الجمعة، يوليو 12، 2024

رويريك والأرض الموعودة/2


في قرى لاداك، تُصادِفُ نيكولاس رويريك وعائلته ومرافقيه روائح البخور والنعناع البرّي والمريمية والتفّاح والمشمش. وعندما يصعدون إلى قمّة الجبل، يفاجئه وضوح الألوان وضخامة المنظر. "على الجبل دوّت أصوات الطبول والدفوف وشقّ موكب طويل طريقه نحونا على طول منحنيات الطريق، حاملاً الفوانيس الملوّنة والمشاعل، وتوهّج القمر الصاعد وسط النيران الحمراء. كان ذلك وقت حصاد الشعير الذهبي. كانت صفوف من الناس يحملون على ظهورهم حِزما من القمح وهم يغنّون بحرارة وحماس".
ثم يتحدّث عن شريناغار، مدينة الشمس، التي تعجّ بالسياح: على الطريق توجد العديد من السيّارات. وفي غرفة الطعام في الفندق نرى وجوها لأميركيين. وفي محلّ المجوهرات، توجد لوحتان معلّقتان جنباً إلى جنب، إحداهما لإطلالة على دلهي والأخرى لإطلالة على الكرملين في موسكو".
ويضيف: بين البلّورات التي نتطلّع إليها لنرى المصير وبين الياقوت في كشمير والفيروز التبتي، توجد أحجار اليشم الصينية الخضراء اللامعة. وكحديقة، تنتشر حدود القفاطين المطرّزة بألوان متعدّدة. وكشالات ثمينة، تنتشر في غرف المتحف تصاميم إيرانية وآسيوية دقيقة." هكذا كانت شريناغار قبل قرن من الزمان.
ثم يذكر رويريك جيلجيت وتشيترال. الطرق المؤدّية إلى هاتين المدينتين أكثر صعوبة من الطريق إلى لاداك والصخور البنفسجية والأرجوانية والقمم الثلجية الزرقاء. ويتحدّث عن أمسية استمتع فيها بوجبة كشميرية غنيّة من لحم الضأن والتوابل، واستمع حتى منتصف الليل الى الغناء الكشميري والأغاني الفارسية والعربية إلى جانب الأغاني الكشميرية والأوردية. ثم وكالعديد من المسافرين الذين سبقوه، اتّجه رويريك إلى شينجيانغ في الصين وعبَر جبال كاراكوروم القاحلة.
كان الكاتب مفتونا بالتقاليد الروسية في العصور الوسطى. وقبل سفره الى الهند، ترحّل كثيرا حول الإمبراطورية، مرمّما الآثار وجامعاً التراث الشعبي. وقبل مغامرته لاكتشاف شانغريلا، لجأ إلى الأساطير الروسية، متأمّلا العثور على مدينة كيتيش الأسطورية.
ويُقال إن كيتيش تقع على بحيرة، وقد بناها أمير روسي في نهاية القرن الثاني عشر، وتشغل مساحة بين الأحلام والواقع. ومثل شانغريلا، كان من المفترض أن تكون كيتيش مكانا للجمال والرقيّ الفنّي. ومثل شانغريلا أيضا، كانت مخفيّة عن أعين المتطفّلين. وقد ابتلعتها مياه البحيرة التي كانت تحميها ذات يوم من غزو التّتار. وقد اعتقدَ رويريك فيما بعد أن كيتيش وشانغريلا يمكن أن يكونا اسمين لنفس المكان، وأن مدخله مخفيّ في مكان ما في جبال الهيمالايا.
كان عمل رويريك الأكثر شهرة والمخصّص لكيتيش هو لوحة رائعة باللونين الأحمر والبرتقالي. في المقدّمة، تظهر المدينة المفقودة نفسها مع انعكاس قبابها البصلية وشرفاتها المزخرفة في البحيرة البرتقالية. ومن خلال اللعب بالمنظور، ابتكر رويريك حلما لشانغريلا روسية لا يكشف عن نفسه إلا للأشخاص الأقوى ملاحظة.
بحسب أسطورة تبتية، تحيط الجبال بمملكة شانغريلا التي تشبه زهرة لوتس عملاقة، وتنتشر فيها البحيرات والمروج والبساتين، كما توجد بها قصور ذهبية ذات أسقف من الكريستال. وقد حقّق الملوك الذين يحكمون شانغريلا الثروة، لكنهم يسعون جاهدين لمساعدة الآخرين على الوصول إلى التنوير والخلاص.
الرهبان الأوائل حدّدوا تلك الأرض في مكان ما في جبال منغوليا أو التبت أو الهيمالايا، ورووا أساطير عن الأرض الموعودة التي غامر عشرات المسافرين لبلوغها ولكنهم لم يعودوا أبدا. وخلال إقامتهم في رحلتهم الأولى، تحوّل رويريك وعائلته إلى شخصيات أسطورية، حيث يُفترض أنهم وصلوا الى "المدينة المتألّقة" وعادوا ليخبروا عنها.
كانت شانغريلا التي رسمها رويريك تشبه جزيرة كيتيش، حلما ورؤية لجمال ساحر لم يمسسه بشر ولم يكن بوسع سوى قِلّة مختارة من الناس بلوغه. ورغم أنها بعيدة، إلا أنها تغري المسافر، وتبدو عند فحصها عن كثب وكأنها قلاع تنهض في السماء. وتضاء هذه الرؤية السماوية بوميض من ضوء القمر يظهر في سحابة كانعكاس.
لكن كان من المستحيل معرفة مكان شانغريلا التي رسمها رويريك، لأنه اعتقدَ أنه وجدها وهو يتجوّل بين الجبال. واستنادا إلى أساطير كيتيش و شانغريلا، رسم خرائط لطرقه وسجّل تجاربه في العديد من الكتابات.
كتب رويريك أن "الطريق إلى شانغريلا هو طريق الوعي في قلب آسيا. ولن تقودك خريطة ماديّة بسيطة إلى مكانها، لكن العقل المنفتح يمكن أن ينجز المهمّة". وكانت لوحاته عبارة عن خرائط من شأنها أن توفّر للمشاهد لمحة سريعة عن شانغريلا، فهي مكان الحكمة الهادئة المصقولة بألوان زاهية وأشكال ملتوية.


