بين اشياء غير ذات صلة ظاهريّا الغرضَ الدائم لفنّ ماغريت. وساعده هذا في رسم بعض أعظم لوحاته. فقد حلّ "مشكلة الطائر" من خلال تصوير بيضة في قفص، وحلّ "مشكلة الباب" من خلال رسم ثقب لا شكل له محفور فيه.. وهكذا.
    ذات مرّة كتب ناقد يقول: كان ماغريت يحبّ مواجهة الناظر بشيء غير مفهوم ولكنه مصوّر بطريقة واقعية مخادعة. ويبدو السياج الخشبي في هذه اللوحة عاديّا تماما، لكن الأحذية ليست كذلك. وعادةً ما يساعد العنوان في تقريب المعنى إذا كانت الصورة محيّرة، ولكن ليس هنا. فـ "العارضة الحمراء" تثير المزيد من الأسئلة، عارضة ماذا أو من؟ وحمراء؟!
    طوال حياته، كان ماغريت يرفض تفسير وتحليل صوره، مدّعيا أن فنّه يعكس ببساطة الغموض الكامن في العالم. وكتب إلى أحد أصدقائه يوماً يقول معلّقا على صورة القدم والحذاء هذه: إنه لأمر مرعب أن نرى ما يتعرّض له المرء عندما يصنع صورة بريئة".
  • ❉ ❉ ❉


    ❉ ❉ ❉

  • في كتاباته، يعبّر الشاعر الآذاري نظامي، وبشكل متواتر، عن تعاطفه الشديد مع الحيوانات. ويبدو أن هذا نابع من حبّه واحترامه لكلّ مخلوق، مع أنه لم يكن نباتيّاً مثل المعرّي الذي امتنع حتى عن تناول العسل باعتباره سرقة لحصيلة النحل.
    لكن ربّما كان نظامي يشاطر الفيلسوف الأندلسي ابن طفيل (القرن 11) وجهة نظره القائلة بأن الإنسان لا ينبغي له أن يقتل الحيوانات إلا إذا كان ذلك ضرورياً للحفاظ على حياته. كما أنه، أي نظامي، يعزو صفات أسطورية خاصّة إلى بعض الحيوانات ويعطي بعداً ميتافيزيقيا لعلاقة الإنسان بالحيوان يتجاوز الواقع إلى عالم السحر والحكايات الخرافية.
    واهتمام نظامي بالحيوانات واضح في كتابه "ليلى والمجنون"، إذ يتدخّل المجنون عندما يوشك صيّاد على قتل غزال لأنها تذكّره بحبيبته ليلى. كما يبدأ في العيش مع الحيوانات البريّة التي تحبّه وتُسالمه كما تسالم فرائسها الأخرى. وتُظهر هذه القصص رغبة نظامي في تصوير شخصية المجنون كنموذج للّاعنف.
    ويبدو أن هذا الدافع لحبّ الحيوانات يعود في الأصل إلى ملحمة أورفيوس، الموسيقيّ الذي كان يفتن الحيوانات والكائنات بألحانه. كما يعود إلى قصّة العهد القديم عن مملكة السلام التي يتعايش فيها البشر والحيوانات جنبا الى جنب بسلام.
    ثم يقدّم نظامي درسا في الإحساس بالعرفان بالجميل من قبل حيوان، عندما يتحدّث عن ملك يُدعى بهرام، يطارد في شبابه أنثى حمار وحشي، فتقوده إلى مدخل كهف يحرسه تنّين ضخم. ويدرك بهرام أن التنّين قد ابتلع ابن أنثى الحمار وأنها قادته إلى هناك كي ينقذ طفلها. وهنا يقتل بهرام التنّين ويطلق سراح المهر الذي كان ما يزال حيّا في بطن الوحش. ثم تقوده أنثى الحمار الوحشي بعد ذلك إلى داخل الكهف، حيث يجد كنزا ضخما مخبّأ في جِرار كثيرة. ثم يأمر بهرام بتحميل ذلك الكنز على الدواب لتقديمه كهدايا.
    كما يتحدّث نظامي كثيرا عن الحجارة الثمينة. وهي تظهر في الاستعارات والمقارنات لوصف الجمال. مثلا، في آخر وأطول مثنوي له في ديوانه "إسكندر نامه" أو كتاب الاسكندر، يورد حكاية عن الاسكندر المقدوني أثناء غزوه لبلاد فارس.
    فالإسكندر، الذي يُصوّر على أنه موحّد صارم، يدمّر الأضرحة والمعابد الوثنية "والإشارة هنا للزرادشتية والبوذية". وفي معبد في قندهار يوشك الاسكندر على تدمير تمثال ذهبي لبوذا للحصول على جوهرتين ثمينتين ونادرتين مثبّتتين في عينيه.
