الجمعة، أغسطس 22، 2025

نصوص مترجمة


  • في وقت مبكّر من عام 1504، عبّر ظهير الدين محمّد بابَر لأوّل مرّة عن رغبته في استكشاف الهند، أو هندوستان كما كانت تُسمّى. وواتته الفرصة لتحقيق ذلك بعد سنوات، عندما سيّر حوالي 12 ألف جندي بسرعة مذهلة إلى شمال الهند، واستدرج السلطان إبراهيم لودي إلى معركة في شمال دلهي وهزم جيش الأخير واستولى بسرعة على دلهي وأغرا.
    يقول بابَر في مذكّراته: في أوّل وصولنا إلى أغرا، كانت هناك كراهية وعداء ملحوظان بين سكّانها وشعبنا، حيث فرّ الفلاحون والجنود خوفا من رجالنا. وقدّم لنا النبلاء، بمن فيهم أحفاد ملوك هندوس سابقين، مجوهرات نفيسة من بينها ماسة كوهينور الشهيرة التي يزيد وزنها عن مائة قيراط".
    لكن تلك المجوهرات البرّاقة لم تُرضِ بابَر. كان همّه الأوّل بناء دولة. كما لم يكن راضيا عن هندوستان نفسها. ويشير إلى ذلك بقوله: هندوستان بلد ينقصها البريق. شعبها يفتقر إلى المظهر الحسن، لا علاقات اجتماعية ولا زيارات، لا عبقرية ولا كفاءة ولا مُثل. في الحرف اليدوية والعمل، لا شكل ولا تناسق، لا منهجية ولا جودة، لا خيول ولا كلاب جيّدة، لا عنب ولا شمّام ولا فواكه فاخرة، لا ثلج ولا ماء باردا، لا خبزا طيّبا ولا طعاما مطبوخا في الأسواق، لا حمّامات ساخنة، لا جامعات، لا شموع ولا مشاعل ولا حوامل شمعدانات".
    كان لدى هندوستان العمالة الرخيصة، والذهب والفضّة، وأنظمة حساب متطوّرة تتضمّن قياسات للوقت والوزن والمسافة. وكانت تلك أيضا المرّة الأولى التي صادف فيها بابَر قبائل مستقرّة وأراضي شاسعة مزروعة بمختلف أنواع المحاصيل. وكان هذا مختلفا تماما عن الحال في موطنه بوادي فرغانة.
    أكبر التحدّيات التي واجهها بابَر لم تأتِ من أهل الهند، بل من أفراد حاشيته نفسها. فقد أتلف طقس الهند الرطب الأسلحة والكتب والملابس والأواني والمنازل. فبعد وصوله بفترة وجيزة، تسبّبت موجة حرّ شديدة في أغرا في موت الكثيرين. ونظرا لهذه الظروف البيئية غير المريحة، أصبح معظم نبلاء وشجعان المغول غير راغبين في البقاء في الهند.
    ودعاهم بابَر لعقد اجتماع معه قال فيه: بدون أراض وتابعين، لا يمكن تحقيق السيادة والقيادة. وبفضل جهود سنوات عديدة ومواجهتنا للمشاقّ والسفر الطويل والزجّ بنفسي وبجيشي في المعارك والمذابح المميتة، هَزمنا بفضل الله هذه الجموع الغفيرة من الأعداء لنستولي على أرضهم الشاسعة. والآن، ما المبرّر الذي يدفعنا إلى التخلّي عن بلدانٍ خاطَرنا من اجلها بحياتنا؟ هل كنتم تريدون منا البقاء في كابول لنكابد معا لعنة الفقر المدقع؟!"
    في عام ١٦٠٥، أصبح الأمير سليم جهانغير حفيد بابَر إمبراطورا على الهند بعد تمرّده على والده، الإمبراطور أكبر. كان جهانغير مهووسا بشكل خاص بالأحجار الثمينة والنادرة، ولم يكن يرضى بأن يمتلك أيّ شخص حجرا له قيمة حقيقية. وكان صائغه في أغرا رجلا يُدعى هيراناند، كان يجلب المجوهرات إلى البلاط، وكان جهانغير يزور منزله بانتظام ليشتري منه. كان الأخير مهتمّا خاصّةً بالأحجار التي يزيد وزنها عن خمسة قراريط. وتشير السجلات إلى أنه لم يكن يدفع سوى ثلث قيمتها السوقية، لكن التجّار كانوا يحصلون على مزايا وامتيازات أخرى مقابل أسعار بضائعهم المخفّضة. سوديف شيت
  • ❉ ❉ ❉


