الأربعاء، يناير 10، 2024

محطّات


  • لا شيء يثير الحزن كالمدن. قد يكون للريف رومانسيّوه مثل بايرون وشيللر وكولريدج وشيللي وغيرهم الذين ربطوا صراعات الطبيعة الملحمية بأهمّ مآسي النفس البشرية. لكن الكئيبين والحزانى لا يهتمّون بالمآسي الكبيرة ولا بالمباهج، بل بأمزجة المَلل والحزن والعزلة.
    التجربة الأدبيّة للفضاء الحضريّ هي في كثير من الأحيان تجربة الشوق والحنين والاغتراب والفقد. وبالنسبة للكتّاب، فإن المدينة ليست مجرّد مكان، بل قصّة رمزية وتجسيد مادّي لعدم تكرار التجربة ولحتمية الاضمحلال.
    لكلّ مدينة تاريخية علامتها المميّزة من الحزن المرتبط بها بشكل لا يمكن محوُه، وكلّ مدينة مرتبطة بالندوب التي تحملها. فمثلا تتمتّع لشبونة بحنينها المرتبط بإرث المدينة المتمثل في اختفاء البحّارة والمستكشفين الذين تحطّمت سفنهم بحثا عن آفاق غريبة.
    واسطنبول لديها الحزن "هوزون بالتركية"، وهو علامة فارقة من الكآبة المشوبة بالدِين والمتجذّرة في حنين المدينة إلى ماضيها المجيد. وكما كتب أورهان باموك مرّة: يواصل سكّان إسطنبول حياتهم ببساطة وسط الأنقاض، هذه الآثار هي تذكير بأن المدينة الحالية فقيرة ومرتبكة لدرجة أنها لا تستطيع ابدا أن تحلم مرّة أخرى بالنهوض والعودة إلى ما كانت تتمتّع به في الماضي من الثروة والقوّة والسلطة والثقافة."
    في كلّ حالة، يخلق الحزن جغرافيا نفسية تشكّلها أسماء الشوارع. والطرق التاريخية والقناطر والأزقّة الخلفية تتضاعف كمظاهر للغياب والفقد. والذات التي تتجوّل في المدينة الحزينة تحمل ثقل تاريخ تلك المدينة.
    ويصبح المشهد الحضري نوعا من الشبكة الرمزية، حيث تأخذ كلّ صورة، من القصور الى السقالات والكتل الحجرية، معنىً مجازيّا للمتجوّل الحضريّ وتحكي قصّة تاريخ انتهى بالفعل. ويصبح الفضاء الحضري، بشبكته من الارتباطات الشخصية، مقبرةً للذاكرة.
    التفاعل بين الغياب والحضور يتّخذ طابعا أكثر تأثيرا في تصوير الروائي ستيفان تسفايغ لفيينا. عاش تسفايغ اليهودي النمساوي أهوال الحربين العالميتين قبل انتحاره عام 1942، وهو يصنع قصّة أقلّ من مرثيّة: روايات عن المنفيين في المقاهي الفارغة، ومدن المنتجعات الباهتة، والفنادق المهجورة. ومع ذلك، فإن فيينا - التي كانت يوما ما عاصمة "إمبراطورية هابسبورغ القديمة التي حكمت أوروبّا ذات يوم والتي لم يشب مجدها القديم شائبة - أصبحت الآن مجرّد ظلّ لما كانت عليه قبل الحرب.
    إحدى قصص تسفايغ الأكثر إثارةً للمشاعر تحكي قصّة راوٍ يبحث عن أحد معارفه القدامى، وهو جامع كُتب عانى من السجن على أيدي السلطات في زمن الحرب. هنا مقهى فيينا النموذجيّ الخانق المليء بالدخان، ولكن المزيّن بزخارف فيينا الجديدة: أرائك مخملية وحجرة ألمنيوم لامعة. والمقهى يثير قلق الراوي الوجودي فيقول:
    كنت أدرك أنه لا بدّ أنني كنت هنا مرّة من قبل، منذ سنوات، وأن هناك ذكرى من نوع ما مرتبطة بهذه الجدران وهذه الكراسي وهذه الطاولات، وهذه الغرفة المليئة بالدخان والتي تبدو غريبة بالنسبة لي. لكن كلّما حاولت أن أحدّد تلك الذكرى، أصبحت أكثر صعوبة واستعصاءً. ومع ذلك، كنت أعلم أنني كنت هنا ذات مرّة وأن شيئا من ذاتي القديمة التي نمت منذ فترة طويلة بقي هنا بشكل غير مرئيّ، مثل مسمار مخبّأ بين الخشب. مددت يدي إلى الغرفة، وأجهدت كلّ حواسّي، وفي نفس الوقت فتّشت عن نفسي."