    لكن تظهر له فجأة فتاة صغيرة وتخبره بقصّة الجوهرتين. فقد أحضرهما ذات يوم طائران من جهة الصحراء. وأثارت الجوهرتان جشع بعض العظماء عندما رأوها. وبعد صراعات داخلية كثيرة فيما بينهم، اتفق هؤلاء على صنع تمثال ذهبي لبوذا واستخدام الجوهرتين لعينيه.
    وتكيل الفتاة إطراءً مبالغا فيه للإسكندر باعتباره السماء والشمس. ويكتب نظامي شعرا على لسان الفتاة تقول فيه: جوهرة جلبتها طيور السماء لن ترغب السماء في استعادتها. إن كلّ عين تتلقّى نورها من الشمس، فكيف ينبغي للشمس أن تسرق العيون. والسراج الذي يُفرح العميان لا ينبغي أن يطفئه البصير".
    كان كلام الفتاة موجّها الى "الشمس"، أي الاسكندر، وكأنها تتوسّل إليه بألا يهدم التمثال وألا يأخذ الجوهرتين. وقد تأثّر بشعرها وقرّر العدول عن رأيه واكتفى بنقش اسمه على التمثال ووضعه تحت حمايته الشخصية. والدرس الذي يقدّمه نظامي من إيراده القصّة هو أن العقل يمكن أن يجعل الأقوياء يتغلّبون على أنانيتهم ويمتنعون عن العنف والجشع.
  • ❉ ❉ ❉

  • في قديم الزمان، كان يعيش ملك حكيم وعادل وكان شعبه محبّاً له. وكان للملك ابن وحيد، وقد علّمه المهارات والحكمة اللازمة كي يخلفه في الحكم. وسنةً بعد أخرى، نشأ الأمير وتدرّج في الوظائف وأصبح رجلا راشدا وقائدا رحيما يليق به المُلك.
    وذات يوم استدعى الملك ابنه الأمير. وعندما دخل وجد والده مستلقيا على سريره وقد أنهكه التعب. فقال الملك لابنه: لقد تقدّم بي العمر كثيرا وبالكاد أستطيع الآن أن أتدبّر شئون البلاد، والشعب بحاجة إلى زعيم شابّ ونشيط. وأنا أفكّر أن أتخفّف من المسئولية وأرتاح. لكني أريد أن أتأكّد أنك قادر على أن تدير البلاد بكفاءة زعيم حقيقي".
    فقال الأمير: لقد ربّيتني أحسن تربية ودرّبتني كأفضل ما يكون التدريب، فأتقنت فنون القتال وقدتُ جيش بلادنا بنجاح لسنوات. أفلا تعتقد يا أبي أنني مستعدّ للحكم بعدل ورويّة؟"
    ردّ الملك العجوز: أنا أعلم أنك قد تهيّأت بأفضل ما تستطيع لتصبح ملكا. لكن تلك ليست بالمهمّة السهلة. وقبل أن أقرّر تنصيبك خليفة لي، أريد أن أتأكّد أنك مستعدّ لذلك. لذا أطلب منك أن تذهب غدا إلى الغابة التي تقع عند الطرف الشرقي لمملكتنا. وستجد هناك حكيما عجوزا يقضي وقته في التأمّل. أخبره أنك الأمير واسأله ما إذا كنتَ مهيّأ الآن لتكون ملكا. فإذا ردّ بالإيجاب، فسأتوّجك ملكا فور عودتك".
    فوجئ الأمير بطلب والده الغريب، لكنه كان دائما يحترم حكمته وبعد نظره. لذا انطلق في اليوم التالي إلى الغابة. وبعد أن مشى طويلا، لمح الحكيمَ جالسا بين الأشجار. ولما انتبه الحكيم لوجوده طلب منه أن يشاركه عشاءه المتقشّف، ففعل. ولما انتهيا من الأكل، سأله الحكيم عن سبب مجيئه الى الغابة. فقال: لقد أراد والدي الملك العظيم أن أعرف ما إذا كنت قد أصبحت مهيّئا لخلافته. فهل يمكنك أن تساعدني في معرفة الجواب؟
    وفهم الحكيم الرسالة العميقة التي أراد الملك أن يوصلها. فقال للأمير: حسنا ستنام هنا الليلة. وفي صباح الغد، إستيقظ مبكّرا واذهب إلى الغابة، واقضِ اليوم كلّه هناك ثم عُد إليّ مع غروب الشمس". أثار طلب الحكيم حيرة الأمير. لكن يجب عليه أن يسايره على أيّ حال، فذهب لينام. وفي الصباح، استيقظ الأمير باكرا وذهب إلى الغابة، ثم عاد عند غروب الشمس، ووجد الحكيم غارقا في تأمّله فانتظره حتى انتهى.