على عكس الرسّامين الآخرين في عصره، نجا رويريك من فخّ الاستشراق. ولم يصوّر الشرق أبدا باعتباره "مكانا آخر". كان يرى الشرق والغرب وجهين لعملة واحدة. وكان افتتانه بأبطال روسيا يعادل اهتمامه بالأبطال والمعلّمين الهنود. وقد رفض التمييز بين الاثنين وسعى بدلاً من ذلك إلى إيجاد صلات.
وبخلاف معاصريه من الفنّانين الآخرين الذين ينتمون إلى خلفية فنّية خالصة، كان لدى رويريك نهج أكثر علميةً وروحانية تجاه الفنّ الذي كان ينتجه. كان استخدامه للألوان الجريئة مع درجات اللون الأزرق، جنبا إلى جنب مع الخطوط المتناقضة للألوان، يجعل لوحاته الجبلية مميّزة، حيث استخدم المزيد من النغمات الأرضية والجماليات الريفية. ومن خلال لوحاته يمكن للمرء أن يشعر بجوهر الروحانية التي تتضمّن عناصر الوعي الإبداعي.
في العديد من لوحات رويريك، سترى قوارب أسطورية وكنائس ذات قباب ورعاة وحجّاجا يصعدون التلال وسهولا مزهرة وجبالا قرمزية أو صفراء أو نيلية زاهية تغلّفها سحب وردية خفيفة. هذه هي صورة الشرق كما رآها.
وفي بعض الأحيان لا تخلو قمم الجبال في لوحاته من شخصيات صغيرة غير مركزية من ذوي القلنسوة أو الفرسان المتربّعين عادةً في المخيال الشرقي. وفي بعض اللوحات الأخرى، وسط الجبال، تتداخل الأديرة في أكوام غير متماثلة من المكعّبات، حيث تشرق الشمس غير المرئية أو تغرب وكأنها داخل اللوحة أو خلفها.
أما الرهبان واللامات والشامانات والمتجوّلون والمادونات فيظهرون بشكل غير متجانس وسط هذه الجبال العملاقة أو في الكهوف في صورة حالمة بينما رؤوسهم مائلة، وهو وضع الحياة الداخلية المكثفة واليقظة الروحية. أما الجبال فهي البطل الوحيد مع توأمها، أي السحب المهيبة الثلجية والقادرة على كلّ شيء.
وفي اللوحات سترى أيضا كنائس وصلبانا روسية مألوفة ومناظر طبيعة روسية مميّزة وسهولا خضراء وأنهارا وتلالا وأكواخا رثّة من القصص الخيالية وبحيرات متدحرجة يسكنها عادة رهبان روس يرتدون ثيابا سوداء وشخصيات شعبية وثنية.
بالنسبة لرويريك، أصبحت جبال الهمالايا وسيلة لاستكشاف اللون النقي، والتوليف بين الإدراك البصري والوعي الروحي. كان ينظر إلى هذه الجبال باعتبارها فضاءً مركّبا مُشبعا بالقداسة والروحانية والأسرار التي لا تُحصى. ووجد في النهاية طريقته الخاصّة في التجريد، وذلك بتحرير المناظر الجبلية من التفاصيل وتجسيدها كوسيلة للتأمّل.
العديد من مناظر رويريك للطبيعة تجسّد عمق الفضاء الجبلي اللامحدود الذي خلقته قوى الحياة الأكبر. في أحدها يظهر رجل على حصان أبيض وهو يغادر منزله المطلّ على الجبال القريبة. وعلى الرغم من أن شكل الرجل صغير ويستحيل قراءة وجهه، إلا أن لغة جسده واضحة، كأنه يودّع منزله الأصلي الواقع على الطرف الآخر من اللوحة، حيث تقف امرأتان تحملان جرّتي ماء.
وعند تركيز النظر قليلا، ستلاحظ أن شخصيّتي المرأتين شفّافتان لدرجة أنه يمكن رؤية جدران البئر من خلال شكلهما. وكما غادر رويريك وطنه وبدأ رحلة روحية، فإن هذا المهاتما أو المعلّم المغادر بيته مستعدّ للسفر بعيدا عن الوطن. وهو يُميل رأسه إلى الوراء لينظر إلى الماضي بحنين ويتذكّر منزل طفولته الحبيب مع الشخصيّتين الشبحيتين لأمّه وأخته اللتين تركهما وراءه في روسيا.
وطوال 30 عاما من حياته، وحتى وفاته، سعى رويريك لتحقيق رؤية مثالية، فأصبح رحّالة لا يستقرّ أبدا ولا يصل أبدا لأنه من غير الممكن الوصول إلى أرض خيالية.
انغمس رويريك في الحياة الثقافية الهندية وأصبح صديقا لإنديرا غاندي وجواهر لال نهرو والشاعر طاغور واستمرّ في رسم جباله وأساطيره المحبوبة. وعلى مدى 20 عاما، رسم لجبال الهيمالايا وما جاورها مجموعة مذهلة من 7000 لوحة. كما ألّف كتابين إثنوغرافيين عن الجبال والهند. وأصبح وادي كوللو، الواقع وسط قمم جبلية مهيبة مغطّاة بالثلوج، منزله ومكان عمله حتى رحيله.
وبعد وفاته عام 1947، ووفقا لرغبته، تمّ حرق جثّته ونُثر رمادها في نفس المكان، ثم مُنح لقب قدّيس هندي أو "ماهاريشي".
وسط المناظر العديدة التي رسمها رويريك لمناطق الهيمالايا، تطلّ علينا أحيانا ملامحه نفسه على هيئة حكيم شرقي عجوز بلحية بيضاء صغيرة وحضور ساحر ومهيب.