    ومن بين المدن الأخرى التي أصبحت في الأدب مرادفة للحزن ترييست، الميناء الواقع على الحدود بين إيطاليا وسلوفينيا والذي كان يؤوي بعض الادباء المنفيين مثل جيمس جويس وريتشارد بيرتون وغيرهما. وقد أحيا جويس ذكرى هذه المدينة باعتبارها "ترييست المحزنة"، مستغلا وجه التشابه بين اسم المدينة والكلمة الفرنسية التي تعني الحزن.
    وكاتبة الرحلات الويلزية جان موريس أصدرت قبل سنوات كتابا عنوانه "ترييست ومعنى اللامكان"، تحدّثت فيه عن تعاسة هذه المدينة التي تقع اليوم ضمن حدود إيطاليا.
    وتشرح موريس في الكتاب كيف ان هذه المدينة تثير في نفسها شعورا بالحزن وشوقا غريبا إلى شيء لا تعرفه، وكيف أن هذا الشوق ينشأ من الانفصال بين حاضر ترييست وبقايا مجدها السابق. ومثل فيينا، تغيّرت ترييست التي كانت ذات يوم مبنيّة على الطراز الهابسبيرغي وأصبحت في القرن العشرين مدينة مختلفة تماما.
    فمبانيها ذات الطراز النمساوي المجري، وساحاتها الباروكية، كلّها تشير إلى فخامة قديمة لا يمكن أن تستعيدها ترييست المعاصرة. وتضيف: إنها اليوم مجرّد ظلال لما كانت عليه في الماضي. فلم تعد القاطرات البخارية الضخمة تهسهس في المحطّة الآن، ولم يعد مدير المحطّة يرحّب بالشخصيات المهمّة ببدلته ذات الأزرار الضيّقة ولم يعد هناك قطار سريع إلى فيينا".
    وتضيف الكاتبة: ترييست تدفع المرء لأن يطرح على نفسه أسئلة حزينة، مثل لماذا أنا هنا والى أين أنا ذاهب؟ لقد ساورني هذا الإحساس عندما زرتها لأوّل مرّة وأنا في سنّ المراهقة، وما زلت أشعر به الآن وكلّما زرتها".
    ثم تقتبس عن الشاعر ووردزورث قوله: نحن البشر يجب أن نحزن عندما يختفي حتى ظلّ لشيء كان عظيما في يوم من الأيّام".
    إن الطبيعة تكرّر نفسها. ومن يمت يولد من جديد، والليل يصبح نهارا، والوحل يغذّي البذور. لكن المدن غير قابلة للاختزال والتكرار. وعندما يموت الرجال الذين بنوها، وتتقدّم مسيرات التاريخ التي تترك آثارها المعمارية على الواجهات وزوايا الشوارع والنوافير والساحات، فإن ما يبقى من المدن هو مجرّد ذكريات: علامات على عمل يد شخص ما في مكان معيّن، وجه ملاك حجريّ فوق مدخل، عمود منحني، وأشكال منحوتة في بوّابات من الحديد. وكلّ هذه التفاصيل كانت تعني شيئا لشخص ما، ولكنها الآن ليست سوى شهادات على العصور الغابرة. فالمدن التاريخية، في نهاية المطاف، هي إرث البشر الموتى.
    في فيينّا تسفايغ وفي ترييست موريس، يأتي الشعور بالحزن من الوعي العميق بالمدينة باعتبارها مستودعا وقبرا في نفس الوقت، مكانا بقي فيه شيء من الماضي، لكن مثل هذه البقايا لا تلفت الانتباه إلا إلى ما هو غائب. إنها تشير إلى الانقسام بين الماضي والحاضر، بين المدينة التي كانت والمدينة كما هي عليه الآن، تذكير بالناس الذين لم يعودوا يسكنون هناك. البيوت موجودة والسكّان لا. المدن الحزينة أجساد لكن بلا أرواح.
    في كتابه "تشريح الحزن"، يصف روبرت بيرتون الحزن بأنه صفة الفناء. وهذا الوعي بالفناء هو الذي يدفع الكتّاب إلى تجربة الكآبة الحضرية. وفي حزنهم على ما لا يمكن أن يعود، فإنهم يندبون ما لا تستطيع الطبيعة - التي تكرّر نفسها دائما - أن تجسّده: نهاية الموت.


