الثلاثاء، نوفمبر 05، 2024

خواطر في الأدب والفن


  • تقول كريستين كين: في بعض الأحيان عندما تكون في مكان مظلم قد تشعر وكأنك دُفنت، بينما في الحقيقة أنك زُرعت". وهذه المقولة تنطوي على حقيقة عميقة عن المشقّة ومكابدة الحياة. فعندما نمرّ بأوقات عصيبة، قد نشعر وكأننا محاصرون في الظلام بلا أمل أو مخرج، بينما أن ما يبدو وكأنه دفن في الظلمة قد يكون في الواقع غرسا أو فرصة للنموّ والنضج.
    المكان المظلم يشعرنا غالبا بالرهبة وعدم القدرة على تلمّس طريق يمكن أن يقودنا الى الأمام. ويمكن أن يكون الظلام خانقا ولا مفرّ منه، وكأننا دُفنّا أحياء. وعلى الرغم من أنه قد يُشعرنا بالاختناق أو الضيق وكأننا "دُفنّا"، إلا أننا في الواقع "زُرِعنا". بمعنى أن الصعوبات التي واجهتنا خلقت أرضا خصبة للتطوّر الشخصي.
    وكوننا "مُغروسين" أمر ينطوي على إمكانات. فالبذرة التي تُزرع في التربة قد لا ترى ضوء الشمس بعد، لكنها تحتوي بداخلها على إمكانية الإنبات والتحوّل إلى شيء جديد. حتى في أحلك لحظاتنا، نحمل بداخلنا بذور النموّ والتغيير.
    لذا، بدلاً من النظر إلى كفاحنا باعتباره دفناً دائما، يمكننا اختيار النظر إليه باعتباره غرسا أساسيا يسمح لنا بالنموّ بشكل أقوى. والأوقات الصعبة تعمل على تقوية جذورنا، ما يجبرنا على الحفر بشكل أعمق داخل أنفسنا للعثور على الموارد الداخلية التي لم نكن نعرف أننا نمتلكها. وكما يجب أن تظلّ البذرة في الأرض لفترة من الوقت قبل أن تنمو كنبتة جديدة، يجب علينا أيضا البقاء في "المكان المظلم" لفترة كافية لحدوث التحوّل.
    إن الأوقات المظلمة جزء لا مهرب منه من الحياة، ولكنها لا تعني النهاية بالضرورة. بل يمكن أن تشير إلى بداية شيء جديد، إذا ظللنا منفتحين على النموّ أثناء صراعاتنا بدلاً من الاستسلام. قد يكون الظلام هو ما نحتاجه للتحوّل إلى نسخة من أنفسنا أفضل وأقوى. لذا عندما تشعر بأنك "مدفون"، تذكّر أنك قد "زُرعت" بالفعل، وكلّ ما تحتاجه الآن هو الوقت والضوء والماء اللازم لتنمو.
  • ❉ ❉ ❉

