الأربعاء، سبتمبر 17، 2025

الطريق إلى أوكسيانا/1


في عام ١٩٣٧، نشر الرحّالة والمستكشف الانغليزي روبرت بايرون كتابه "الطريق إلى أوكسيانا"، الذي وثّق فيه رحلاته في الشرق الأوسط وأفغانستان وبلاد فارس. واعتُبر الكتاب من أكثر كتب الرحلات تأثيرا.
كان الهدف من رحلة بايرون زيارة الكنوز المعمارية في المنطقة، والتي كان على دراية واسعة بها، كما يتّضح من ملاحظاته على طول الطريق. وقد اختلط بايرون مع السكّان المحليين وتفاوض على وسائل النقل، بما في ذلك السيّارات والخيول والحمير، لنقله أثناء رحلته. كما واجه الحرّ والبرد والجوع والعطش.
كلمة "أوكسيانا" في عنوان الكتاب تشير إلى الاسم القديم للمنطقة الواقعة على طول الحدود الشمالية لأفغانستان. وقد شبّه أحد الكتّاب أهميّة الكتاب في أدب الرحلات بأهمية كتاب "يوليسيس" في الرواية وديوان "الأرض اليباب" في الشعر. بينما وصفه آخر بأنه "تحقيق في أصول الفنّ الإسلامي مقدّم في أحد أكثر كتب الرحلات تسليةً في العصر الحديث".
في الكتاب يأخذ بايرون القرّاء في رحلة شيّقة عبر بلدان الشرق الأوسط وآسيا الوسطى خلال أوائل القرن العشرين، يمزج فيها بين عين المؤرّخ وروح الرحّالة. وما يرويه ليس مجرّد مذكّرات رحلة، بل نسيج غنيّ من التجارب الإنسانية، حيث يجوب قلمه الآثار القديمة والأسواق الصاخبة، مجسّدا السحر الخالد للأراضي البعيدة والسعي الدائم وراء المعرفة والجمال.
وقد قدّمت رحلاته الواسعة منظورا فريدا لمناطق كانت، حتى ذلك الوقت، غير مألوفة إلى حدّ كبير للجمهور الغربي. ومن المؤسف أن مسيرة بايرون الواعدة انتهت مبكّرا بوفاته عن عمر يناهز 35 عاما خلال الحرب العالمية الثانية. لكن إرثه ما يزال ماثلا للعيان من خلال كتاباته المُلهِمة.
لم تكن العمارة، بالنسبة لبايرون، مجرّد مبانٍ، بل كانت تاريخا حيّا وسردا محفورا في الحجر والطوب. ومن خلال تفاعله مع المؤرّخين والحرفيين والسكّان المحليين، سعى إلى كشف خبايا الزمن والاقتراب من جوهر الحضارات التي ازدهرت في تلك المناطق.
وأفغانستان، خاصّة، تشكّل فصلا آسرا في رحلة المؤلّف الطويلة. فبينما كان يجوب المناظر الطبيعية الوعرة في ذلك البلد، وجد نفسه في أرض كانت أصداء التاريخ فيها تتردّد في الهواء وبدت وكأنه لم يمسسها العالم الحديث تقريبا. وتبرز هيرات، إحدى أهمّ مدن أفغانستان التاريخية، كنقطة محورية في رواية بايرون.
فيما يلي بعض فقرات مترجمة من الكتاب مع بعض التصرّف..

  • دمشق، 12 سبتمبر
    هنا الشرق في فوضى عارمة. تطلّ نافذتي على شارع ضيّق مرصوف بالحصى، اختفت منه رائحة التوابل والبهارات مؤقّتا في نسمة هواء باردة. إنه الفجر. الناس يتحرّكون، أيقظهم صوت المؤذّن العالي من مئذنة صغيرة في الجهة المقابلة، وأجابه آخرون من بعيد. سيبدأ بعد قليل صخب الباعة ووقع حوافر الخيل.
    الجامع الأموي، رغم ترميمه بشكل كامل بعد حريق عام ١٨٩٣، يعود تاريخه إلى القرن الثامن. رواقه الكبير متناسق وذو إيقاع مهيب على طريقته الإسلامية المجرّدة. وبينما تُلقي الشمس بجزء منها على الجدار الخارجي للمسجد، يمكن للمرء أن يتخيّل أوّل روعة من الأخضر والذهب، عندما أشرقت الساحة بأكملها بتلك المشاهد السحرية التي ابتكرها الخيال العربي لتعويض جفاف الصحراء الأبدي.