  • من المصطلحات المهمّة والتي يحسن أن يعرفها أيّ مترجم أو مثقّف اليوم مصطلح علم الجمال Aesthetics، وهو فرع من الفلسفة يبحث في طبيعة الجمال والفنّ والذوق. كما يستكشف الأسئلة حول طبيعة التعبير الفنّي والتجارب الجمالية والمعايير التي نحكم من خلالها على شيء ما على أنه جميل أو فنّي.
    وهناك الأنطولوجيا Ontology، وهي دراسة الكينونة أو الوجود. هذا العلم يدرس طبيعة الوجود والواقع، بما في ذلك الأسئلة المتعلّقة بوجود الأشياء المجرّدة وطبيعة الهويّة وفئات الوجود.
    أيضا هناك الديالكتيك Dialectics، وهو طريقة للتفكير أو الخطاب تتضمّن فحص وحلّ التناقضات أو التعارضات. وترتبط عادةً بعمل فلاسفة مثل هيغل وماركس، اللذين وظّفا أطرا جدلية لتحليل الظواهر الاجتماعية والتاريخية والفلسفية.
    وأخيرا النفعية Utilitarianism، وهي نظرية أخلاقية ترى أن أفضل عمل هو الذي يزيد من سعادة أو منفعة أكبر عدد من الناس. كما تؤكّد النظرية على عواقب الأفعال كأساس للتقييم الأخلاقي.

  • هاتان اللوحتان تحملان نفس الاسم: حصان خائف من البرق". لكنّ تناول كلّ من الرسّامين اوجين ديلاكروا و ثيودور جيريكو للموضوع يبدو مختلفا بعض الشيء.
    ديلاكروا كان رسّاما محترفا للخيول. وهي موضوع شائع في لوحاته. لكن هذه اللوحة من عام 1829 تبدو فريدة من نوعها من حيث انه رسم الحصان بلا فارس. وبدلا من توثيق حدث تاريخي من قبيل معركة أو حرب، اختار أن يركّز على دراسة تشريح الحيوان وإظهار خوفه.
    والدراسة تجسّد سطوة الطبيعة وتأثيرها على مملكة الحيوان. وسلوك الحصان الجامح والمضطرب هو انعكاس للقوّة التدميرية للعاصفة وأثرها الانفعالي حتى على أقوى الحيوانات. كما يمكن أن تكون اللوحة إشارة الى هشاشة الحياة ووقوف المخلوقات عاجزة أمام القوى الخارجة عن سيطرتنا.
    اللوحة رسمها ديلاكروا عام 1829 بالألوان المائية وأهداها لرسّام صديق يُدعى لوي أوغست شوايتر.
    أما جيريكو فكان فارسا ماهرا وشغوفا بالخيل وخبيرا بتشريحها. وفي عام 1813، رسم العديد من الدراسات الزيتية واللوحات النهائية، بما فيها هذه اللوحة لخيول في اسطبلات الإمبراطور في فرساي. وتُدلّل هذه اللوحات على براعة الفنّان في الملاحظة الدقيقة والطبيعة التفصيلية.
    في اللوحة يلتقط الرسّام اللحظة التي يتفاعل فيها الحصان مع صاعقة البرق التي يُفترض أن يصاحبها دويّ رعد.
    ومن الملاحظ أن جيريكو تجنّب الدراما والإثارة المبالغ فيها التي نقلها ديلاكروا في صورته، واختار أن يرسم الحصان في لقطة جانبية وبحال من الخوف والترقّب.

  • Credits
    books.google.com