Credits
roerich.org

الخميس، يوليو 11، 2024

رويريك والأرض الموعودة/1


كان نيكولاس رويريك شخصا متعدّد المواهب والاهتمامات. كان فنّانا وباحثا وعالم آثار ورحّالة ومغامرا وكاتبا وشاعرا ورسّاما وروحانيّا. وكانت صفاته الثلاث الأخيرة هي الغالبة، وهي التي أضفت على أعماله الفنّية بريقا غريبا خاصّا به وحده.
رُشّح رويريك مرّتين لجائزة نوبل للسلام وأنشأ مدرسة فلسفية للأخلاق الحيّة. لكن الأكثر إثارة للاهتمام من بين أعماله كان بحثه عن الألغاز الخفيّة في العالم، بما في ذلك مدينة شانغريلا الأسطورية. وقيل إنه لم يعثر على مدخل تلك المدينة فحسب، بل عاش أيضا ليروي القصّة من خلال سلسلة واسعة من لوحاته الخيالية.
ولد رويريك عام 1874 لأب ألماني وأمّ روسية من طبقة مرموقة في سانت بطرسبيرغ. كان منذ صغره محاطا بالكتب وأصدقاء والديه المثقّفين. وكان يقضي أيّامه في التجوال في الهواء الطلق، حيث نما شغفه بالتضاريس المتعرّجة للأرض، فضلاً عن مناظر العصور القديمة. وفي الجامعة درس المحاماة ثم الرسم. لكنه اكتشف أن لديه خططا أهم بكثير.
وبعد زواجه، ترك روسيا عشيّة ثورة أكتوبر وأخذ زوجته وولديه في جولات عبر أوروبّا والولايات المتحدة وبريطانيا. ثم جعل من الهند موطنه منذ أوائل العشرينيات وحتى وفاته في عام 1947.
لكن قبل أن يبدأ رحلته الطويلة والدائمة الى الهند، حلّ رويريك وعائلته - الذين أصبحوا بلا جنسية بعد الثورة البلشفية - في مكان لا علاقة له على الإطلاق بالفردوس الاشتراكي الذي تركوه خلفهم وكان من حسن حظّهم أنهم لم يختبروه قط. فقد وصلوا إلى الولايات المتحدة في عام 1920 بدعوة من معهد شيكاغو للفنون. وجاءوا إلى نيويورك لحضور أوّل معرض كبير لرويريك هناك.
وفي عام 1935، انتقل رويريك إلى الهند، وانغمس في الفولكلور الهندي وأبدع أشهر لوحاته. كان يعتبر الهند مهد الحضارة الإنسانية، وسعى جاهداً لإيجاد روابط بين الثقافة الروسية والهندية. ولم يبتعد قطّ عن حبّه للخطوط المتعرّجة والآفاق الممتدّة التي تُميّز أعماله.
وقد جعل رويريك الهند موطنه لبقيّة حياته، بعد أن حوَّل اهتماماته الروحية والفنيّة إلى فلسفات وأديان الشرق، فدمج بين الثيوصوفية والبوذية التبتية والأرثوذكسية المسيحية. كان ارتباطه بهذا البلد ارتباطاً دائماً، وكأنه قد استقرّ أخيراً بعد كلّ رحلاته بحثاً عن جمال الحياة؛ ذلك الحلم الذي استحوذ على خياله منذ أيّام طفولته في عزبة والديه خارج سانت بطرسبيرغ.
ولم يلبث الرجل أن شرع في رحلات واسعة وكثيرة إلى العوالم النائية في آسيا الوسطى وجبال الهيمالايا، حيث تعامَل مع هذه الرحلات الاستكشافية باعتبارها رحلات روحية عميقة، وسعى إلى معرفة حكمة الثقافات القديمة التي كانت تحترم هذه المنطقة بشدّة.
وخلال رحلتهم الأولى، استقرّ رويريك وعائلته بالقرب من دارجيلنغ، في منزل يتمتّع بإطلالات خلابة على قمّة جبل مقدّس في الهيمالايا، كان قد أعجب به عندما كان طفلاً وحلم بزيارته ورسمِه.
وبدأ فنّه يتبنّى موضوعات روحية وفلسفية. كانت لوحاته تشعّ بهالة من التصوّف والجوهر الأخروي. وقد درس الممارسات الروحية وعمّق استكشافاته الخاصّة، ما أضفى على إبداعاته تعبيرات منوّمة أصبحت سمة لازمة لأعماله.
ومن خلال فنّه، نجح رويريك في تجسيد عظمة المناظر الطبيعية التي رآها في جبال الهيمالايا التي تتمتّع بتاريخ طويل من الأهمية الروحية والدينية التي أسَرته كما أسرت الكثيرين غيره. ويتجلّى التأثير العميق لهذه الجبال على روحانيته وحساسياته الفنّية في بعض أعماله الأكثر شهرة.
ومن أشهر عباراته التي تشي بانجذابه لتلك الجبال قوله: صحيح أن الجبال في كلّ مكان هي جبال، والمياه في كلّ مكان هي مياه، والسماء في كلّ مكان هي سماء، والبشر في كلّ مكان هم بشر. ولكن مع ذلك، إذا جلستَ أمام جبال الألب وحاولت أن تتخيّل جبال الهيمالايا، فسوف تشعر أنه ينقصك شيء لا يمكن تفسيره."