  • دمشق، 13 سبتمبر
    انضمّ إلينا شابّ يهودي. حدث هذا لأن في الفندق نادلا يشبه هتلر، وعندما علّقت على ذلك، انفجر اليهودي والمدير والنادل نفسه في نوبة ضحك. وبينما كنّا نعبر أرضا مغبرّة خرّبها القصف الفرنسي، رأينا عرّافا يخطّ علامات على صينية رمل، بينما كانت امرأة فقيرة وطفلها النحيل ينتظران خبرا عن مصير الطفل. وعلى مقربة منّا كان عرّاف آخر يجلس بلا مبالاة.
    انحنيت. وضع قليلا من الرمل في راحة يدي وطلب منّي أن أنثره على الصينية. ثم رسم ثلاثة أسطر من كتابة غامضة على الرمل، وراجعها مرّة أو مرّتين. وتوقّف وهو يفكّر، ثم نطق بهذه الكلمات: لديك صديق تحبّه ويحبّك. سيبعث إليك بعد أيّام بمبلغ من المال لتغطية نفقات رحلتك. ثم سينضمّ إليك لاحقا. أتمنّى لك رحلة موفّقة".

  • بعلبك، 18 سبتمبر
    بعلبك هي انتصار الحجر. الحجر له لون الخوخ ومعلَّم بالذهب المحمر وذو ملمس مرمري. والفجر هو الوقت المناسب لرؤيته؛ للنظر إلى الأعمدة الستّة، عندما تتألّق الألوان الذهبي والخوخي والأزرق بإشعاع متساوٍ. حتى القواعد الفارغة التي لا تحمل أيّ أعمدة لها هويّة حيّة تباركها الشمس إذ تواجه أعماق السماء البنفسجية.
    أُنظر إلى الأعلى، إلى هذه الأعمدة الضخمة، إلى التيجان المكسورة والكورنيش الكبير، كلّها تطفو في الزرقة. أُنظر فوق الجدران، إلى بساتين الحور الخضراء ذات السيقان البيضاء، ومن فوقها إلى لبنان البعيد، بريق من البنفسجي والأزرق والذهبي والوردي. أُنظر على طول الجبال إلى الفراغ؛ إلى الصحراء، ذلك البحر الصخري الخالي. اِرتشف الهواء العليل، لامس الحجر بيديك، ثم انعطف، أيها السائح، إلى الشرق.

  • بغداد، 27 سبتمبر
    بغداد هي العاصمة التي يتوقّعها المرء من هذه الأرض المفضّلة إلهيّا. إنها كامنة في ضباب طيني. نزلنا في فندق يديره آشوريون، أناس بائسون وذوو طباع حنونة، ما زالوا في حالة من الخوف على حياتهم. وكان هناك شخص واحد فقط، شابّ سريع الغضب يُدعى داود، رفع أسعار جميع السيّارات المتّجهة إلى طهران ووصف قوس المدائن بطريقة رائعة.
    ليس من المريح أن نتذكّر أن بلاد ما بين النهرين كانت ذات يوم غنيّة وخصبة بالفنّ والابتكار، ومضيافة جدّا للسومريين والسلوقيين والساسانيين. لكن في القرن الثالث عشر دمّر هولاكو نظام الريّ. ومنذئذٍ وحتى اليوم، ظلّت هذه البلاد أرضا محرومة من ميزة الطين الوحيدة، وهي تخصيب النباتات.
    المتحف هنا محروس، ليس لحماية كنوز أور، بل خشية أن يتلف الزوّار نُحاس خزائن العرض بالاتكاء عليها. ولأن المعروضات ضئيلة الحجم، كان من المستحيل رؤية كنوز أور. على الجدار الخارجي، نصب الملك فيصل لوحة تذكارية لغيرترود بيل. ظننت أن فيصل أراد أن يقرأ الناس النقش، فتقدّمت لأفعل. وعندها صاح بي أربعة رجال شرطة وجرّوني بعيدا. سألت مدير المتحف عن سبب ذلك. فأجابني بحدّة: إذا كنتَ قصير النظر، يمكنك الحصول على إذن خاص".
    كان المال في انتظاري هنا، كما أنبأني العرّاف في دمشق.
  • ❉ ❉ ❉