    ولما فتح الحكيم عينيه سأل الأمير: أخبرني الآن ماذا لاحظتَ في الغابة؟". فكّر الأمير قليلا محاولا تذكّر ما رآه ثم قال: عندما وصلت الى هناك، سمعت نهرا عظيما، ثم سمعت شجرة كبيرة تسقط، ثم سمعت فيلا يسحب العشب ويأكل، ثم صادفت شلالا هادرا. وخلال عودتي كان هناك رعد وبرق".
    سمع الحكيم كلام الأمير وهو يبتسم، ثم قال له: من فضلك إذهب وأخبر والدك أنك غير مستعدّ بعد لتصبح ملكا. ثم عُد الى هنا بعد عام". أصاب الأمير الإحباطُ من كلام الحكيم، لكنه التزم الصمت وعاد إلى والده. وعندما نقل إليه الخبر، قال والده بهدوء: حسنا بعد عام عُد الى الحكيم وانتظر ما سيقوله لك".
    ومرّ عام انشغل الأمير خلاله بمساعدة والده في إدارة شئون المملكة. وفي نهاية العام ذهب لمقابلة الحكيم. وعندما وصل الى الغابة كرّر عليه الحكيم نفس الطلب: اذهب إلى الغابة غدا واقضِ يومك هناك. ثم عُد عند غروب الشمس وأخبرني بما لاحظته".
    وعند عودته، قال الأمير للحكيم: رأيت ثورا يبحث عن الطعام، وسمعت صوت جدول يتدفّق على منحدر صغير، ورأيت سنجابا يطارد آخر، ورأيت ابن آوى يندفع عائدا إلى مسكنه، ورأيت ثعبانا يزحف على العشب الجافّ باتجاه الجدول".
    ابتسم الحكيم وقال: لست مستعدّا بعد لأن تصبح ملكا. إذهب وتعالَ بعد عام". غضب الأمير ممّا سمع لكنه لم يقل شيئا. وعاد وسأل والده ما إذا كانت تلك مزحة، ملمّحا إلى احتمال أن يكون الحكيم قد أصابه الخرَف. فقال والده: ثق بي يا بني، أنا متأكّد ممّا يقوله ويفعله ذلك الرجل".
    هزّ الأمير رأسه وواصل أنشطته اليومية كالمعتاد. وكان يراقب والده وهو يتخذ القرارات المهمّة المتعلقة بالاقتصاد والزراعة والقضاء والضرائب والعلاقات مع الممالك المجاورة وغير ذلك من الأمور.
    ومرّ عام آخر. وللمرّة الثالثة، عاد الأمير إلى الغابة ليقابل الحكيم. وابتسم له الحكيم لمّا رآه وسأله: والآن هل أصبحتَ على دراية بما يجب عليك فعله؟" أومأ الأمير برأسه، وذهب مباشرة إلى الغابة.
    وعند عودته، قال الأمير للحكيم: اليوم، سمعت النمل يزحف، ورأيت النحل يطنّ، وشاهدت حلزونا ينزلق على العشب، ورأيت ورقة تسقط بهدوء من شجرة. وشممت الزهور التي كان لكلّ منها عطر مختلف، وشربت من مياه النهر، وسمعت الصمت بين ملايين الأصوات في الغابة".
    سمع الحكيم كلام الأمير وهو يبتسم ثم قال له: الآن أنت مستعدّ لأن تصبح ملكا. إذهب وأخبر والدك أن يرتّب لعملية تتويجك في أقرب فرصة." كان الأمير سعيدا ولكنه حائر. لذا توجّه بالسؤال الى الحكيم قائلا: أيها الحكيم! هل يمكنك مساعدتي في فهم اختبارك للاستعداد لتولّي الملك؟"
    وردّ الحكيم: الأمر بسيط. في المرّة الأولى التي أتيتَ إليّ فيها، أمكنكَ ملاحظة الأشياء الأكبر والأصوات الأعلى فقط. وعلى مدار العامين التاليين، أمكنكَ رؤية وسماع الأشياء والأصوات الأصغر وحتى الصمت. والملك العظيم هو الذي يمكنه الاستماع إلى أصغر الأصوات، وأهمّ من ذلك.. الصمت!"
    وفهم الأمير هذا الدرس الثمين، وعاد الى والده الملك ونقل إليه رأي الرجل الحكيم. وبعد أسبوع نُوديَ به ملكا على البلاد. وبعد فترة أصبح مضربا للمثل في العدالة وحبّ الخير لشعبه والتفاني في خدمته.

  • Credits
    renemagritte.org
    visions.az