صُوَر رويريك تجاوزت المشاهد المادّية، ما عكسَ إيمانه بالترابط بين جميع أشكال الحياة وانسجام الخلق الإلهي. وقد قالت شاعرة أمريكية تصف فنّه بعد أن رأت بعض لوحاته في أمريكا: إذا كان الجمال قادراً على إنقاذ العالم كما اعتقدَ دوستويفسكي، فإن هذا الرجل أعاد إشعال نيران معابد العالم القديمة".
كان رويريك، من خلال فنّه، يستخدم الصواعق ويجمع السحب ويُطلقها، تارةً كرُسُل الصباح السريعين، وتارةً كأفواج المساء المتجهّمة، وأحيانا كأوعية مظلمة مليئة بالمطر، لأنه كان يعرف أسرار السماء. وكان يتبع دائما خطّ ضوئه الخاصّ. ولا يمكن لأيّ رجل أو امرأة أو طفل أن يقف أمام لوحاته ولا يستعيد أصوات البحر اللامتناهي من ورائه ويستمع بالأذن ويرى بالعين الداخلية ويستعيد موجة مدّ من الجمال.
في لوحة رويريك المشهورة "معركة في السماء" (1912)، يرسم سحبا ملوّنة بضوء أبيض ناصع مع الألوان الأرجواني والزهري والقرمزي، وهي ألوان غير محتملة لحرب عاصفة. وربّما أراد للوحة أن ترمز إلى رؤاه ونبوءاته عن الأحداث القادمة في أوروبّا. وفي رؤية رويريك البدائية للكون، غالبا ما تكون الجبال والسحب والسماء أبطالا في الملاحم الرمزية بينما يلعب البشر أدوارا ثانوية.
في الهند، اكتشف رويريك جبال الهيمالايا التي أصبح مفتونا بها بلا حدود. في مؤلّفه "راية الشرق" يكتب: هل كان نسراً ذاك الذي اندفع من بين الصخور؟ عبر الوادي، كان السيخ يطلقون النار من الأقواس. وفي أزيز السّهام الطائرة واهتزاز الأوتار وتوتّر الشفاه، وفي حدّة البصر، كان هناك صدى لشيء بعيد ولكنه غامض."
ثم يكتب عن عالَمين رآهما في الهيمالايا. الأوّل عالم الوديان العميقة والتلال التي ترتفع إلى خطّ السحاب الذي يذوب فيه دخان القرى والأديرة؛ عالم أرضيّ مليء بالتنوّعات حيث تقف شجرة صنوبر مهيبة بجانب شجيرات أخرى مزهرة وحيث كلّ شيء متشابك. ثمّ هناك العالَم الثاني؛ الأسوار الغريبة والمذهلة التي تعلو السحاب، حيث تتلألأ الثلوج فوق الشفق وتنتصب القمم الضبابية الباهرة التي لا يمكن عبورها.
إن أحدا من قبل لم يرسم تلك الجبال كما رسمها هذا الرجل. كانت صوره تزدحم بالمضامين الروحية والتأمّلية والشاعرية. ومن أشهرها لوحة "جبل الكنوز الخمسة". يقال إن هذا الجبل سُمّي بهذا الاسم لأنه يخبّئ تحت قمّته كمّيات كبيرة من الذهب والياقوت والفيروز والماس والزمرّد.
وهناك نبوءة تقول إنه سيأتي زمن يعاني فيه العالم من مجاعة رهيبة ومن نقص حادّ في الموارد. ثم سيظهر رجل من المجهول يفتح بوّابة الجبل الضخمة ويُخرج من جوفه تلك الكنوز المخبّأة ويمنحها للعالم.
وفي بعض كتاباته، يتحدّث رويريك عن الأجراس في معابد الهيمالايا التي تدقّ بقوّة، مذكّرة إيّاه بأسطورة جميلة عن إمبراطور صيني ولاما عظيم. فمن أجل اختبار معرفة اللاما وقدرته على التنبّؤ، صنع الإمبراطور له مقعدا من الكتب المقدّسة وغطّاه بالأقمشة، ثم دعاه للجلوس. ألقى اللاما بعض الصلوات ثم جلس. وسأله الإمبراطور: إذا كانت معرفتك عالمية إلى هذا الحدّ، فكيف يمكنك الجلوس على الكتب المقدّسة؟"
أجاب اللاما: لا توجد مجلّدات مقدّسة". وذُهل الإمبراطور عندما وجد بدلاً من كتبه المقدّسة أوراقا فارغة فقط. عندها قدّم الإمبراطور لللاما العديد من الهدايا والأجراس ذات الرنين السائل. لكن اللاما أمر بإلقائها في النهر قائلاً: لن أتمكّن من حملها. لكن إن كانت ضرورية لي، فإن الله سيُحضر هذه الهدايا إلى ديري". وفي الواقع، تقول الأسطورة، حملت المياه إليه الأجراس البلّورية الصافية كصفاء مياه النهر.
ثم يكتب رويريك عن كشمير "المكان الذي مرّت به جحافل المغول، حيث تتقاطع الطرق المؤدّية إلى بامير ولاسا وكوتان، وحيث يقع كهف أمارناث الغامض". وقد استقبلت كشمير رويريك في شهر مارس في مزاج ذكّره بأجواء طقوس الربيع لسترافينسكي، حيث تتوهّج سماء الربيع الزاهية بالنجوم والجبال الزرقاء وتلتمع منحدراتها بمواكب نارية تعلن أغانيها عن نهاية صقيع الشتاء ووصول الربيع.

