وقد أضاف الرسّام تفاصيل دقيقة إلى اللوحة لنعرف المزيد عن نوعية حياة العاملَين وتعبهما البدنيّ والظروف القاسية التي يتحمّلانها. فمثلا، تبدو ملابسهما ممزّقة وبالية، وهناك قِدر طبخ ورغيف خبز محترق وملعقة الى اليمين. وقد استخدم الرسّام ضربات الفرشاة الخشنة التي تنقل الملمس والحركة، لإظهار الطبيعة الجسدية الشاقّة للعمل. ويمكن أن نستنتج من تأثير الضوء والقبّعة التي تحجب جزءا من وجه أحد العاملين أنهما يعملان في جوّ حارّ ولا يحظيان بالكثير من الراحة أثناء تأدية عملهما.
وبالإضافة الى أن اللوحة تشير ضمناً الى حياة العمّال ومعاناتهم، فهي أيضا تؤكّد على كرامة العمل الشريف وأهمية الطبقة العاملة للمجتمع، وتُذكّر بدور الفنّ في الحياة وتدعو إلى التعاطف مع أفراد الطبقات البسيطة.
في القرن التاسع عشر، شهدت فرنسا تحوّلات كبيرة على أكثر من صعيد، إذ أعادت الثورة الصناعية تشكيل المجتمع، فنشأت المصانع وتوسّعت المدن وانتقل الكثير من الناس من المناطق الريفية إلى المراكز الحضرية. وأدّى هذا التحوّل الى تغيير المدن والهياكل الاجتماعية وأسلوب حياة الناس وعملهم وشيوع ظواهر الفقر والاستغلال.
وبسبب تناول اللوحة للتجربة الإنسانية اليومية، رأى فيها بعض النقّاد تحدّيا للفنّ التقليدي الذي غالبا ما كان يصوّر مواضيعَ مثالية وأسطورية. كما مثّل هذا العمل تحوّلا جوهريا من الرومانسية إلى الواقعية.
كان كوربيه يريد من وراء رسم العمّال والمزارعين والفقراء إظهار الحياة كما هي. وكثيرا ما كانت مواضيعه غير جذّابة، لكنها إنسانية بامتياز ومليئة بالرسائل السياسية والاجتماعية. وقد شكّلت صوره نقلة نوعية في عالم الرسم وأثّرت على العديد من الفنّانين الذين أتوا بعده، ومهّدت الطريق لحركات فنّية مستقبلية، حيث بدأ الفنّانون باستكشاف واقعهم الاجتماعي وتصويره.
وعندما عُرضت اللوحة لأوّل مرّة، تباينت ردود الأفعال على مضمونها، فأشاد البعض بصدقها وواقعيّتها، بينما وجدها آخرون "قاسية وغير مصقولة". ولأن النقّاد اعتادوا على الاحتفاء بالجمال والعظمة والتصوير المثالي للمناظر التاريخية المهيبة، فقد واجهوا صعوبة في تقبّل تصوير كوربيه الخام للعمل وتحدّيه معايير الفنّ في عصره.
كان اختياره التركيز على العمّال تصرّفا ذا دلالة. وبانفصاله عن الفنّ التقليدي والمعايير الأكاديمية السائدة في عصره، كان يحوّل التركيز من القصص الشخصية إلى الحياة الواقعية. وبتصويره النضال الجماعي للعمّال، أراد الفنّان الارتقاء بمكانتهم وتسليط الضوء على معاناتهم وعلى دورهم الأساسي في بناء المجتمع.
أثناء الحرب العالمية الثانية، تعرّضت هذه اللوحة للتلف مع أكثر من 150 لوحة أخرى، عندما قصفت قوّات الحلفاء مركبة بالقرب من دريسدن بألمانيا في فبراير 1945. وبذا أُزيل رمز فنّي مهم للطبقة العاملة ومُحيت قطعة أساسية من تاريخ الفنّ وحُرمت الأجيال من رؤيتها. وقد بُذلت جهود لإعادة إحياء جوهر اللوحة باستنساخها وطباعتها. ومع ذلك، لا شيء يُغني عن النسخة الأصلية المفقودة. ومن المفارقات أن تدمير اللوحة حدث أثناء نقلها لحمايتها بشكل أفضل، لكنها لم تصل أبدا إلى وجهتها المقصودة.