  • كان آندي وارهول أحد أشهر الفنّانين في القرن العشرين. وهو معروف حتى للأشخاص الذين لا يعرفون شيئا عن الفن. وقد استمرّ تأثير عمله على عالم الفنّ لفترة طويلة بعد وفاته.
    وبينما يتجنّب كثير من الفنّانين فكرة كسب المال، إلا أن وارهول تبنّى هذه الفكرة بحماس. وكان أحد مؤسّسي الفنّ الشعبي أو "البوب آرت". ولم يكن يكتفي برسم لوحات للمشاهير من أمثال مارلين مونرو وإليزابيث تايلور وماو تسي تونغ وإنغريد بيرغمان وجاكلين كينيدي وغيرهم، بل أصبح هو نفسه أحد اولئك المشاهير. لوحته المشهورة لمارلين مونرو صارت تجسيدا للفنّ الشعبي وباتت أغلى قطعة فنّية في القرن العشرين عندما بيعت بمبلغ 195 مليون دولار.
    لم يكن وارهول يأخذ نفسه أو فنّه على محمل الجدّ، بل كان يستخدم الفنّ للتعبير عن آرائه الاجتماعية، بينما كان يعيش حياته كما يرغب هو. ولم يعتقد يوما أن جني المال من وراء أعماله أمر سّيء أو معيب، بل استخدم المال كأداة للترويج لفنّه ونشرَ أفكاره على نطاق واسع وعملَ بجدّ كي يصل فنّه وأفكاره إلى أكبر عدد ممكن من الناس. كان يحوّل نفسه وعمله إلى عمل تجاري واستغلّ التجارة كوسيلة لمواصلة صنع الفنّ ولجعل الناس يلاحظون ما كان يفعله.
    وعندما عرض لوحاته عن عُلب الحساء لأوّل مرّة لم يكن الجميع مسرورين. وكتب ناقد فنّي يقول: هذا الفنّان الشاب إمّا أنه أحمق أو محتال عنيد"، ووصفه الرسّام وليام دي كونينغ بأنه قاتل للجمال.


  • وبفضل خياله الواسع وطبيعته الحذرة، كانت لدى وارهول شكوك حول موته المبكّر والعنيف. وقد تحقّق هذا عندما أطلقت عليه كاتبة نسوية متطرّفة تُدعى فاليري سولاناس النار من مسافة قريبة عام 1968. وقد تصدّر الحادث عناوين الصحف ونشرات الأخبار في جميع أنحاء العالم. وعندما نُقل وارهول إلى المستشفى، فقدَ الأطبّاء أيّ أمل في إنقاذه وكادوا يعلنون وفاته. لكنهم استمرّوا في محاولات إنعاشه. وقد نجحوا في ذلك أخيرا على الرغم من أن الرصاصة اخترقت المريء والكبد والطحال والأمعاء. وتصادفَ الاعتداء على وارهول مع قتل روبرت كينيدي بالرصاص في الليلة التالية مباشرة.
    وقد ادّعت المرأة أن وارهول كان مسيطرا على حياتها وأنها أرادت الانتقام منه. وعلى الرغم من نجاته، إلا أنه غيّر مسار حياته المهنية وبدأ يرسم لوحات تصوّر الموت، وبينها صور تشبه الجمجمة. وقد قال إنه توقّف عن الإبداع بعد أن كاد يُقتل وأصبح أكثر حذرا وصار يركّز أكثر على التجارة. وبسبب الإصابات التي تعرّض لها، كان عليه أن يرتدي مشدّا جراحيّا خاصّا بقيّة حياته.
    كان وارهول شخصا قليل الكلام، وكثيرا ما كان يعطي إجابات بكلمة واحدة في المقابلات ويرسل بُدلاء عنه عندما يُطلب منه إلقاء محاضرات. لكنّه أحدثَ ثورة في عملية الرسم وتصوير الثقافات المضادّة المثيرة للجدل في أعماله.