الأربعاء، يوليو 10، 2024

بين دافنشي وميكيل أنجيلو


هناك أوجه شبه متعدّدة بين كلّ من ليوناردو دافنشي وميكيل انجيلو. فقد اعتُبر الاثنان معلّمَين وممثلين للفنّ الكلاسيكي اليوناني والروماني. كما عملا كفنّانين تجاريَين لدى الكنيسة واستفادا من رعاية رجال الدين ودعمهم لهما. والاثنان أيضا أنتجا فنّاً تحدّى الزمن وعاش مئات السنين وما زال يحظى بتقدير الناس إلى اليوم.
وقيل أيضا أن فنّ دافنشي يّتسم بالكمال، لكنه لا يثير شعورا في نفس المتلقّي. يكفي مثلا أن تنظر إلى الموناليزا أو العشاء الأخير مرّة أو مرّتين فتُعجب بحرفية الرسّام وجمال الرسم، لكن هذا لا يحرّك فيك أيّ شعور ولا يثير بداخلك أيّ أسئلة.
وعلى العكس من ذلك، فإن منحوتات ميكيل انجيلو مليئة بالحركة والدراما والقصص المثيرة. ولهذا سيُكتب لفنّه الخلود والبقاء أكثر من دافنشي الذي شغله انهماكه بالعلوم والفلك والهندسة عن إنتاج فنّ حقيقي يحرّك العقل ويحرّض على الأسئلة.
من ناحية أخرى، كانت شخصيتا الاثنين متعارضتين من عدّة أوجه، فليوناردو كان رجلاً اجتماعيّا يحبّ ارتداء الملابس الأنيقة وحضور مناسبات النبلاء وأعيان المجتمع. لكن ممّا يُعاب عليه تركه العديد من أعماله دون أن يكملها، لأنه كان متعدّد الاهتمامات وكان يحبّ دائما التركيز على أشياء جديدة. أما ميكيل أنجيلو فكان رجلاً مقتصدا وذا شخصية خشنة وغضوبة، ولكن على عكس ليوناردو كان حازما ويتحمّل مجهودا بدنيّا هائلاً لنحت أعماله.
وتخبرنا روايات السيرة التي كُتبت عنهما أن ليوناردو كان ساحرا وأنيقا، بينما لم يكن لدى ميكيل انجيلو سوى القليل من الوقت للتباهي أو متابعة الموضة. وقد استخدم كلاهما أساليب مختلفة للحصول على عملاء مرموقين. وساعدت الكاريزما الشخصية لليوناردو في عرض أعماله على الرعاة الأثرياء كعائلة ميديتشي القويّة في فلورنسا، بينما كان الرعاة يثقون في اجتهاد ميكيل أنجيلو والتزامه، وهو ما بدا أن ليوناردو كان يفتقر إليه أحيانا.


كان ميكيل أنجيلو شخصا منعزلاً وميّالا للقتال وقاسيا وفوضويا ولا يثق في الناس بسهولة. وكان دافنشي دائما شخصا هادئا ولبقا ومرتّبا وودودا مع الجميع تقريبا. ويقال إنهما التقيا بضع مرّات، وفي إحداها طلب دافنشي من ميكيل أنجيلو شرحا لجزء من كتاب الكوميديا الإلهية لدانتي، إذ كان الأخير مرجعا معروفا في شرح أعمال الشاعر. وبدلا من الردّ على السؤال، انتقد ميكيل أنجيلو دافنشي على "محاولته الفاشلة" صبّ حصان برونزي تكريما لأهل ميلانو، في إشارة ضمنية الى أن دافنشي خدعهم وسرق أموالهم.