كان كوربيه ذا شخصية قويّة وقد شعر بالراحة لتحدّيه الأعراف القديمة في الرسم، على الرغم من استمرار اعتراض البعض على نهجه طوال حياته. في بعض الحالات كانت له روابط بالاشتراكية، وكان يعتبر نفسه يساريّا من الناحية السياسية.
المعروف أنه نشأ في الريف الفرنسي. ورغم نجاحه في باريس، إلا أنه لم يهجر جذوره الأصلية. كان يشعر بسعادة حقيقية في الأرياف، ثم عاد إليها بعد سنوات قضاها في العاصمة. ورسم العديد من اللوحات لسكّان القرى الذين نشأ معهم وهم يمارسون حياتهم اليومية.
❉ ❉ ❉
❉ ❉ ❉
تبدأ سوناتا بيتهوفن للبيانو رقم 14، المعروفة أكثر باسم سوناتا ضوء القمر ، بلحن آسر وحزين يبدو وكأنه يهمس بالفقد أو الشوق. وفي الحركة الأخيرة، يتصارع الملحّن مع اضطراباته الداخلية وقراراته العاصفة.
قال "فرانز ليست" عن هذه السوناتا إنها "زهرة صغيرة بين هاويتين". ووصف هيكتور بيرليوز الحركة الأولى منها "الأداجيو" بأنها "مشهد ليلي يتردّد فيه صوت شبحيّ. إنها إحدى تلك القصائد التي لا تعرف اللغة البشرية كيف تصنّفها". وقال عنها عازف البيانو الشهير إدوين فيشر: لا أرى ضوء قمر رومانسيّا في هذه الموسيقى، بل قصيدة رثاء".
هذه القدرة على التعبير عمّا لا يمكن وصفه أو الإحاطة به تجعل من الموسيقى الكلاسيكية جسرا إلى مشاعر قد نعجز عن تسميتها ولغةً عالمية تخاطب المستمعين عبر الثقافات والعصور المختلفة.
❉ ❉ ❉
○ في مساءٍ هادئ، كانت الأمواج تتحدّث همسا على شاطئ البحر، لا يسمعها أحد سوى القمر، ولا يفهم لغتها إلا من سكنت أرواحَهم الحيرة. قالت موجة صغيرة بخجل: لماذا نركض دائما نحو الشاطئ ثم نعود أدراجنا؟ ألسنا متعبات من هذا العبث؟" ردّت موجة أخرى أكبر سنّا، بصوت عميق مليء بالحكمة: نحن لا نركض عبثا يا صغيرة، نحن نكتب رسائلنا على الرمل ثم نمحوها لنكتب من جديد".
سألت الموجة الصغيرة: ولمن نكتب؟ لا أحد يقرأ". ابتسمت الكبرى وقالت: نكتب لمن فقد صوته بين الضجيج، لمن ينظر إلى البحر ويظنّ أنه صامت. البحر لا يصمت، نحن الأمواج نهمس له بأسرار كلّ قلب جلس أمامنا ونسرد له حكايات العابرين".
صمتت الموجة الصغيرة للحظة، ثم همست بحزن: وهل هناك من يسمعنا حقّا؟" وجاء صوت الريح من بعيد، هامسا بدفء: نعم، هناك من يجلس عند البحر، لا ليراقب الأمواج، بل ليسمع ما تقوله وليبوح لها بما في صدره. ذاك هو المستمع الحقيقي. وإن رحل، نحفظ كلماته في صدورنا إلى الأبد".