    ❉ ❉ ❉

  • جزء من فكرة البشر في العصر الحجري القديم عن كون ثلاثيّ الطبقات وإيمانهم به كانت تعكسه بُنية الكهوف، أي أسقفها المقوّسة وممرّاتها الضيّقة والمسارات العميقة التي تحتها. ومن غير المستغرب، نظراً لطول فترة ما قبل التاريخ البشري، أن يكون هذا الأساس مشتركاً بين جميع البشر، وبالتالي فإن تفسيره متّسق. فإلى جانب عالمنا اليومي العاديّ، هناك عالم سفلي خطير وعالم علوي "سماويّ" لا حدود له، مليء بالنور، تَصوَّرَتهُ كلّ الثقافات تقريباً، من العصر الحجري القديم إلى اليوم.
    وكان هذا يعني أن أهل العصر الحجري القديم كانوا يشعرون بمجرّد دخولهم إلى الكهف باتصال عميق ومباشر بالعوالم الروحية الموجودة أعلاه وأسفله. وكان التأثير الناتج عن ذلك عبارة عن تجربة متعدّدة الحواس. فمن خلال الرقص والموسيقى وتقليد أصوات الحيوانات والرسم على الجدران، كان الباحثون عن الرؤى يزوّدون عقولهم بصور ذهنية مشحونة عاطفياً. كانت الكهوف تنبض بالحياة، بأصوات ورؤى الحيوانات الروحية القويّة. وخلف كلّ ذلك، كانت هناك الحكايات والذكريات والأساطير التي ألهمت الصور وحفّزت الجماعة.
    إن العديد من أماكن العبادة المعاصرة، بأسقفها المقبّبة ومقابرها التحتية، تعكس المساحات التي اتخذت فيها البشرية الخطوات الأولى في بحثها عن فهم أعمق للحياة. ويتجلّى نفس النمط المعرفي في آلاف القصص، سواءً في الأساطير اليونانية أو في الصلوات المسيحية أو في كيفية وصف تجارب الأنبياء والقدّيسين أو في مغامرات الأبطال الشعبيين المعاصرين. وقد لاحظ مؤرّخ الأديان ميرسيا إلياد هذا وخلُص إلى أن عدداً كبيراً من الموضوعات أو الزخارف الملحمية، فضلاً عن العديد من الشخصيات والصور والأنماط في الأدب الملحمي، ربّما تكون قد استعيرت في النهاية من روايات الشامانات التي تصف رحلاتهم ومغامراتهم في العوالم الخارقة للطبيعة.
    لقد واجهت الشامانات وزعماء النخبة مشكلة ثلاثية الأبعاد كانت على هذا النحو: كيف نهدّئ ونبجّل العالم الروحاني في هذه البيئة الجديدة والواسعة النطاق، فنحن لا نريد في نهاية المطاف العودة إلى العصر الجليدي. وكيف نتجنّب أعمال التمرّد والفوضى بين الأفراد والجماعات الآن بعد أن ازداد عدد السكّان كثيرا؟ والأهم من ذلك، كيف نحافظ على مكانتنا في المجتمع ونؤمّنها؟
    وقد تضمّن حلّهم الذكي قصّتين على الأقل؛ الأولى تؤكّد على أهميّة الموتى. وكما نعلم من مواقع الدفن المبكّرة، كان الناس مرتبطين عاطفياً بأولئك الذين ماتوا، وقلقين بشأن الحياة الآخرة. والثانية تضمن أن يعرف الجميع بشكل لا لبس فيه أن التزامهم الديني يقتضي منهم المشاركة في بناء الهياكل الحجرية الضخمة التي يكرّم المجتمع من خلالها الموتى والعالم الروحاني ويتواصل معهم تحت إشراف الكهنة والشامانات وزعماء النخبة.
    وبهذه الطريقة، أمكن التحكّم في سلوك الآلاف. فبناء هذه الهياكل يتطلّب من الجميع التعاون في عمل توحيدي. وفي ذلك العصر كان التفاني مهمّا. وهناك سلسلة كاملة من الأحداث المذهلة لتحريك الأرض والصخور التي أراد الناس في العصر الحجري الحديث القيام بها. وهذا هو الجزء المفقود من المعادلة، أي أنه إذا كانت لديك الإرادة، فيمكنك تحريك الجبال. ومن الواضح أنهم فعلوا ذلك، بحسب كلام عالم الآثار مايكل بيرسون.