وقيل أيضا أنه عندما أنتهى ميكيل أنجيلو من نحت تمثال ديفيد أو داود، تشكّلت لجنة لتحديد المكان الذي يجب أن يوضع فيه التمثال. وكان دافنشي عضوا في تلك اللجنة. وقد اقترح وضع التمثال في المكان المخصّص له في البداية، أي في أعلى جدار الكاتدرائية، بينما كان ميكيل أنجيلو يريد وضعه أمام قصر فيكيو. وفي النهاية انتصرت وجهة نظر ميكيل أنجيلو. وقد اقترح دافنشي أيضا أن تُغطّى الأعضاء الخاصّة بالتمثال، وفعلا أُخذ بمقترحه واستمرّ الحال كذلك لفترة قصيرة من الزمن.
والاختلافات بين الاثنين تمتدّ أيضا الى وجهات نظرهما حول أيّ الأشكال الفنّية يعتبر أعلى من سائر الفنون. ليوناردو كان يعتقد أن الرسم هو أهمّ الأشكال الفنيّة بسبب التنوّع والحريّة التي يمنحهما للفنّان لتمثيل الأشياء، حتى تلك الغير مرئيّة. ونحن نرى تجسيدا لهذه الإمكانية في لوحة الموناليزا، فالاتساع المذهل للمنظر الطبيعي الفانتازي الذي رسمه ليوناردو في خلفية اللوحة لا يمكن أن يكون موجودا إلا في ذهن رسّام عظيم مثله.
من ناحية أخرى، كان ميكيل أنجيلو يعتبر النحت أبا لجميع الفنون. كان الفنّ بالنسبة له أكثر من مجرّد وسيلة لتحقيق الثروة أو الشهرة، بل هو بوّابة للتعبير عن رؤيته للجمال وتجسيدها. وكان يؤمن بفكرة أفلاطونية مفادها أن إنشاء التمثال يعني التحرّر من الحجر الصلب، أي أن الحجر بالنسبة له هو مادّة أو قناع يحمل الشكل. وكان يرى أن التمثال مكتمل بالفعل داخل كتلة الرخام حتى قبل أن يبدأ النحّات عمله، وأن كلّ ما عليه فعله هو إزالة الموادّ الزائدة عن الحاجة.
ومن أشهر أقواله: كلّ كتلة من الحجر بداخلها تمثال، ومهمّة النحّات هي اكتشافه. وقوله: يمكن للمنحوتة العظيمة أن تتدحرج إلى أسفل التلّ دون أن تنكسر. وقوله عن تمثال له يصوّر ملاكا صغيرا: رأيت الملاك في الرخام فنحتّه حتى أطلقت سراحه."
ختاما، كان كلّ من ليوناردو دافنشي وميكيل أنجيلو أستاذين في الفنّ وكانت بينهما أوجه شبه وأوجه اختلاف واضحة في أسلوبهما وفي مجال خبرتهما. لكن ما يزال العالم يحتفل بمساهمات الاثنين وإبداعاتهما المتميّزة في عالم الفنّ حتى يومنا هذا.