    ❉ ❉ ❉

  • تلعب الأشجار دورا مهمّا في أدب الإغريق والرومان القدماء. فمن أشجار البلّوط القويّة في ملحمتي الإلياذة والإنيادة، إلى حوريّات الرماد في قصيدة هسيود، وإلى الظلّ الهادئ لشجرة الزان في أشعار فيرجيل وهوراس، تبدو الأشجار وكأنها تحمل الخبرة الشعرية والمعلومات الثقافية المهمّة.
    في ملحمتي هوميروس، تمارس الأشجار دورا حيويّا في فهم المشهد الشعري المتخيّل. ومن بين الأشجار التي تحتلّ مراتب متقدّمة في إعجاب هوميروس، تحظى الصنوبر والزيتون باحترام كبير. فمثلا بُنيَ سرير زفاف أوديسيوس من شجرة زيتون حيّة تقف كعلامة فريدة ومستقرّة لموضوع الإخلاص في القصيدة ككل. وفي وصف كهف كاليبسو في الأوديسّا، تنمو أشجار الآلدر والحور والسرو العطر بوفرة حول مدخل الكهف وتوفّر مسكنا آمنا لعدد كبير من الطيور.
    وفي المشهد الخيالي للملحمتين، كثيرا ما ترتبط الأشجار بالجبال، ما يعكس الحقائق الجغرافية لعالم هوميروس. إذ يشار إلى القمم بأنها "ترتجف بأوراق الشجر". ويقارن هوميروس بين ضجيج المعركة والدمار الذي تجلبه وبين عاصفة الرياح في البرّية على منحدرات الجبال المُشجرة.
    وكما تتعارك الرياح الشرقية مع الرياح الجنوبية في وديان الجبال لزعزعة أخشاب الغابات العميقة كالبلّوط والرماد والكورنيل، فإن هذه الأشجار تضرب بفروعها بعضها البعض بضجيج صاخب ومشوّش.
    وفي شعر هسيود، تظهر صور لأشجار متساقطة كالبلّوط والتنّوب، بفعل اندفاع وعنف الرياح الشمالية التي تجوب الريف في منتصف الشتاء. بل إن الغابة المورقة بأكملها تئنّ في وجه هجوم الرياح. وتستخدم الشاعرة سافو أيضا صور الرياح والأشجار لوصف إحساس شخصي: لقد هزّ الحبّ عقلي مثل الريح التي تضرب أشجار البلّوط على الجبل".
    ويواصل شاعر العصر الفضّي ستاتيوس هذا التقليد، حيث يذكر ما لا يقلّ عن اثني عشر نوعا من الأشجار. وهنا تلعب المفاهيم الثقافية الإضافية دورا مهمّا. فمثلا يُطلق على شجر الرماد المستخدم في صنع الرماح اسم "الشجر المقدّر له أن يشرب دماء الحرب الكريهة"، ويطلق على شجر البلّوط القويّ اسم "المنيع"، ويطلق على شجر التنّوب الصالح للإبحار اسم "المغامر"، ويطلق على شجر الدردار الداعم اسم "المضياف لكروم العنب" لأن ظلّه الخفيف كان مثاليّا لنموّ العنب ونضجه على جذعه وأغصانه.
    وفي حكاية "بيراموس وتيسبي" عن الحبّ المحبَط، يروي اوفيد كيف تحوّل التوت من الأبيض إلى الأحمر، وكيف اختلط الدم من الجروح التي أحدثها العاشقان بنفسيهما وتناثر على جذور الشجرة، ما جعل الفاكهة التي كانت بيضاء ذات يوم تتحوّل، وإلى الأبد، الى قرمزية.
    كما يروي قصّة السهل المرتفع الخالي من الأشجار الذي حوّله الموسيقيّ أورفيوس إلى بستان أخضر، ويسرد ترنيمة شعرية عذبة لأشجار كالبلّوط والحور والغار والبندق والرماد والتنّوب والدلب وغيرها. ثم يسرد الشاعر قصّة حورية الغابة بومونا، المُحبّة للحدائق والبساتين، والتي اشتُقّ اسمها من الكلمة اللاتينيةpomum ، التي تعني فاكهة أو تفّاحة.
    وفي أشعار فيرجيل، ترمز شجرة الدلب للخطاب الفلسفي والرومانسية، بينما ترتبط شجرة البلّوط القويّة بالدين والحرب. وهكذا فإن الأشجار تشكّل روابط حيّة مع الماضي الكلاسيكي. جوزف ماكمهون
  • ❉ ❉ ❉