    ❉ ❉ ❉

  • كرمنشاه، 29 سبتمبر
    على طول الطريق المؤدّي إلى خانقين، هبّت علينا عاصفة غبار حارقة، ولاح في الأفق صفّ من التلال. ثم اجتزنا منحدرا صغيرا وعدنا إلى السهل. كان هذا يحدث كلّ خمسة أميال، حتى أعلنت واحة من الخضرة القاحلة عن دخولنا للمدينة.
    توقّفنا في قصر شيرين ساعة أخرى، بينما منحتنا الشرطة تصريحا لطهران. وامتدّت أمامنا بانوراما شاسعة من سفوح التلال المستديرة حول أطلال الساسانيين، متلألئةً هنا وهناك بأضواء كهرمانية. ومن بعيد، ارتفعت سلسلة جبال شامخة أصبحت في النهاية أسوارا حقيقية.
    انطلقنا صعودا وهبوطا عبر الهواء النقيّ المنعش إلى سفوح الجبال، ثم صعدنا إلى ممرّ بين قمم صنوبرية متعرّجة امتزجت بزخارف النجوم. وعلى الجانب الآخر كانت "كاريند"، حيث تناولنا العشاء على أنغام الجداول والصراصير، مطلّين على حديقة من أشجار الحور المغسولة بالمطر.

  • طهران، 2 أكتوبر
    لم يكن السائق يرغب في المبيت في همدان، بل أراد النوم في قزوين. كان كطفل يفضّل دمية على أخرى. ولإنهاء الجدل الذي بدأ يشارك فيه موظّفو الفندق، ذهبت إلى "تك بستان" صباحا. لا بدّ أن أكثر من نحّات قد عمل في كهوف هذه البلدة. للملائكة فوق القوس وجوه قبطية وستائرهم منخفضة ورقيقة كميدالية برونزية من عصر النهضة. وفي الخلف يقف تمثال ضخم لملك راكب، تُذكّرنا قسوة ملامحه بنصب تذكاريّ للحرب الألمانية. هذا نموذج ساسانيّ بامتياز. ومن الصعب تصديق أن هؤلاء الفنّانين كانوا فُرسا على الإطلاق.

  • طهران، 4 أكتوبر
    كانت رحلة اليوم مليئة بالبهجة. صعدنا وهبطنا الجبال، وتجاوزنا السهول الشاسعة، وتصاعدت دوّامات هائلة من الغبار تتراقص كالشياطين فوق الصحراء، فأوقفت سيّارتنا الشيفروليه، ولمحنا من بعيد جرّة فيروزية اللون تتمايل على حمار. كان صاحبها يسير بجانبها مرتديا أزرق باهتا. ولما رأيته تائها في تلك البقعة الصخرية الشاسعة، فهمت لماذا يفضّل الفرس اللون الأزرق.
    دعانا الوكيل المحلّي لشركة النفط الأنغلوفارسية، لتناول العشاء. استقبلنا في غرفة بيضاء طويلة ذات سقف مطليّ ببراعة. حتى الأبواب والنوافذ كانت مغطّاة بقماش موسلين أبيض. الأثاث يتألّف من سريرين نحاسيين مزوّدين بدعّامات من الساتان وحلقة من الأرائك الصلبة المنجّدة بالأبيض. وأمام كلّ منها طاولة صغيرة عليها أطباق من البطّيخ والعنب والحلويات. كان يقوم على خدمتنا رجل ذو لحية رمادية يرتدي معطفا أصفر فاتحا، وكان مضيفنا يناديه "آغا".