Credits
leonardoda-vinci.org
michelangelo.org

الأحد، يوليو 07، 2024

انطباعات ملوّنة


كان اللون يأسرني دائما، وكذلك الكلمات التي تعبّر عن الألوان والشمس التي تجعل الألوان حيّة.
* اندريه ديرِن، رسّام فرنسي

الألوان جزء لا يتجزّأ من جماليات أيّ صورة. وأحيانا تكون عنصرا تعبيريّا لا يقلّ أهمية عن الأشكال والخطوط والأشخاص والمنظور الخ. وكلّ له رسّاموه المفضّلون عندما يتعلّق الأمر باللون. شخصيّا تعجبني ألوان ماتيس وكليمت وبونار وكاندنسكي ومونك وفالوتون وشاغال وبولوك وبول كلي وفان غوخ وجولنسكي وروريك وغيرهم ممّن لا تحضرني أسماؤهم الآن.
  • المعروف أن ظاهرتي الشفق القطبي وقوس قزح تتألّف كلّ منهما من سبعة ألوان هي ألوان الطيف المنظور كما تُسمّى. وجميع الألوان الموجودة في هذا العالم، أي ملايين التنويعات والتدرّجات والظلال اللونية، ليست سوى نتيجة لامتزاجات هذه الألوان السبعة مع بعضها البعض.
  • كان الرسّام الروسي التجريدي كاندنسكي يرى في الأزرق لونا روحانيّا، وكلّما كان أثقل أيقظ رغبة الإنسان في الخلود. زميله فرانز مارك كان هو الآخر يؤكّد على تأثير الألوان على المزاج. كان يرى مثلا أن الأزرق لون الذكورة والأصفر لون الأنوثة والأحمر لون العالم المادّي بكلّ ما يختلج به من توتّر وعنف.
  • اللون الأحمر عندما يغمق يصبح بنّيا وعندما يُخفّف بالأبيض لا يعود احمر، بل لونا آخر مختلفا هو الزهريّ، بينما يتلاشى الأصفر عندما يُخفّف. أمّا الأزرق فهو اللون الوحيد الذي يحافظ على شخصيّته في جميع درجاته فيظلّ دائما ازرق.
  • إيف كلاين، الرسّام الفرنسي، يُعزى إليه ابتكار درجة غميقة من اللون الأزرق أصبح يُسمّى بـ (أزرق كلاين العالمي) أو (IKB) كما يُعرف اختصارا. التأثير البصريّ لهذا اللون "كما يتضح من الصورة التي فوق" يأتي من اعتماده القويّ على الفيروزي أو لون البحر الفائق الزرقة.
  • الفنّان الياباني كاتسوشيكا هوكوساي عندما أكمل رسم لوحته الأيقونية "الموجة الكبيرة" عام 1830، كانت اليابان على وشك إنهاء عزلتها الطويلة عن العالم والتي دامت أكثر من مائتي عام. وكان التأثير الأجنبيّ واضحا في اللوحة. فاللون الأزرق المستخدم فيها مستورد من أوربّا. كان يُسمّى الأزرق البروسي (نسبة إلى بروسيا أي ألمانيا القديمة). ومنذ أن ظهر هذا اللون في القرن الثامن عشر، ظلّ مفضّلا بسبب عمقه وديمومته.
  • في لوحته "قماش مائدة أزرق"، يصوّر هنري ماتيس إبريق قهوة وطبق فاكهة. لكن أهم تفصيل في اللوحة هو قماش المائدة وهو عبارة عن قطعة من الحرير الفرنسي تعود إلى ق 19 وتتميّز بلونها الأزرق البديع مع موتيف متكرّر لسلّة أزهار.