  • في مارس عام ١٨٧٧، غادر يوليسيس غرانت الرئاسة بسمعة ملطّخة. كان الأمر صعبا على رجل خرج من أنقاض الحرب الأهلية الأمريكية متمتّعا بمكانة وشهرة لا تشوبهما شائبة، سواءً للصديق أو العدو. إلا أن عقدا من الفساد والرشوة وانتقالا غير مسبوق للثروات، ترك وصمة عار على إرث بطل الحرب الذي أصبح رئيسا. كان غرانت رجلا طيّبا، وكان من بين أكثر الرجال أخلاقا وصدقا الذين خدموا هذا المنصب على الإطلاق. لكنه كان يعاني من إعاقة بسبب فضائله.
    كان بسيطا في السلم والحرب، وكانت كلمته عهده. كان لطيفا مع الضعفاء، رحيما بالمهزومين، واثقا بقدرته على الغفران. وقد غرست فيه والدته المتديّنة منذ صغره إيمانا راسخا بإمكانية خلاص الفرد. ونتيجة لذلك، تجلّت رحمته بلا حدود. قال ذات مرّة بفخر: لقد جعلت من ثقتي بالإنسان قاعدة في حياتي بعد أن يتخلّى عنه الآخرون".
    لكن تلك الرأفة غالبا ما تجاوزت حدود الحكمة. ففي مستنقع واشنطن القاسي، جعلت هذه الثقة غرانت يبدو شخصا ساذجا أكثر منه رجل دولة ماكرا. ونتيجة لذلك، امتلأت إدارته بعدد لا يُحصى من المسؤولين الأنانيين غير الأخلاقيين وغير المؤهّلين، الذين مارسوا الفساد دون رادع.
    كان غرانت، البالغ من العمر آنذاك 57 عاما، قد ضحّى برفاهه المالي من أجل الخدمة. وفي تلك الأيّام، كانت هناك قاعدة تُلزم العسكريين بالتنازل عن معاشاتهم التقاعدية إذا سعوا إلى الترشّح لمناصب عامّة. لذا عندما غادر غرانت البيت الأبيض، لم يكن معه من المال ما يكفي لعيش حياة معقولة.
    واتضح أن عليه البحث عن طريقة لكسب دخل. وفي تلك الأيّام، لم تكن هناك صفقات مع نتفليكس، ولا مقاعد مربحة في مجالس إدارة الشركات، ولا حتى أتعاب باهظة لإلقاء المحاضرات، كما هو الحال اليوم. وممّا زاد الأمور سوءا أن غرانت نفسه كان لديه سجل حافل بالمشاريع الفاشلة، ما أظهر بوضوح عدم فهمه لمفهوم المال والأعمال.
    ومع ذلك قرّر ان يستثمر كلّ ما كان يملكه، أي حوالي 100 ألف دولار، في صندوق يديره ابنه وخبير مالي. لكن سرعان ما انهارت شركته وأصبح الرئيس السابق على شفا الإفلاس. وبعد فترة وجيزة، تلقّى غرانت خبرا مروّعا عن إصابته بسرطان الحنجرة وأبلغه الأطبّاء بأنه لم يتبقَّ له من الحياة سوى عام واحد.
    وبمساعدة الكاتب مارك توين، تمكّن من الحصول على صفقة لنشر سيرته الذاتية. ولأشهر، جلس غرانت المنهك، منحنيا على كرسي ومرتديا قبّعة صوفية بسيطة ووشاحا، يكتب مذكّراته. كان يكتب ليل نهار رغم الألم المبرح والمتكرّر. ويتذكّر أحد مساعديه أن شرب الماء البسيط بالنسبة له كان أشبه ما يكون بشرب الرصاص المنصهر.
    كان توين يراقب بدهشة غرانت المريض وهو يُخرج روايته صفحة تلو أخرى. وكان على يقين بأن قوّة روحه ستُبقي جسده متماسكا حتى يُنجز المهمّة. وكان مقتنعا بأن ذلك الهدف الأسمى هو الذي أطال عمره وأبقاه على قيد الحياة. وقد ثبتت صحّة توقّعه، فقد توفّي غرانت بعد أيّام قليلة من إكماله المخطوطة النهائية. ديريك بوست