  • Credits
    warhol.org
    christinecaine.com

    الأحد، نوفمبر 03، 2024

    سينما ياسوجيرو أوزو


    فلسفة التسامي حاضرة في الفنّ منذ زمن بعيد. وتعبيراتها تشمل الكتب المقدّسة والأيقونات الرومانية والمنحوتات الإغريقية وحدائق الزِن وغيرها. ومع ذلك، قد يبدو تعبير التسامي في السينما مستغربا الى حدّ ما، على أساس أن السينما فنّ دنيويّ في الاساس.
    مفردة التسامي نفسها ملتبسة. لكنها، في معناها العام، تشير الى الارتقاء إلى أفق أبعد، كالارتباط العميق بالآخرين أو بالطبيعة. ويمكن أن تعني الاقتراب من الله أو من أيّ نوع من القوى الخارقة. وهناك من يرى ان الأسلوب المتسامي يمكن أن يعبّر عن حالة روحية من خلال السرد المثير للذكريات والارتباطات والتصرّفات الخالية من الوعي الذاتي.
    بعد الحرب العالمية الثانية، بدأ صنّاع الأفلام يدركون الإمكانات الحقيقية للفيلم الزمني. فقد افترضوا أنه مثلما يمكن لفيلم الحركة أن يخلق تشويقا، فإن السينما الزمنية "أو المتسامية" يمكن أن تُلهم حالة من الاستبطان والتأمّل الذاتي، باستخدام بعض الجماليات كالموسيقى التصويرية البسيطة واللقطات الطويلة والبطيئة والإطارات الثابتة ونسَب الشاشة والألوان المعدّلة والزوايا الواسعة وخلافها.
    والفيلم المتسامي، بتصويره للحياة اليومية، قد يخدع المشاهد بدفعه للاعتقاد أن الفيلم لا يتعامل مع أيّ شيء خارج عن المألوف، وفي الوقت نفسه بتلميحه إلى أنه قد يكون هناك معنى أعمق وراء تصوير الأشياء. وبينما في الواقعية الجديدة تصبح الحياة اليومية هي غاية في حدّ ذاتها، فإنها في الأسلوب المتسامي خطوة نحو شيء أعظم.
    وبحسب بعض النقّاد، فإن أوّل مخرج للأفلام الزمنية "أو المتسامية" كان الياباني ياسوجيرو أوزو (1903-1963) الذي ضمّن أفلامه تأمّلات ذاتية من خلال استخدام الصور المتكرّرة والبطيئة.
    و أوزو يُعتبر واحدا من كبار صنّاع الأفلام اليابانيين في جيله. وطوال حياته المهنية، تخصّص في سرد قصص عن عائلات الطبقة المتوسّطة اليابانية. وقد نشأ هذا المخرج في أسرة يابانية تقليدية، تحيطه قيم وتقاليد ثقافة الزِن التي ترى انه من خلال التركيز على الأمور الدنيوية يمكن للمرء بلوغ التنوير. وظَهر هذا المفهوم في جميع أفلام أوزو التي تغلِب عليها الوتيرة البطيئة والنبرة القاتمة.
    وقد أخرج أكثر من خمسين فيلما بنفس الرؤية الصعبة والنادرة. وأفلامه متشابهة فهي لا تحتوي على أيّ حبكة تقريبا، وجميعها تصوّر الحياة البسيطة التي تُعلّمها فلسفة الزِن وتتناول الصراع بين الأجيال والزواج والعلاقات وما الى ذلك.
    كانت أفلام أوزو دقيقًة ومفصّلة، ولا غرابة انه ما يزال لغزا حتى اليوم. ويقال ان أحد الأسباب التي تجعل الغربيين يميلون إلى النظر اليه كمخرج غرائبي هو أن الثقافة اليابانية نفسها غريبة بالنسبة لهم. وأوزو نفسه يوصف أحيانا بأنه "المخرج الأكثر يابانيةً في كلّ العصور".
    كان أوزو يأمر ممثّليه بتقديم أداء متواضع، على أساس أن البساطة والدقّة يمكن أن تنقل المشاعر العميقة بشكل أكثر فاعلية من الدراما الصريحة أو المتكلّفة. وتركيزه على البساطة والدقّة والعمق في الحياة اليومية يجعل من أفلامه مصدرا مستمرّا للإلهام والتعلّم.
    اليابانيون يستخدمون مفردة "ما" التي تعني الفراغ، لكن هذا الفراغ ليس خواءً، بل فراغ له معنى الامتلاء. وفي ثقافة الزِن، لا يمثل الفراغ غياب شيء ما، بل يُعتبر جزءا من الكمال. وفي أفلام أوزو، هذا الفراغ واضح في الحوار واللقطات والصوت. والمساحات الفارغة في أعماله تتحدّث كثيرا وتعلمّنا عن قوّة ما لا يُعرض وتشجّع المشاهد على التفاعل بشكل أعمق مع المشهد.
    وفي أفلامه، لا توجد أشباح ولا ماضٍ، فقط الحاضر. وحتى عندما تُبدي الشخصيات حنيناً إلى الماضي، فإنها لا تتوق إلى الماضي نفسه، وإنما تعمل بطريقة ما على توسيع الحاضر.
    من أشهر أفلام ياسوجيرو أوزو وأكثرها احتفاءً فيلم "أواخر الربيع" من عام 1949. وتدور أحداث الفيلم حول حياة أب وابنته. الأب يعمل باستمرار ويعيش بسلام مع ابنته التي تستمتع بالتجوّل في المدينة وطهي الوجبات ورعاية والدها. وعندما تقرّر شقيقة الأب ترتيب زواج لابنته الشابّة، تبدأ المشاكل. فهي في منتصف العشرينات، والزواج كما تراه هو موت لهويّتها كابنة وكإنسانة. ومع ذلك، لا يكون أمامها من خيار سوى الموافقة على طلب عمّتها بالزواج.