  • تبريز، 11 أكتوبر
    بينما كان مرافقي يلتقط لي صورة وأنا جالس في الخلف، تقدّم شرطي وقال إن التصوير ممنوع. كان السائق آشوريّا من بلدة قريبة من بحيرة أرومية، وبجانبه كانت تجلس معلّمة آشورية عائدة من مؤتمر تبشيري في طهران. وقد أمتعتنا بشرائح من السفرجل. كانا مهتمّين جدّا بمعرفتي بمار شمعون، ونصحاني ألا أتحدّث عن ذلك في تبريز، نظرا للاضطهاد الذي يعاني منه المسيحيون في ذلك الوقت.

  • مراغة، 16 أكتوبر
    سافرنا هذا الصباح لأربع ساعات، وبدت بحيرة أورمية في الأفق كشريط أزرق وفضّي، تمتدّ من خلفه الجبال. أبراج الحمام المربّعة المثقوبة من الأعلى منحت هذه القرى مظهرا محصّنا. بينما أحاطت بها أشجار كروم العنب وبساتين السنجق ذات الأوراق الرمادية الضيّقة وعناقيد الفاكهة الصفراء الصغيرة.
    مراغة نفسها ليست بتلك الجاذبية. شوارعها العريضة المستقيمة شُقّت عبر الأسواق القديمة، ما أفقدها طابعها المميّز. رافقنا طفل يتكلّم الفارسية إلى المسؤولين المعنيين الذين أرونا بدورهم قبرا جميلا متعدّد الأضلاع من القرن الثاني عشر، يُعرف باسم ضريح والدة هولاكو. وهو مبنيّ من طوب أحمر أرجواني مزخرف بنقوش.

  • فيش بوبليك، 19 أكتوبر
    غيوم صغيرة تلمع في زرقة السماء. ارتفعنا فوق منحدرات هادئة ومنها إلى مشهد بانورامي لأرض رملية متدحرجة تؤوي قرى ذات أبراج. ومن بعيد رأينا تلالا مخطّطة باللونين الوردي والليموني ومحاطة بأزهار الليلك وسرب من الفراشات الصفراء. وفي الأسفل، اقترب منا فارس وقال: السلام عليكم".

  • نيشابور، 14 نوفمبر
    طلع الفجر كابتسامة اخترقت سماء الليل العاصف الممطر. أكلت قطعة جبن وجزءا من صدر دجاجة شهرود. وانبثقتْ من الصحراء المظلمة شجرتا صفصاف ومقهى شاي. اجتمعنا حول نار، بينما كان أهل المكان يحاولون بيعنا خرَزا وسغائر ونردا مصنوعا من حجر أخضر ناعم. كانوا يرتدون بلوزات روسية قرمزية وينحدرون من أصول جورجية.
    ومن مسافة رأينا غيوما تحلّق منخفضة. القرى النادرة هنا هجرها الناس. وحول قلاعها المدمّرة تتجمّع تلك الأشكال القديمة: خلايا النحل الذائبة تحت المطر. كانت تذوب هكذا منذ فجر التاريخ، وعندما يأتي الصيف تنهض من جديد. تتدفّق الجداول في فيضان قرمزي عبر الأزقة المسوّرة إلى الحقول، ومنها إلى الصحراء. ويصبح المسار نفسه مجرى مائيّا.

  • غازار جاه، 15 نوفمبر
    رأيت هنا لآخر مرّة زهور القطيفة والبتونيا تزيّن بركة في الفناء الخارجي للفندق، مع ورود بيضاء نمت بكثافة كالثلج. وبدلا من صفير رياح الخريف، ترفرف الحمائم حول أشجار الصنوبر وتقضي العائلات عطلتها في الجناح ذي العشرة أضلاع. ومن الشرفة الخارجية، يبدو السهل الواقع بين الجبال والنهر بحراً من الخضرة المتنوّعة والجداول الفضّية. بينما ترسل الشمس حرارة معتدلة من سماء زرقاء وينتشر ذلك العطر الخافت المراوغ الذي استقبلنا أوّل مرّة.