  • Credits
    dokumen.pub
    h-net.org

    الأربعاء، أغسطس 20، 2025

    في مديح العزلة


    ○ لكي تعيش وحيدا، يجب أن تكون إما وحشاً أو إلهاً!
    أرسطو

    في حين تبدو العزلة شأنا شخصيا للغاية، إلا أنها ترتبط بتجربتنا الجماعية كبشر. فعندما نمارس الانفراد بأنفسنا، فإننا نشارك في تقليد يمتدّ عبر الثقافات والقرون. ونحن نتفاعل مع أسئلة لطالما حرّكت الحياة البشرية منذ بداياتها: من أنا حين لا يراقبني أحد؟ وما الذي يهمّ أبعد من الإنجاز والقبول؟ وماذا يعني أن تكون إنسانا كاملا؟
    في ثقافة تكافئ العمل، يُعدّ السكون فعل تمرّد. وفي عالم مدمن على الضوضاء، يعدّ اختيار العزلة خيارا جذريّا. وفي مجتمع يطالبنا بإصلاح أنفسنا وتطويرها وتحسينها، فإن أشجع ما يمكننا فعله هو التوقّف والتنفس والشعور.
    العزلة لا تَحلّ جميع مشاكلنا، لكنها تكشف أيّها حقيقي. تُظهر لنا من أصبحنا ومن يمكننا أن نكون. لأن الشخص الذي كنتَ تتجنّبه، والذي يظهر في الصمت، قد يكون الشخص الذي كنت تبحث عنه طوال الوقت.
    والعديد من الشخصيات البارزة في التاريخ ارتقوا إلى مكانتهم الأسطورية مستغلّين منافع فترات العزلة الطويلة. فالأربعون يوما وليلة التي قضاها المسيح في صراعه مع الشيطان في الصحراء دفعته إلى ذروة روحانيّته. ووجد لاو تزو وبوذا وموسى في العزلة الرؤى الأخلاقية العظيمة التي حدّدت حياتهم. وسعى ماركوس أوريليوس وفريدريك نيتشه ورالف إيمرسون وألبير كامو وهنري ديفيد ثورو وغيرهم الكثير من الفلاسفة، إلى ملاذ في العزلة لصقل شخصياتهم وتطوير رؤاهم الفلسفية، بعيدا عن التأثير المُفسد للمجتمع.
    كتب نيتشه يقول: عندما أكون بين أناس كثيرين، أعيش كما يعيشون ولا أفكّر كما أفكّر حقّا. وبعد فترة، أشعر كما لو أنهم يريدون نفيي عن نفسي وسلب روحي. ولا أستعيد طبيعتي الخيّرة إلا بعد أن أذهب الى البرّية".
    الاستمتاع بالعزلة نوع من الفرح الصافي والهادئ، لا علاقة له بالأمور الماديّة أو المصالح. وينبغي أن تكون نوعا من الممارسة الروحية. وهي لا تتطلّب طموحات جامحة، بل قلبا منفتحا. ولا تتطلّب زهدا، بل هدوءا وضبطا للنفس. ولا تتطلّب اعتزالا في الجبال، بل لامبالاة بالشهرة والثروة.
    الرحّالة ريتشارد بيرد أمضى شتاءً وحيدا في أنتاركتيكا، حيث قاسى بردا قارسا وليالي طويلة مظلمة، وعلى حدّ تعبيره "عزلة لم تستطع أيّ قوّة على الأرض رفعها لستّة أشهر على الأقل". ولكن بدلا من أن يكون وحيدا، كانت هذه الفترة الشديدة من العزلة هي الأكثر تحوّلا في حياته. كتب في كتابه "وحيداً" يقول: نعم، العزلة أعظم مما توقّعت. إحساسي بالقيم يتغيّر، والعديد من الأشياء التي كانت في ذهني سابقا تبدو الآن وكأنها تتبلور".
    ولاحظ آرثر شوبنهاور أنه لا يمكن للإنسان أن يكون على سجيّته إلا ما دام منعزلا. ومن لم يحبّ العزلة، فلن يحبّ الحرّية، لأنه لا يكون حرّا حقّا إلا عندما يكون وحيدا. القيود حاضرة دائما في المجتمع، كرفيق لا خلاص منه. وكلّما كان الإنسان عظيما، صَعُب عليه تحمّل التضحيات التي يتطلّبها أيّ تواصل مع الآخرين".
    ويقول جان بول سارتر: تخيّلوا أنفسنا وحدنا في حديقة. نستمتع بتجربتنا مع الأشجار والشمس والطيور، فهي موجودة لنا وحدنا. ولكن بعد ذلك يجلس شخص آخر على المقعد المقابل لنا. ندرك أننا أصبحنا الآن شيئا في وعي شخص آخر، وهذا يجلب لنا خيبة الأمل ويقلّل من حرّيتنا ويعطّل تواصلنا المثالي مع البيئة". وهذا ما قصده سارتر بعبارة "الجحيم هو الآخرون". أو كما كتب: بمجرّد ظهور الآخر أصبحُ في موقف إصدار أحكام على نفسي كموضوع، لأنني أبدو للآخر كموضوع".
    في العزلة، نكون أحرارا في الاستمتاع بما يحيط بنا دون وعي مزعج بأننا مجرّد كائنات في مجال إدراك شخص آخر. نحن أحرار في فعل ما نريد وقتما نريد. يمكننا أن نفكّر أو نشعر بأيّ شيء ونتبع شغفنا دون اكتراث بما سيفكّر به الآخرون عنا أو بما إذا كنا نلبّي توقّعاتهم أو مطالبهم.
    الفيلسوف الإنغليزي وليام هازليت اعتاد القيام بنزهات طويلة بمفرده، لمجرّد الاستمتاع بحرّية العزلة، وكتب يقول: إن روح الرحلة المنفردة هي الحرّية، الحرّية الكاملة للتفكير والشعور والفعل، كما يشاء المرء. تحبّ أن يكون كلّ شيء على طريقتك؟ هذا مستحيل إلا إذا كنت وحدك".
    حرّية العزلة قِيمة بحدّ ذاتها، ولكنها أيضا وسيلة لاكتشاف الذات والنموّ الشخصي. فعندما نكون وحدنا، وفي غياب القيود الاجتماعية التي تقيّد تجربتنا، يمكننا الانخراط فيما أسماه فيليب كوخ التناغم مع الذات الذي يعرّفه بأنه "التدفّق الحر، أي تدفّق الأفكار والرغبات والعواطف إلى الوعي دون أيّ رقابة أو تحكّم".
    ويضيف: إن انفتاحنا على كامل نطاق عواطفنا وأفكارنا ورغباتنا وصورنا الداخلية يضعنا على تماسّ مع جوانب ذواتنا التي ندفنها تحت الأقنعة الاجتماعية التي نرتديها عندما نكون مع الآخرين. لكن في العزلة، نكون أحرارا في خلع هذه الأقنعة، إذ لا يوجد من يستمع إلينا أو يستجيب لنا سوى صوت ضمائرنا".