    وإذا كانت هذه الحبكة تبدو لك مملّة، فذلك لأنها مملّة بالفعل. ووفقاً للنقّاد، فإن غياب الحبكة يشكل عنصراً أساسياً في أفلام أوزو. وبسبب هذا الغياب، يتمتّع المشاهد بالمساحة الكافية للاستمتاع بالصور البصرية الواسعة والتأمّل فيها. وربّما تكون لقطات أوزو المتجمّدة هي الأكثر غموضاً في تاريخ السينما. فهي تجهّز المشاهد لشيء ما على وشك الحدوث، كما تُظهِر مرور الوقت ووحدة الإنسان والطبيعة وعالمية التجربة الإنسانية.
    وفي هذا الفيلم أيضا، تظهر لقطة لمزهرية في لحظة حاسمة عندما تبدأ الإبنة في قبول حتمية زواجها. وبدلاً من التركيز على تعبيرات وجهها أثناء هذا التحوّل، يعطّل أوزو رحلة السرد ويستبدلها بصورة المزهرية الموضوعة أمام نافذة شبكية مع ظلال متمايلة لأشجار خيزران. وقد أراد المخرج بهذه الحركة غير المألوفة حثّ المشاهد على تخيّل مشاعر الفتاة بوضع نفسه مكانها. وعندما تعود الكاميرا إلى وجهها وهي على وشك البكاء، يختبر المتلقّي طبيعة هذه العاطفة بنفسه.
    نقّاد السينما تنافسوا في تقديم تفسيرات أخرى لظهور المزهرية في هذا الفيلم. بعضهم رأى أنها تثير تأمّلا أعمق في زوال الحياة، بينما قال آخرون إن المزهرية تمثّل تأمّل الزِن في التغيير وعدم الثبات. وهناك من قال إن المزهرية عنصر تعسّفي أراد به المخرج منع المشاهد من هدر عواطفه في المشهد بشكل مبالغ فيه.
    وبشكل عام، يمكن أن تحمل المزهرية في هذا الفيلم معاني مختلفة ومتفاوتة. ووجودها في الفيلم يوضّح براعة أوزو في التقاط المشاعر والعلاقات الإنسانية المعقّدة. ومن خلال هذا التفصيل البسيط، يدعونا إلى التأمّل في حتمية التغيير والطبيعة الزائلة للحياة. وبينما يجتهد المتلقّون في تفسيراتهم، يتعرّفون أكثر على أسلوب أوزو المتفرّد في صناعة الأفلام وقدرته الكبيرة على إشراك المشاهدين بل وحتى استفزازهم وإرباكهم.
    وقد لاحظ بعض السينمائيين أن بُنية أيّ فيلم لأوزو هي بنية دائرية، بمعنى أنه إذا ظهرت شخصية في بداية الفيلم فستظهر أيضا في نهايته. وهذا البناء الدائري هو أحد الأسباب العديدة التي تجعل أفلامه "مقنعة شعورياً". وعندما يحدث "الفعل"، حتى لو كان مجرّد حديث بين شخصين، فإنه يحدث عادةً في منتصف المشهد وتظلّ الكاميرا في الغرفة حتى بعد مغادرة الشخصيات لها.