  • الشاعر الاسباني رافائيل ألبيرتي معظم أشعاره مستوحاة من الرسم. وفي حديثه عن الأزرق، يشير الشاعر إلى لوحة بيكاسو "المأساة" باعتبارها النموذج الأكمل لاستخدام الأزرق في الفن. كما يذكر لوحة انجيليكو "البشارة" ولوحة "مولد فينوس" لبوتيتشيللي باعتبارهما مثالين آخرين رائعين لاستخدام الألوان الزرقاء.
  • كان بيكاسو يحبّ الأزرق كثيرا ويسمّيه ملك الألوان. وفي مرحلته الزرقاء اختار للوحاته ألوانا زرقاء شاحبة ورسم الطبقة المسحوقة كالشحّاذين والسكارى والمكفوفين. وقد تأثّر بزيارته لسجن النساء في باريس وبموت صديقه المشرّد الذي أطلق النار على نفسه في أحد مقاهي باريس.
  • اللون الزهري يرمز عادةً للعاطفة والحبّ اللامشروط. ولأنه نادر في الطبيعة، فلم يظهر في اللغة إلا في القرن السابع عشر. في اليابان يعتبرونه لون الذكورة ورمزا للحداد على المحاربين الذين يُقتلون في المعارك وهم في ريعان الشباب. وفي الفنّ الغربيّ برز الزهري أكثر للواجهة خلال عصر الباروك، أي في القرن الثامن عشر.
  • أما اللون الأخضر فقد أصبح رمزا للحياة وللموت أيضا منذ أن استخدمه قدماء المصريين في تصويرهم لأوزيريس إلهة الحياة والموت وملكة العالم السفلي والمتحكّمة في انتقال الأرواح من الدنيا إلى العالم الآخر بحسب معتقداتهم. حدث هذا قبل أن يكتشف ليوناردو دافنشي خواصّ وإمكانيات هذا اللون بآلاف السنين.
  • الأصفر هو اللون الأقرب إلى الشمس. وهو لون ذو شخصية مبهجة ومحفّزة. ولا غرابة في أن الصينيين القدامى كانوا يقدّسونه. وكان هو اللون المفضّل لملوكهم أثناء حكم سلالة مينغ. وأحدهم كان يُلقّب بالإمبراطور الأصفر الذي يُعتقَد انه مؤسّس الصين.
  • الأرجواني لون يرتبط عادة بالأنوثة وبالثراء. ولأنه نادر في الطبيعة فإن الكثيرين يعتبرونه لونا مقدّسا. كما أن صبغته مكلّفة جدّا. وهو موجود في الأوركيد واللافندر والليلك. وفي اللغة تُستخدم عبارة "النثر الأرجواني Pink prose" للإشارة إلى المبالغات والأكاذيب الكثيرة والكتابة المغرقة في الخيال.
  • أما التركوازي فهو لون ذو خواصّ مهدّئة. وهو مزيج من الأخضر والأزرق. ولطالما ارتبط بالإبداع والحظّ السعيد والوفاء والاتّزان العاطفي. والتركواز يعني حرفيا "الحجر التركي" لأنه وصل إلى أوربّا من تركيا. لكن أفضل أنواعه يأتي من إيران. أما التركواز كحجر ثمين فمعظمه يأتي اليوم من أمريكا والمكسيك.
  • بعض الحضارات القديمة اعتبرت اللازورد حجرا مقدّسا، لأن له قوى سحرية وغامضة. ومنه يُستخلص الالترامارين، وهو لون نفيس للغاية بسبب جماله ولمعانه الأخّاذ. وأفضل أنواع اللازورد موجودة في جبال أفغانستان منذ أكثر من خمسة آلاف عام. لكن هناك مخزونا منه في بلدان أخرى مثل روسيا وشيلي وباكستان.

  • Credits
    art-matisse.com
    wassilykandinsky.net