    ❉ ❉ ❉


    ❉ ❉ ❉

    الاستمتاع بالعزلة سلوك أصيل، كطريقة بعض الناس في التعامل مع تعقيدات العالم، لا عجلة ولا بطء، يستمتعون بجمال زهرة متفتّحة وينتظرون صفاء المطر المتساقط، لا تعميهم الشهرة ولا يخدعهم النفاق. إنهم متواضعون، لطفاء وغير متنافسين. ومع ذلك يتمتّعون بشعور من الكبرياء والجرأة.
    ويقول توماس ميرتون: ليس كلّ البشر مدعوّين للانطواء، لكن كلّ البشر يحتاجون إلى ما يكفي من الصمت والعزلة في حياتهم ليتمكّنوا من سماع صوتهم الداخلي العميق، ولو من حين لآخر. وعندما لا يُسمع هذا الصوت الداخلي تصبح الحياة بائسة ومرهقة".
    ومع ذلك، فإن الأصوات التي نسمعها في العزلة ليست دائما ممتعة. أحيانا يتضمّن التناغم مع الذات استعادة صدمات الماضي وظهور مشاعر مؤلمة ومخاوف وقلق كنّا نتجنّبها بانغماسنا في ملهيات المجتمع.
    وفي حين أن الصراعات والمشاعر التي تظهر في العزلة قد تسبّب المعاناة، فإن ظهورها يمنحنا فرصة لمواجهتها بوعي. وإذا اغتنمنا هذه الفرصة للجلوس في صمت والسماح لمخاوفنا ومشاعرنا المؤلمة بالسيطرة علينا، يمكننا معالجتها وحلّها والتخلّص منها وشفاء مشاكل الصحّة النفسية المزمنة التي سبّبتها.
    يقول ألبير كامو: عندما يتعلّم الإنسان كيف يبقى وحيدا مع معاناته وكيف يتغلّب على شوقه للهروب، فلن يتبقّى له الكثير ليتعلّمه".
    هذه القوّة العلاجية للعزلة ليست مبالغة. فقد طوّر طبيب ياباني شكلا من أشكال العلاج النفسي قائما على مبادئ الزِن، تخلّى فيه عن التدخّل العلاجي والدوائي لصالح توفير بيئة من العزلة للمريض، حيث يُجبر على مواجهة المعاناة التي كان يتجنّبها.
    وعند وصول المريض العصابي إلى المستشفى، يجب عليه أن يستريح تماما في الفراش لمدّة تصل إلى أسبوع. وخلال هذه الفترة، لا يُسمح له بالاختلاط بأيّ شخص آخر. ويجب عليه الامتناع عن القراءة أو الكتابة أو التدخين أو استخدام الهاتف أو الاستماع إلى الراديو أو مشاهدة التلفزيون. ويُترك المريض وحيدا مع مرضه حتى يصبح هو ومرضه شيئا واحدا، وعليه أن يتقبّل مرضه في عزلة تامّة.
    كانت معظم ثقافات الماضي، حتى تلك التي كانت الحياة فيها أكثر جماعيةً، مدركةً لفضائل الوحدة العظيمة، بل كانت في بعض الأحيان تقدَّرها أكثر من الاختلاط الاجتماعي. كان الأفراد يقضون فترات طويلة من العزلة لتسهيل التحوّلات الحياتية الكبرى. وكانت رحلات العزلة جزءا لا يتجزّأ من طقوس العبور التي يمرّ بها الصبيّ المراهق إلى مرحلة الرجولة.
    فحسب عادات بعض هنود المكسيك، عند بلوغ الطفل السادسة من عمره، يؤخذ ليعيش في البرّية بمفرده لبضعة أشهر ويختفي مع الأغنام دون أن يرى أيّ شخص آخر قبل أن يعود. وأيّ شيء يحتاجه للبقاء على قيد الحياة يجب أن يصنعه أو يبحث عنه بنفسه. كان يصطاد لطعامه ويحمي نفسه وأغنامه من الحيوانات المفترسة ويواجه خوفه من المجهول والظلام. وبذا يحقّق التناغم مع ذاته ويواجه وحدته وقلقه وتبعاتهما ويحوّل عقله من عدوّ عنيد إلى صديق موثوق.
    والعزلة الطقوسية هي مقدّمة لحقيقة جوهرية، وهي أنه مهما كانت حياتنا الاجتماعية قبليّة، فإننا في الرحلة وحدنا ويجب أن نتعلّم أن نستمدّ القوّة والعزاء من الداخل. يجب على الصبيّ أن يتعلّم الاعتماد على ذكائه وشجاعته وأسلحته، وإلا هَلك.
    يقول توماس وولف: أن تكون حيّا يعني أن تكون في جسد، وأن تكون في جسد يعني أن تكون منفصلا عن جميع الأجساد الأخرى. وأن تكون منفصلا يعني أن تكون وحيدا. وهذا ينطبق على كلّ مخلوق، وينطبق على الإنسان أكثر من أيّ مخلوق آخر. قدره أن يكون وحيدا وأن يدرك هذا. وعظمة الإنسان تكمن في تمركزه داخل ذاته وانفصاله عن عالمه. وحده من يكون وحيدا يستطيع أن يدّعي أنه إنسان. هذه هي عظمة الإنسان، وهذا هو عبئه".
    لطالما كانت العزلة شائعة في كلّ ثقافة معروفة عبر التاريخ، باستثناء ثقافتنا اليوم. وهذا يعكس نفور الناس العميق من العزلة. فبدلا من اعتبارها هبة ثمينة، يراها الكثيرون عبئا يجب تحمّله للتخفّف أحيانا من كثرة الارتباطات الاجتماعية. والأسوأ من ذلك، أنه يُنظر إليها كشيء يجب التهرّب منه.
    فعندما لا يكون الآخرون متواجدين معنا، يحدّق معظمنا في الشاشات لصرف انتباهنا عن وحدتنا والأصوات التي قد نسمعها في الصمت. ولعلّ هذا الهروب الجماعي من العزلة هو السبب في أن المرض والضعف النفسي أصبحا القاعدة الجديدة. فكما لاحظ فيلسوف القرن السابع عشر بليز باسكال فإن "جميع مشاكل البشرية تنبع من عدم قدرة الإنسان على الجلوس بهدوء في غرفة بمفرده".