    والصراع الكبير في أفلام أوزو هو صراع بين البيئات أو الأجيال. ففي البيئة الجديدة لا يستطيع الآباء قضاء وقت كافٍ مع أطفالهم، ولا ترغب الإبنة في تكوين أسرة وعيش حياة مستقلّة. وكلّ هذه تجليّات لمشكلة واحدة تتمثّل في أن اليابانيين المعاصرين لا يستطيعون التعايش مع محيطهم وطبيعتهم.
    سينما أوزو معروفة بعالميّتها وبقدرتها على جذب الجمهور الأجنبي بطريقة لا توصف. وبفضل توظيف أسلوبه المتسامي أو المتأمّل، يمكن للقطة بسيطة لآنية أزهار أن تجعل شخصا يشعر بالحزن، وللقطة لجبل أن تجلب الهدوء، وللقطة داخل غرفة أن تشرح المزيد عن ثنائية الأجيال التي ظهرت بعد الحرب العالمية الثانية.
    وفي جميع أفلام أوزو، يبدو المجتمع الياباني في حالة صراع بين ثقافة الزِن والقيم الغربية. وهذا أمر طبيعي إذا ما أخذنا في الاعتبار الحياة الشخصية لأوزو وتأثيرات الزِن على أفكاره.
    وخلال مسيرته كمخرج والتي التي امتدّت لأكثر من ستّة عقود، عاش أوزو حياة طبيعية نسبيّا، لكنه لم يتزوّج أو ينجب أطفالا. وقد خدم في جيش بلاده أثناء الحرب العالمية الثانية وعاش مع والدته حتى وفاتها. وعلاقته بوالدته وذكرياته عن الحرب واضحة في أفلامه.
    يقول أحد النقّاد: إن مشاهدة أفلام أوزو أشبه بحضور معرض لفنّان عظيم. فكلّ لوحة مختلفة، ولكن كلّ واحدة منها هي بوضوح نتاج نفس اليد. كان يتعمّق في قلوب وعقول شخصياته حتى نشعر أننا نعرفهم عن قرب. وكلّما شاهدت له فيلماً، شعرت بالهدوء وبأن كلّ شيء في هذا العالم سيكون على ما يرام بطريقة أو بأخرى ومهما كانت الظروف. ويضيف: إن أسلوب أوزو المتسامي لا يقرّبني من الله أو الدين بالضرورة، بل يجعلني أدرك استمرارية الحياة والتدفّق الأبدي للكون، وهذا أفضل ما يمكن أن يقدّمه فيلم على الإطلاق".
    في الفترة الأخيرة من حياته صقل أوزو فنّه كثيرا لدرجة أنه لم يعد يبدو فنّا على الإطلاق. ويمكنك أن تجد صدى لأعماله وفلسفته في أعمال مخرجين آخرين مثل اندريه تاركوفسكي وبريسون وأنجيلوبولوس وشريدر وعبّاس كياروستامي وغيرهم.

    Credits
    nippon.com
    sensesofcinema.com