وفي لحظة ارتطام الموجة بالرمل، ساد الصمت. لكن البحر ظلّ يتكلّم. مجهول
○ أعتقد أن الناس عندما يقدّمون لك النصيحة، فإنهم في الواقع يتحدّثون إلى أنفسهم في الماضي. فالذي يُقدّم النصيحة غالبا ما يستقيها من تجاربه وتأمّلاته السابقة، كأنه يخاطب نسخة أصغر منه، يشاركه الحكمة التي اكتسبها على مرّ السنين. وهذا تذكير بأننا جميعا نتشكّل من خلال تجاربنا. وعندما نتناصح، فإننا نشارك جزءا من أنفسنا مع الآخرين. أوستن كليون
○ كان الرسّام الإيطالي جورجيو دي تشيريكو حالة مثيرة للاهتمام. أعماله المبكّرة على وجه الخصوص "مثل التي فوق" هي التي تعرّفه وهي التي أثّرت على الفنّانين الآخرين. وممّا يُؤثر عنه قوله في تفسير لوحاته: أحيانا يحدَّد الأفق بجدار، ومن وراء الجدار يرتفع ضجيج قطار سرعان ما يختفي. الدقّة الهندسية للميادين او الساحات تكشف لنا أحيانا عن حنين الى اللانهائيّ. كما نكتشف جوانب كنّا نجهل وجودها تماما عندما تواجهنا ملامح معيّنة من العالم. ونكتشف فجأة أسرارا كامنة لم نكن نراها من قبل ولم نكن نشعر بها، لأن حواسّنا لم تتطوّر بما فيه الكفاية. الأصوات الخافتة تخاطبنا من قريب، لكنها تبدو لنا كأصوات من كوكب آخر". ج. مايرز
○ إن تحويل الصمت إلى لغة هو فعل من أفعال الكشف عن الذات، وهو ما يبدو دائما محفوفا بالمخاطر. لقد آمنت دائما بأن ما هو أهم بالنسبة لي يجب أن يقال وأن يشارك، حتى مع احتمال أن يشوَّه أو يساء فهمه، وأن الكلام يفيدني أكثر من الصمت. وأكثر ما ندمت عليه هو صمتي. لكننا جميعا نتألّم بطرق مختلفة طوال الوقت، والألم إما أن يتغيّر أو ينتهي. أما الموت فهو الصمت الأخير. ايدي لورد
○ عندما يسألني الناس: من ترشّح لجائزة نوبل للأدب هذا العام؟"، عادة ما أذكر نفس الاسم الذي طالما ردّدته مرارا واعتبرته كاتبي المفضّل: هاروكي موراكامي.
العوالم التي تشكّل قصص هذا الكاتب سوريالية وتقوم على الرمزية والأحلام، وشخصياته تنفّذ أفعالها وفق مسار قائم على التنجيم. بمعنى آخر، تفترض رحلة الشخصيات أن تنمو في عالم مشوّه وشفّاف وقاسٍ أحيانا. وهو يستخدم حيوانات سحرية، غالبا ما تكون ناطقة، كمرشدين أشبه ما يكون بدانتي عبر المقاطع الحاسمة من العالم الآخر للوصول إلى حالة أسمى من الوعي والنضج. ومن هنا الغابات والأكواخ النائية والآبار والحانات شبه المهجورة والأحلام الداخلية في رواياته.
أعتقد أن أعمال موراكامي الأدبية تستحقّ جائزة نوبل لقدرتها الاستثنائية على تجسيد محدودية المجتمع الحديث وإحساسه بالنقص، باستخدامه هياكل سردية تجمع بين التراث الأدبي والرمزية الحالمة. إن وصف الواقع والمجتمع من خلال الأدب ليس بالأمر الهيّن، وفعل ذلك من خلال حلم متنكّر في صورة أدب أمر أصعب. ماتي برستي
○ يُقال إن النازية لم تكن شذوذا تاريخيا، بل إن بذورها موجودة في كلّ مكان، وتتجلّى في العلاقات بين مختلف أصحاب السلطة وضحاياهم. كما أن احتمالية الفاشية كامنة في حياتنا العائلية وفي علاقاتنا العاطفية. لارس آير
Credits
gustave-courbet.com
beethoven.de
gustave-courbet.com
beethoven.de