    Credits
    zingtrain.com

    الاثنين، أغسطس 18، 2025

    نصوص مترجمة


  • تقول أسطورة إن الشاعر العظيم لي باي لقي حتفه غرقا في سنّ الثانية والستّين، بينما كان يحاول وهو ثمل لمسَ انعكاس القمر في نهر اليانغتسي. لي هونغ بين، المحاسب السابق ذو الوجه الحزين، يعرف حقائق كثيرة عن لي باي، ويعتقد أنه هو نفسه مستنسَخ حيّ وحقيقيّ من الشاعر المشهور.
    يقول وهو ينحني في كشك تذكاري مهجور رمّمه ككوخ ناسك في مركز لي باي الثقافي، في تشينغليان، مسقط رأس الشاعر الكبير في مقاطعة سيتشوان غرب الصين: أنا واثق من ذلك. بعد 1300 عام، أنا الشاعر الوحيد الذي يعيش في مسقط رأس لي باي ولا يزال يكتب الشعر. بل إنني أوقع أعمالي باسم لي باي".
    بعض الدول، مثل جورجيا، محظوظة ببناء تماثيل لشعرائها أكثر من الملوك أو المحاربين. وفي قيرغيزيا، يقضي الشعراء المتدرّبون سنوات في حفظ قصيدة واحدة من ملحمة ماناس الوطنية المكوّنة من نصف مليون سطر. ومع ذلك، لم أجد الشعر منغمسا في الحياة العامّة أكثر ممّا هو في الصين. إذ تُعدّ الولادات والزيجات والوفيات مناسبات للعائلات لتأليف الشعر. ويتعلّم الأطفال القوافي القديمة في مناهجهم الدراسية الأساسية. وتزيِّن أبوابَ منازل المدن والقرى أبيات شعرية منقوشة على ورق أحمر لجلب الفأل والحظ السعيد.
    ماو تسي تونغ نفسه قيل إنه خاض غمار كتابة الشعر ذات مرّة. ومع ذلك، يُعدّ وجود شاعر حقيقي متفرّغ لكتابة الشعر اكتشافا نادرا في أيّ مكان.
    ولد لي باي في القرن الثامن الميلادي في آسيا الوسطى ونشأ في سيتشوان الحالية. وقد عاصرَ تمرّدا وحربا أهلية وفقداناً للأمن في امبراطورية تانغ. ثم طُرد الشاعر من البلاط الإمبراطوري لتجرّؤه على خلع حذائه المتّسخ أمام الملك. وفيما بعد أُلقي القبض عليه بتهمة الخيانة، وحُكم على هذا الرجل البدائي بالمنفى، وإن كان أُعيد لاحقا الى وطنه.
    للوصول إلى تشينغليان، سافرت شمالا من مدينة تشانغدو العملاقة، مرورا بقرى دُمّرت وأُعيد بناؤها منذ زلزال عام ٢٠٠٨ المروّع. عبرتُ أنهارا خضراء دافئة على جسور المشاة. كان ذلك في نهاية الصيف. كانت الأيّام جليدية، وكان المزارعون قد نشروا محصولهم من الذرة ليجفّ على جوانب الطرق.
    كانت تلك هي الصين التي تخيّلت فيها لي باي البدائي مرتاحا، وليست "صين" الصورة النمطية العالمية لأرضيات المصانع الآلية. أما الشاعر لي هونغ بين فقد رأيت فيه فنّانا كسر الصور النمطية البالية للطائفية الشرقية والتمرّد الفردي الغربي. بول سالوبيك
  • ❉ ❉ ❉

  • نظرا لحجم خطره، ينبغي أن يكون الذكاء الاصطناعي موضع اهتمام كلّ البشر. صحيح أن الجميع لا يمكن أن يصبحوا خبراء في الذكاء الاصطناعي، لكن يجب أن نتذكّر كلّنا أنه أوّل تقنية في التاريخ قادرة على اتخاذ القرارات وابتكار أفكار جديدة بنفسها. فيمكن له مثلا توليد أفكار جديدة بشكل مستقلّ، وفي مجالات تبدأ بالموسيقى ولا تنتهي بالطبّ.
    الغراموفون عزفَ موسيقانا والمايكروسكوب كشفَ أسرار خلايانا. لكن الغراموفون لم يستطع تأليف سيمفونيات جديدة، ولم يستطع المايكروسكوب تصنيع أدوية جديدة. الذكاء الاصطناعي قادر بالفعل على إنتاج الفن وتحقيق اكتشافات علمية بمفرده.
    وفي العقود القليلة القادمة، من المرجّح أن يكتسب القدرة على خلق أشكال حياة جديدة، إما بكتابة شيفرة جينية أو باختراع شيفرة غير عضوية. الذكاء الاصطناعي قد يغيّر مسار تاريخ جنسنا البشري، بل مسار تطوّر جميع أشكال الحياة. يوفال هاراري
  • ❉ ❉ ❉


  • شاهدت مؤخّرا فيلم "إلى البرّية" بعد أن سمعت عنه منذ سنوات. الفيلم مقتبس من رواية لكاتب يُدعى جون كراكوير، وتدور أحداثه حول شابّ إسمه "كريس" يتخلّى عن حياته العصرية وعن كلّ شيء، ويذهب للعيش في البرّية. وعندما انتهيت من مشاهدة الفيلم، لم أصنّفه ذهنيّا بين الجيّد أو السيّئ. ولم أفكّر فيما إذا كنت سأوصي به، أو فيما سأقوله عنه إذا سألني أحد.
    كان قرار بطل الفيلم بالاختفاء لفترة وترْك كلّ التوقّعات والراحة أشدّ وقعا عليّ مما توقّعت. ليس لأنني فعلت شيئا كهذا من قبل، بل لأنني أعرف الشعور الذي يحرّكه. فقد ساورني نفس هذا الشعور وأنا أخرج من مكتبي كلّ يوم في الساعة الخامسة مساء. وشعرت به في صباحات الأحد عندما تكون المدينة ما تزال نصف نائمة. وشعرت به وأنا أحجز رحلة "هروب" لعطلة نهاية الأسبوع، ثم أقضي معظم الوقت مستلقيا على سرير في الفندق أتصفّح هاتفي الجوّال!
    كان كريس يمضي أيّامه في جمع التوت البرّي وصيد السناجب والأرانب. كما يخصّص وقتا لقراءة مؤلّفيه المفضّلين والأكثر تأثيرا: جاك لندن وليو تولستوي وهنري ديفيد ثورو وسواهم. وداخل أعمال هؤلاء الكتّاب كان يجد شخصيّته الحقيقية. يقول نقلا عن ثورو: ذهبت إلى الغابة لأني أردت أن أعيش حياة مدروسة، وأن أتجنّب كلّ ما ليس حياة، فلا أكتشف عندما أموت أنني لم أعِش".
    بحلول الوقت الذي وصل فيه كريس إلى ألاسكا وحيدا في حافلة مهجورة في أعماق البرّية، كان شيء ما قد تغيّر. في البداية، كانت الوحدة جميلة وهادئة، بل رومانسية. كان يعيش الحلم الذي سعى إليه لسنوات. لكنْ شيئا فشيئا، أصبح ذلك الصمت مختلفا. وما كان يوما حرّية بدأ يتحوّل إلى وحدة. وهذا ما جعلني أتساءل: ماذا لو تبيّن أن ما كنتَ تسعى إليه لا تريده حقّا؟ ماذا لو وصلتَ إليه ولم يكن العلاج الذي توقّعته؟!
    الفيلم لا يعطيك إجابة، بل يترك هذا السؤال عالقاً في ذهنك، ينتظر أن تلاحظه. وهو يذكّرك بهذه الأشياء الصغيرة على طول الطريق: ليس من الخطأ ألا تعرف بالضبط ما تريده وأن ترغب في الاختفاء في بعض الأحيان. لكن كن حذرا، أحيانا الشيء الذي تبحث عنه ليس هو الشيء الذي تحتاجه.
    أثناء الفيلم، يلتقي الشابّ في طريقه ببعض الأشخاص: زوجان في منتصف العمر يفتحان له قلبيهما دون أحكام مسبقة، مزارع لا يراه مجرّد متجوّل، بل شخصا ذكيّا وكفؤا ويستحقّ السعادة، ورجل مسنّ يعيش وحيدا بعد أن فقد زوجته قبل عقود، فيعرض عليه أن يتبنّاه.
    وهؤلاء يذكّرونك بأن المعنى ليس "في الخارج" فقط، أي في البرّية البكر، بل هو في الناس أيضا. ربّما كان كريس يسعى نحو شيء نقيّ، لكنه في الطريق ظلّ يكتشف أن التواصل الإنساني ليس بالسمّ الذي كان يظنّه. أحيانا كان هو الدواء الذي يحتاجه.
    تلك المشاهد في الفيلم جعلتني أفكّر في حياتي، في الصداقات التي تلاشت لانشغالنا، والأحاديث العائلية التي تقلّصت إلى رسائل نصّية سريعة. في الماضي، كنّا أنا وعمّي نتحدّث لساعات خلال زيارات العطلات عن الموسيقى والسياسة وغيرهما. الآن نتبادل رسائل صوتية قصيرة لا تتجاوز الدقيقتين بضع مرّات في السنة.
    وبعض المَشاهد الأخرى في الفيلم فتحت لي آفاقا من الذكريات القديمة عن أمسيات هادئة بعد المطر وأنا مستلقٍ على سريري أستمع إلى أيّ أغنية يتصادف أن الراديو يبثّها. كان نوعا من الهدوء الذي اخترته، لا النوع الذي فُرض عليّ. ذكّرني وقت كريس في الحافلة وهو يدوّن يومياته بينما يتراكم الثلج في الخارج، بذلك الشعور؛ ذلك الهدوء الاختياري.
    الكثيرون ممّن شاهدوا فيلم "إلى البرّية" شعروا برغبة في فعل ما فعله كريس، أي التخلّي عن كلّ شيء، ثم السفر والهروب. أما أنا فكان الأمر عكس ذلك تماما. لقد دفعني هذا الفيلم إلى الاهتمام أكثر بالحياة التي أعيشها، بالأشياء الصغيرة: محادثة دافئة مع أمّي على الهاتف، طبق طعام سريع التحضير في منتصف الليل، العثور على مقعد في القطار خلال ساعة الذروة.
    كان كريس في الماضي مستاءً من المجتمع ومن محيطه، لكنه آمنَ لاحقا بأن "بهجة الحياة تحيط بنا من كلّ جانب، وكلّ ما نحتاجه هو تغيير نظرتنا للأمور". وفي النهاية أصبح مدفوعا بفكرة أن السعادة لا تتحقّق إلا بالمشاركة، فقرّر العودة إلى منزله لأنه لم يجد من يشاركه إيّاها في البرّية.
    وقصّة كريس تذكّرنا بأن التخلّص من مشاكل الحياة لا يحلّها هروب المرء من نفسه. فالهروب لا يمحو ما تحمله في داخلك، بل قد يزيده صخبا. وأعتقد أن سبب تعلّقي بالفيلم هو ما تركه وراءه بعد انتهائه: لحظة هدوء، وتذكير بأنه لا بأس أحيانا من ألا نمتلك جميع الإجابات. نيد فيرن

  • Credits
    Tldrmoviereviews.com
    learn.outofedenwalk.com